الإمبراطور عاريًا: الطبقة واللون والعصيان في أفلام أحمد زكي
13 June، 2023
ليفيا ألكسندر
ترجمة أزدشير سليمان
أتذكَّر جيدًا المرة الأولى التي شاهدتُ فيها فيلمًا لأحمد زكي، كان ذلك في عام 1998، كان الوقت متأخرًا، وكنت أجلس في شقَّتي في الدقِّي لأخذ استراحة من واجبات اللغة العربية في تلك الليلة، بينما تعرض القناة الثانية فيلم (زوجة رجل مهم، إنتاج 1988)، من إخراج القدير محمد خان، يدور الفيلم على خلفية الأحداث المضطربة في أواخر السبعينيات، ترسيخ نظام سياسي واجتماعي جديد أنشأته سياسة الانفتاح التي تبنَّاها الرئيس السادات آنذاك، ومظاهرات الخبز عام 1977، والقمع العنيف للمعارضة السياسية في أعقابها، وهو عبارة عن تعليق سياسي لاذع على عنف الدولة، وتأمُّل في صِلاته الحميمة بالعنف المنزلي والسيطرة الذكورية.
يلعب زكي في الفيلم دور هشام، وهو رجل ذو خلفية متواضعة، ترقَّى بحكم طموحه وتصميمه المطلق ليصبح ضابطًا رفيعًا في أمن الدولة المصرية، يتم سرد قصة صعود هشام (وسقوطه اللاحق) من خلال تودُّده وزواجه من منى (ميرفت أمين)، وهي ابنة مهندس نشأت في بحبوحة.
كان هشام ساديًّا ومغويًا في آنٍ واحد، وهو نرجسي مُسيطِر، يعذِّب الطلاب المصريين المعارضين في العمل، ويحكم زوجته في المنزل من خلال مزيج من القوَّة الجنسية الغاشمة والسيطرة الذكورية، عزاء منى الوحيد وملجؤها من الإساءة الزوجية يكمن في أغاني عبد الحليم حافظ، تلك الأغاني التي تستمع إليها ساعة بعد ساعة؛ في محاولة للهروب من واقع زواجها الوحشي، تقدم موسيقى عبد الحليم خلفية ثابتة لأحداث الفيلم، مما يثير الحنين إلى الماضي المثالي والأكثر براءة، والذي يبدو بعيدًا وعابرًا، حيث تضطر منى إلى مواجهة الحقائق السياسية لمكانتها باعتبارها “زوجة رجل مهم”: لقد تم استغلالها عن غير قصد من قِبَل زوجها للتجسُّس على أصدقائها المنفتحين سياسيًّا وعلى زملائها في الجامعة.
في النهاية، يخسر هشام كلَّ شيء، عندما قرَّر الرئيس أنور السادات في عام 1977 رفع سعر الخبز، تندلع احتجاجات عنيفة، وتستخدم الدولة أساليب وحشية لسحق الاضطرابات السياسية، ولكن عندما يتم التشكيك في هذه الإستراتيجية، يشهد هشام سقوط رؤسائه، ويتم طرده من منصبه موسومًا بالخزي، تجد منى أخيرًا الشجاعة لتتركه، ينتهي الفيلم بمحاولة هشام الأخيرة اليائسة لاستعادة السيطرة على مصيره؛ فعند وصوله إلى منزل والد منى، يحاول إطلاق النار عليها، وعندما يفشل، يقتل نفسه.
مقاييس الأناقة
جلستُ أتابع الفيلم مصدومة ومفتونة، كان “زوجة رجل مهم” مختلفًا تمامًا عن الأفلام المصرية القديمة بالأبيض والأسود، تلك التي كنت أعرفها كثيرًا، لقد كان عكسًا داكنًا للسرديات السينمائية الحداثوية النمطية جدًّا للأفلام المصرية الكلاسيكية في حقبة سابقة، حيث يشير الارتقاء الوظيفي إلى الخلاص والخاتمة المُرضية، ففي حقبة سابقة، قد تُصوَّر قصة التودُّد بين ضابط عسكري من خلفية متواضعة وفتاة متعلمة من الطبقة الوسطى، على أنها ميلودراما يتغلَّب فيها هشام، من خلال الفضيلة وليس الهيمنة، على العقبات الاجتماعية والتحيزات لكسب فتاة أحلامه، وغني عن القول، أن نهاية “زوجة رجل مهم” لم تكن مُتصوَّرة في هذا السياق، كما أن تصوير أحمد زكي لهشام لم يتناسب جيدًا مع أحد العناصر الأساسية الأخرى في الميلودراما، الشرير المأساوي الذي يحصل على قَصاصه العادل الذي يستحقُّه في النهاية، المشاهد المتكرِّرة لخروج هشام من المنزل للذهاب إلى “العمل، بعد فترة طويلة من فقدانه لوظيفته، مؤثرة بشكل مدهش، حيث يحاول الحفاظ على سمعته أمام جيرانه، أداء زكي يجعل هشام شريرًا وساحرًا ووحشيًّا وجذابًا جنسيًّا، ويجعله في النهاية مثيرًا للشفقة، هكذا بدأ افتتاني بأحمد زكي.
ما الذي يصنع رمزًا جنسيًّا؟ من المؤكَّد أن أحمد زكي كان مُستبعدًا؛ نظرًا لمعايير الجمال الذكوري السائدة في السينما المصرية، عندما بدأ لأول مرة في صنع اسم لنفسه كممثل في أواخر السبعينيات، فهو ذو بشرة داكنة، وشعر أسود أشعث، وشفتين مكتنزتين، وعينين حزينتين، وكان مظهره خروجًا ليس فقط عن الأناقة المدروسة لأيقونات أفلام الرجال في الخمسينيات والستينيات، مثل عمر الشريف، ورشدي أباظة، ولكن أيضًا عن حسين فهمي وغيره من الممثلين الأصغر سنًّا، ذوي البشرة الفاتحة الذين برزوا ليحتلوا أماكنهم.
دار الجدل، في النعي بعد وفاة زكي عام 2005، حول الطرق التي كسر بها حواجز اللون في الفيلم المصري، بالإضافة إلى الحواجز الطبقية في حياته الخاصة، فقد ولد زكي لعائلة فقيرة نسبيًّا في الزقازيق، وكان يتدرَّب ليصبح سمكريًّا عندما اكتشفه الممثل وفيق فهيم وأخذ بيده، غالبًا ما يكون السرد التي يقدِّمه النعي عن حياة زكي ومسيرته المهنية سردًا للتعالي: فعلى الرغم من بداياته المتواضعة، وافتقاره إلى الروابط، وعلى الرغم من بشرته الداكنة ومظهره غير التقليدي، فقد سمحت له موهبته بالتغلُّب على العقبات الهائلة، بينما يظهر أعقاب وفاته بوصفه تجسيدًا حقيقيًّا للسرد الحديث للمصري التقليدي: ابن البلد الذي من خلال القدرة والعمل الجادِّ والتصميم، أصبح رمزًا وطنيًّا محبوبًا.
تُبرَز هذه القراءة لحياة أحمد زكي مفارقة مثيرة للاهتمام: ما جعله فريدًا (ومُحترمًا بشكل فريد) بين أقرانه، لم يكن قدرته على تجاوزهم، ولكن قدرته على الانتهاك، وبالتالي تخريب حدود الطبقة واللون المتضمنة في سرديات القومية الخاصة بالنخبة، إن قدرته كممثل منهجي، ورفضه لتقنيات الميلودراما لصالح العروض الدقيقة والمتناقضة والغامضة، كانت من نواحٍ كثيرة، مُزعزعِةً بشكل عميق لمثل هذه السرديات.
ما جعل أحمد زكي مُحترمًا بشكل فريد بين أقرانه، لم يكن قدرته على تجاوزهم، ولكن قدرته على تخريب حدود الطبقة واللون في سرديات القومية الخاصة بالنخبة.
الواقعية الجديدة
في مقالتها بعنوان “رعايا حديثون: الميلودراما واختلافات ما بعد الاستعمار”، قالت ليلى أبو لغد إنه في مصر (كما هو الحال في العديد من سياقات ما بعد الاستعمار الأخرى) كانت الميلودراما وسيلة مهمَّة لتشكيل المجتمع الوطني، وغرس القيم الوطنية، والغرض منها- كما قال أحد الكتاب التلفزيونيين المصريين المشهورين- هو “تصوير الواقع كما ينبغي أن يكون”، هنا تكمن الوظيفة التربوية للميلودراما: فهي تعلِّم دروسًا أخلاقية عن طريق رسم حدود يسهل التعرُّف عليها بين الأبطال والأشرار، المضطهَدين والمضطهِدين، المتخلفين والمتنورين.
رفضت أداءات أحمد زكي مثل هذه الثنائيات التبسيطية، أو الرسائل الأخلاقية السهلة، لقد برع في استكشاف الشخصيات التي لم تكن خياراتها الأخلاقية مشروطة بمستلزمات البيداغوجيا القومية، ولكن بعلاقتها العميقة المتناقضة بالأمة ورواياتها المهيمنة عن الاحتواء، تعاونه مع المخرجَين محمد خان وعاطف الطيب، والذي نتج عنه الكثير من أفضل أعماله، ملحوظ بشكل خاص في هذا الصدد، ففي الثمانينيات، قاد خان والطيب الحركة في السينما المصرية التي أصبحت تُعرف باسم “الواقعية الجديدة”، على عكس أفلام الواقعية الاجتماعية في الستينيات، تلك الأفلام التي اعتمدت بشكل كبير على تقاليد الميلودراما لنقل الرسائل السياسية التي أعادت إلى حدٍّ كبير إدراج أيديولوجية الدولة، فقلبت أفلام “الواقعية الجديدة” تلك الأعراف رأسًا على عقب، لم يكن أبطالهم أبطالًا أو أشرارًا أو ضحايا، وإنما كانوا أناسًا عاديين، غالبًا ما كشفت نضالاتهم اليومية مع السلطة الاجتماعية والسياسية عن الإفلاس الأساسي لتلك السلطة، كان أحمد زكي بمظهره الجسدي الذي يمكن للجمهور العادي تعريفه على أنه “مصري نموذجي”، (على عكس البياض المثالي للنجوم الذكور الآخرين)، وموهبة التأويل الطبيعي للشخصية، وسيلة مثالية لمثل هذه المشاريع.
الفولي وعيد
في فيلم “البريء” (1986) للمخرج عاطف الطيِّب، يلعب زكي دور أحمد رضوان الفولي، وهو مُزارع بسيط التفكير، تم تجنيده كحارس في معسكر اعتقال للسجناء السياسيين، أخبره رؤساؤه أن السجناء هم “أعداء الدولة”، وها هو يشارك في تعذيبهم وإعدامهم بقليل من تبكيت الضمير، حتى يتم إحضار صديق متعلِّم من قريته إلى المعسكر، بعد إجباره على مواجهة دوره في نظام المخيم الوحشي الذي تقرُّه الدولة، يُصاب الفولي بالجنون، يأخذ بندقيته، ويصعد إلى أعلى برج مراقبة، ويقتل كلًّا من الضباط والأفراد والطابور[1]. بين يدي ممثل أقلَّ مهارة، كان من الممكن أن تتحوَّل شخصية الفولي بسهولة إلى شخصية أحادية، وأن تُسحق تعقيداته تحت وطأة الرسالة السياسية التي كان من المفترض أن تنقلها قصته، ومع ذلك- في عرض زكي المبطن- يظهر على أنه جانٍ وضحية، رجل عادي مجبَر على اتِّخاذ خيارات صعبة داخل نظام مفلِس أخلاقيًّا، يعتمد في الوقت نفسه على تواطئه، ويُنكر إنسانيته الأساسية.
يُضفي زكي إنسانية مماثلة في تجسيده لعيد، الزوج الظريف المتبطل لخادمة مضطهدة في فيلم محمد خان أحلام هند وكاميليا، عيد هو بانك شوارعي، ويصبح بالتناوب لصًّا صغيرًا، ومحتالًا، وسائق حافلة صغيرة، وتاجر ممنوعات، وفي النهاية نزيلًا في السجن، نجح في التودُّد إلى هند والزواج منها، وهي شابَّة فقيرة تكسب مع صديقتها كاميليا لقمة العيش في تنظيف منازل عائلات النخبة في القاهرة، غالبًا ما تنطوي مخطَّطاته لتحقيق الثراء السريع على خرق القانون، واستعداده لاستغلال زوجته وصديقتها للحصول على ما يريده، يحبط أواصر التضامن الأنثوي التي تسمح لهند وكاميليا بالبقاء على قيد الحياة، في عالم تعيشان فيه شبه عاجزتين، لكن السحر غير الأخلاقي لعيد وفشله المتكرِّر في فعل الصواب بالنسبة لزوجته، لا يظهران على أنهما عيوب شخصية، أو دروس عملية، بقدر ما يبدوان بمثابة تكتيكات للبقاء على قيد الحياة.
كان من الممكن أن يصبح الفولي في فيلم “البريء” شخصية أحادية، لكن عرض أحمد زكي أظهر تعقيده كجانٍ وضحية معًا.
ضد الحكومة
مثل الفولي وعيد، كانت معظم الشخصيات التي لعبها زكي أسرى ظروفها، إما غرباء مهمَّشون، أو منبوذون من مجتمع فاسد ونخبوي، أو مفسدون بتعاونهم معه (ربما يكون ضد الحكومة، فيلم عاطف الطيب الآخر الذي يلعب فيه دور محامٍ انتهازي عديم الضمير، أبرز مثال على ذلك)، لكنها أيضًا شخصيات تتصرَّف بطرق هي بدورها فاضلة، بغيضة، مشكوك فيها أخلاقيًّا، أو عملية ببساطة لمقاومة تلك الظروف، والسيطرة على مصائرها.
خلقت استكشافات أحمد زكي الدقيقة للقيود العميقة التي تواجهها الشخصيات اليومية التي تخوض النضالات اليومية، كما قال أحد الكتاب من الأهرام ويكلي[2] “صورة يمكن للناس العاديين التشبُّث بها في مواجهة الاضطهادات المـُتغطرسة واليومية”، باستخدام فنه لتصوير الحياة، ليس “كما ينبغي أن تكون”، ولكن كما هو الحال بالفعل بالنسبة لملايين المصريين الذين حرموا من وضع النخب، واستبعدتهم سرديات المجتمع القومي النخبوية، أظهر أحمد زكي- في الواقع- أن الإمبراطور عارٍ، انه حزين للغاية ومُضيَّعٌ بشدَّة.
استخدم زكي فنَّه لتصوير الحياة ليس كما ينبغي أن تكون، ولكن كما هو الحال مع ملايين المصريين الذين حُرموا من سرديات المجتمع القومي النخبوية.
رابط المقال
https://arteeast.org/quarterly/the-emperor-has-no-clothes-class-color-and-transgression-in-the-films-of-ahmed-zaki/
[1] تم قطع هذا المشهد من قبل الرقيب، وانتهى بصرخة الفولي من الألم والتمرُّد من أعلى برج المراقبة قبل أن يردي ضباطه القياديين وزملاءه الجنود الذين يقفون في الأسفل.
[2] يوسف رخا، ألوان السماء، الأهرام ويكلي، 31 آذار- 6 نيسان، 2006.