“الإفطار الأخير” لعبد اللطيف عبد الحميد …. رؤية سينمائية حول الحرب والحب والفقدان والأمل
4 December، 2023
علي العقباني
شكَّلت الحرب في سورية منذ العام 2011 مادة دسمة للدراما عمومًا، وللسينما على وجه الخصوص، فلم تكد تمضي فترة قصيرة على الأحداث الدامية في سورية؛ حتى سارع المخرجون السينمائيون إلى صناعة أفلام تقارِب، أو تقول، وجهة نظر ما في الأحداث الدائرة، حتى انتهاء العمليات العسكرية نسبيًا في السنوات الأخيرة. هذه الأفلام التي نتحدَّث عنها هنا هي أفلام أنتجتها المؤسسة العامة للسينما في وزارة الثقافة السورية، وليس على أفلام أنتجت في الخارج عن تلك الأحداث، وهي كثيرة، بعضها روائي والأغلب وثائقي. فبرز خلال الحرب ما سمي فعليًّا بسينما الحرب، سواء بشكل مباشر، أو كخلفية، أو كصيرورة أو كمسير للأحداث، أو كعامل حاسم فيها ومؤثر في السياق، تلك أفلام مخرجوها سوريون، فنجد أفلام جود سعيد، وعبد اللطيف عبد الحميد، وباسل الخطيب، وأيمن زيدان، وأوس محمد، ونجدت أنزور، ناهيك عن الأفلام القصيرة الكثيرة، أو تلك الأفلام التي أنتجها الروس والإيرانيون على الأراضي السورية، والتي تلامس بطولاتهم فوق تلك الأرض.
أفلام لم يلق معظمها سُبل العرض العربي أو العالمي؛ وذلك بسبب كمية البروباغندا والخطابية والموقف عامةً من سورية، ولم يرق أغلبها إلى مستوى المأساة السورية بعمقها الإنساني والروحي والمكاني والمعيشي.
من هنا يأتي فيلم المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد “الإفطار الأخير”، ضمن خانة الأفلام التي تعتبر الحرب فيها مؤثرة في الأحداث الرئيسة فيها، أو بشكل أدقَّ تفصيل أو تفصيلات في تلك الأحداث، هي ما ساقت مسار الفيلم إلى هذا المكان أو ذاك، فتلك القذيفة التي أودت بحياة الزوجة، أو ذاك التفجير الناجم عن عبوة ناسفة في سيارة الزوج، كانا بداية ومآل الأحداث في الفيلم الذي نال عليه المخرج جائزة السيناريو في مهرجان الإسكندرية السينمائي.
يقدم الفيلم، الذي نال جائزة أفضل سيناريو في مهرجان الإسكندرية السينمائي بدورته السابعة والثلاثين، خلال أحداثه سينما عن الحرب، ومنعكساتها الإنسانية والحياتية، لكن من خلال عوالم إنسانية خاصة. فيلم عن الفقد الذي تسببه الحرب للأشخاص والأماكن، عن الذاكرة والحضور، وكذلك عن عوالم العداء والنزاعات المذهبية والطائفية في منطقة واحدة، وهي كما يراها عبد الحميد في قوله “الحروب لا تنتهي مع إعلانات وقف إطلاق النار، فإن إبداع معادلها الفني يستمرُّ لزمن طويل. فالحرب سهل أن تبدأها، صعب أن تنهيها، مستحيل أن تنساها”، لتلعب الذاكرة لعبتها في استحضار مَن غاب، وتعيده إلى الحياة بطريقة لا تخلو من أجواء سحرية وغرائبية خاصة، كما عادة عبد الحميد في معظم أفلامه، يحاول من خلالها عبد الحميد الإبقاء على الغائب حاضرًا، وربما فاعلًا في سياق الأحداث ومساراتها، إذ إن “من رحل عنك ولم يرحل منك بكامل حضوره وتفاصيله” كما يرد في الفيلم.
تدور أحداث الفيلم، الذي نال جائزة أفضل سيناريو في مهرجان الإسكندرية السينمائي، عن الحرب ومنعكساتها الإنسانية والحياتية عبر عوالم إنسانية خاصة.
في “الإفطار الأخير” يحيك سامي بدلات رائعة لرجالات السلطة، كأن البلاد ليست في حالة حرب، وكأنهم لا همَّ لهم سوى مظهرهم فقط.
الحب في الحرب
في فيلم “الإفطار الأخير” لمؤلفه ومخرجه عبد اللطيف عبد الحميد نعثر، كما هي عادته في معظم أفلامه الأخيرة خلال سنوات الحرب، على حكاية الحب في الحرب. تيمة يمكن الاشتغال عليها في حكايات لا تنتهي، تلك القصة التي تعطي روحًا للبقاء والاستمرار، في ظلِّ حضور الغائبين، وكأنهم حقيقيون بيننا نستمدُّ منهم الرغبة في الحياة والعمل والاستمرار. حيث ابتعد الفيلم بشكل واضح عن حضور الحرب كحدث أساسي فيه، وركّز على قصة الحب التي تنتهي بشكل مأساوي. فالزوجة تموت بقذيفة هاون، والزوج بتفجير سيارته من قبل إرهابي يقيم بالقرب منه.
وتدور أحداث الفيلم، الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما، حول “إفطار أخير” بما يذكر بـ “العشا الأخير” بأعظم الخيانات في التاريخ، إذ سلّم يهوذا المسيح بعد أن قبّله. اجتمع الزوجان سامي ورندة (عبد المنعم عمايري وكندة حنا)، وشعرت الزوجة، بإحساسها الأنثوي، أنه الإفطار الأخير لهما؛ لكثرة القذائف التي أطلقت على المنطقة في ذلك اليوم. وبسبب ذلك، حاولت رندة إظهار التقرّب من زوجها، فقررت تقديم أصناف شهية من الطعام، واستغلال المساحة الحميمية بينهما، قبل وقوع إحدى القنابل عليهما، عقب خروج الزوج إلى عمله. وفيه يتابع المخرج نسقًا فنيًّا سبق له تقديمه من خلال عدة محاولات سينمائية، قدم فيها سينما بسيطة وعميقة معًا، وشخصيات تتمتع بخصوصية إنسانية واجتماعية، وهو غالبًا لا يترك مسافة حادة أو فاصلة بين الحلم والواقع، من خلال الاهتمام بأدق التفاصيل والأفكار الواقعية والمشاعر الإنسانية التي تصلنا بكلِّ شفافية وصدق، وشاعرية وألم أحيانًا، وربما بمبالغة أحيانًا في إظهار الطيبة والبساطة فيها. ويتميز عبد الحميد بقدرته الخاصة على المزاوجة بين الكوميديا والتراجيديا في آن معًا. ويعتبر حضور البيئة الريفية البسيطة هي السمة الأساسية لمعظم أعماله، ورغم انتقاله لاحقًا إلى المدينة ظل يبحث عن وجوه ريفية لأفلامه، تمكنه من العودة إلى تلك الأجواء السحرية والبسيطة والجميلة طبيعيًّا وإنسانيًّا، بحسب ما يحاول قوله في معظم أفلامه.
وفي تفاصيل الحكاية يُجسدَّ الممثل عبد المنعم عمايري شخصية الإنسان البسيط الطيب المـُحب للخير، (سامي) ذلك الخياط المكسور، الذي يعيش مشاعر الفقدان بعد أن خسرَ زوجته رندا (الفنانة كندا حنا)، التي ودعته بقبلة صباحية مفاجئة مليئة بالحب والحنين، وكأنها كانت تعرف أنها القبلة الأخيرة، وتستشعر بالموت القريب منها. نبوءة الزوجة تتحقق بعد هذا الإفطار، فتموت بقذيفة طاشة. يعود الزوج إلى البيت فيشاهد زوجته ملقاة على الأرض مليئة بدمائها، والابتسامة على وجهها، طيف امرأته الراحلة يلاحقه في كل الأمكنة والحالات، مما يخلق مفارقات عديدة بينه وبين شريكته الجديدة، التي يشعر معها بأنه مطارد حتى من صورة زوجته الراحلة على جدار الصالون، أو أثناء لقائهما في المطعم أو البيت، تلفه ضحكاتها، وتطوقه يداها كلما حاول الرحيل.
يعيش الزوج في ضغوطات وجودية ونفسية كثيرةـ، ويعرض عليه صديقه أن ينزل ضيفًا على أبيه المقيم في أحد جبال الساحل السوري، رجل عجوز يلعب دوره المخرج عبد اللطيف عبد الحميد كما يحب في معظم أفلامه، والذي فقد زوجته مؤخرًا، ليجد فيه رجلًا أنتج تأقلمًا ساخرًا من الحياة؛ أسوأ من وحدته، إذ هجره أولاده إلى حيواتهم وزوجته إلى الآخرة، مشهد فانتازي أو سوريالي أو عبثي آخر، فبينما تتساقط الصواريخ والقذائف على حقله، نجده ضاحكًا لا مباليًا.
ابتعد الفيلم بشكل واضح عن حضور الحرب كحدث أساسي، وركّز على قصة الحب التي تنتهي بشكل مأساوي.
اشتعال مواقع التواصل
ثلاث لقطات سينمائية في فيلم “الإفطار الأخير” لعبد اللطيف عبد الحميد كانت كافية لتشعل مواقع التواصل الاجتماعي بحملة واسعة بين مؤيد ومعارض لظهور قبلة خاطفة على الشاشة، بين زوج وزوجته. الأولى والثانية، أو المشهد الحلمي، بعد وفاتها حين تستلقي عليه في سريره وتقبله، الأمر الذي نستغربه كثيرًا هذه الأيام، والذي حرف مسار رؤية الفيلم الإنساني والشاعري المتناسق مع شخصيات ورؤى المخرج السينمائية والحياتية، وحرف التصور الخاص الذي يمكن النظر للفيلم من خلاله. وفي هذا السياق يبدو أن الذوق الفني في عالم السينما على وجه الخصوص، تغير في السنوات الماضية، فمنذ نصف قرن، كانت المشاهد الحميمية شائعة في السينما السورية، وتمر بدون أي مشكلة، وكذلك كانت صالات السينما تشهد تقديم عروض السينما العربية والعالمية وفيها مشاهد طويلة من القبل والمشاهد الحميمة، وأغلبنا يذكر فيلم “المغامرة” أو فيلم “وجه آخر للحب” ، وغيرها من أفلام القطاعين العام والخاص، ولا سيما أفلام دريد ونهاد. بالرغم من تزايد مشاهد العنف والقتل الأفلام الحديثة، إلا أنه أصبح مشهدًا حميميًّا في سياقه الدرامي الواقعي أو الحلمي، يُثير زوابع أخلاقية تجاه صناع العمل ومنتجيه.
لغة عبد اللطيف السردية والبصرية ذات شاعرية ملفتة، فهو يبتعد عن اللعب بالصورة والاستعراض، ويذهب بكاميرته نحو متابعة الحدث من موقع المتلصص غالبًا، أو الشاهد على الأحداث، متيحًا لنا كمشاهدين التفاعل العاطفي والإنساني مع شحنات العاطفة المقدمة في الفيلم مع الشخصيات، وربما التماهي معها في هذا التفصيل أو ذاك، ورغم بعض التحفظات على التكوين النمطي لبعض الشخصيات، والمبالغة في الأحداث والخطابية المباشرة في بعض الأحيان ـ لغة وفعلًا دراميًا ومشهدية أيضًا ـ الا أن الفيلم تغلُب عليه البساطة والعمق والأداء الناعم كوميديًّا وتراجيديًّا، حتى في تلك المشاهد المفارقة، والتي وجهت انتقادها الضمني للمؤسسة الأمنية وغياب القانون، وتفشي المحسوبيات في مواجهة ظاهرتي الفساد والتطرف، والتركيز على اهتمام الأشخاص في المواقع المهمة بألبستهم وشكلهم، واستدعائهم للخياط في لحظات درامية خاصة. أو مشاهد الخياط مع صديقه الشاعر أو المثقف “كرم الشعراني” بأدائه اللافت. ولكن ربما أخذ البعض على المخرج إظهاره المثقف بهذه الصورة الكاريكاتيرية المبالغ فيها، أو تقديم خدمات للناس في الحي، حتى الذين يضمرون له الشر في داخلهم بحكم علاقاته.
خياط عبد اللطيف في “الإفطار الأخير” ظهر وكأنه عاجز إلا عن خياطة الأكفان للمقربين منه، والبدلات السوداء لرجال الأمن. سامي هنا يخيط لرجالات السلطة بدلات رائعة، ليظهروا فيها إلى العلن، وكأن البلاد ليس فيها حرب، وكأنهم لا همَّ لهم سوى مظهرهم، وكتابة عبارات الرثاء على شواهد قبور الراحلين، ومحاولة مساعدة المقربين منه من الأصدقاء والجيران. لكنه بدا عاجزًا عن حماية نفسه من الموت بعبوة ناسفة، وحياكة الكفن الخاص به، ليلاقي زوجته الراحلة في عالم آخر.
بقي أن نذكر هنا أن المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد من مواليد عام 1954. عمل ممثلًا وموسيقيًّا ومخرجًا ومغنيًا في المسرح الطلابي ومسرح المركز الثقافي. درس الأدب العربي بجامعة “تشرين” قبل أن يوفد إلى موسكو في عام 1981. تخرّج من المعهد العالي للسينما في موسكو، وفيه أنجز 3 أفلام هي: “تصبحون على خير”، “درس قديم”، “رأسًا على عقب”، وهو حاصل على عدة جوائز عن أفلامه، منها “درس قديم”، و”ليالي ابن آوى”، و”رسائل شفهية”، و”صعود المطر”، و”نسيم الروح”، و”قمران وزيتونة”، و”ما يطلبه المستمعون”، و”العاشق”، و”مطر أيلول”، و”أنا وأنت وأمي وأبي”، و” طريق النحل”، و”عزف منفرد”. وفيلمه “الطريق” حاز مؤخرًا ثلاث جوائز مهمة في أيام قرطاج السينمائية الأخيرة، وتحظى أفلامه غالبًا بإشادة من نقاد ومعجبين، وانتقادات واسعة من آخرين.
لغة عبد اللطيف عبد الحميد السردية والبصرية ذات شاعرية ملفتة، إذ يبتعد عن الاستعراض واللعب بالصورة، متابعا الحدث من موقع المتلصص أو الشاهد على الأحداث.
مخرج وناقد سينمائي سوري