مفهوم الرحلة وخرائط الذنب في سينما داود عبد السيد
24 June، 2023
علاء خالد
مفهوم “الرحلة” الحديث، مرتبط بظهور “الفرد”، صاحب هذه الرحلة، وزمن التأريخ لحياته. فالرحلة مرتبطة بالفردانية إلى حد ما، بالشك، اكتشاف الوجود، الرسالة الداخلية، عبر تغيير خريطة الأماكن والمواقع والأفكار. إنها شبيهة بالرحلة الدينية، مع اختلاف الأهداف، مثل رحلة أندريه روبولوف بطل تاركوفسكي، ولكنها في سينما داود عبد السيد، بدون تجول، دون مكان، أو قدمين، إنها الرحلة التي تحدث بالتجربة، الصدمة، الصدفة، التجاوز، الاستنارة، عبر هذه الحواجز التي تكتنف الرحلة، يتم اكتشاف الله في مكان جديد، بعد اكتشاف عجزنا وضعفنا.
في أفلام داود هناك علاقة مزدوجة وتبادلية، حتى ولو لم يتم الحديث عنها مباشرة؛ عن الله أو الإيمان، ولكنه الله الذي يعاد اكتشافه داخل الفردية نفسها، كأنه حاضر داخل المحاولة. أي “نكش” لهذه الفردية، استدعاء لكل صورها وتشعُّباتها داخل الإنسان ولا وعيه، وخياله، وهناك ينتظر الله.
في أفلام داود هناك علاقة مزدوجة وتبادلية، حتى ولو لم يتم الحديث عنها مباشرة؛ عن الله أو الإيمان، ولكنه الله الذي يعاد اكتشافه داخل الفردية نفسها.
هذه الرحلة المتماسة مع الرحلات الدينية؛ كونها تبدأ من الظلام، وتنتهي في النور؛ تماست أيضًا في محتواها مع أفكار وأسماء وإيحاءات وتساؤلات دينية. رحلة ليس لها بداية أو نهاية، رحلة تبدأ من المنتصف، داخل فقرة أو حلقة معيَّنة من سلسلة الزمن، تلك التي تختصُّ بالتحول. في سياق زمني، تظهر الرحلة / التحول كجزء مفصلي من سلسلة ممتدة، وفي سياق آخر مجازي، يُعبَّر عنها بالنور، وليس بالزمن، بوصفها المكان الحدودي الكامن ما بين النور والظلام.، والذي يتم تجاوزه للوصول إلى النور/ الاستنارة.
عادة ما يرصد داود عبد السيد لحظة التحول في أفلامه، بل يكثف أفكاره حولها؛ لذا فإن زمن الرحلة هو زمن التحول، زمن التجربة، الزمن الذي يستغرقه البطل في المواجهة. بداية الرحلة ونهايتها تقعان داخل لحظة التنوير/ الاستنارة، ما بين النور والظلام؛ لأنها اللحظة الدرامية الملتبسة التي تحتاج لاكتشاف وتوضيح وصراع، وهي التي تمنح الفيلم شكله الفني. وأيضا تمنح البطل/ الفرد مسؤولية فضِّ التباس تلك اللحظة المزدوجة. أبطال هذه الرحلة عندهم ثقة في مكان آخر يتصلون به، أخلاقيًّا وجغرافيًّا، سواءً كان الواقع الآخر، أو اللاوعي الجمعي. وينتظرون منه، ردَّ الجميل على الجهد والتعب والمخاطر التي خاضوها أثناء رحلة تحولهم.
عادة ما يرصد داود عبد السيد لحظة التحول في أفلامه، بل يكثف أفكاره حولها؛ لذا زمن الرحلة هو زمن التحول، الزمن الذي يستغرقه البطل في المواجهة.
أهمُّ نتائج هذه الرحلة هي التحرُّر، عبر التجاوز للعجز، وللذنب. ربما الاثنان يتصلان ببعضهما البعض، كما يظهر في فيلم “الصعاليك”. ربما كان هذا المطلب الوجودي، وهذا السعي في التجاوز، متسق تمامًا مع قلق “الطبقة المتوسطة”؛ لذا عندما يتعامل داود مع أفراد من الطبقات الأخرى ينظر لهم بعين الطبقة المتوسطة نفسها، ويمنحهم أيضًا رغبة اكتشاف وجودهم، ورغبة التحرُّر والحرية، فيضطر عندها أن يمنحهم مسحة أو علامة أو موهبة مفارقة وغير واقعية؛ من أجل التعبير عن هذا المطلب الوجودي.
على سبيل المثال يمكن اعتبار عجز “الشيخ حسنى”، في “الكيت كات” الذي ينتمي لطبقة شعبية؛ ممرًّا يصل بين عالمين، وهو الذي سيضع هذا الواقع في مستوى غير واقعي، أسطوري، بداية من حكايات “الشيخ حسني” عن سبب هذا العجز، وحكايات الآخرين عن أنفسهم، نهاية لطريقته في تحدِّي هذا العجز، كأن هذا العجز له رمز مختلف داخل هذا العالم الواقعي عن كونه عجزًا، إنه علامة أو إشارة بالمعنى الديني لخصوصية يتجاوز بها صاحبها هذا الواقع. بمعنى آخر أدخل المخرج بهذا العجز العالم غير الواقعي في الواقعي، ومنح أبطال هذا الواقع قدرة على التجاوز، مهما كانوا محدودين.
ربما تتماس أهداف هذه الرحلة، كما ذكرت، مع غايات الرحلة الدينية، ولكنها تختلف عنها أنها ليست تكفيرًا عن الذنب، بل التصالح معه. ربما ما يميز أبطال رحلته، هو طريقة تعاملهم مع مؤسسة “الذنب”، إما بالتسامح، أو بالمراجعة الشخصية التي تجد لها طريقًا جانبيًّا بدون الصدام المباشر مع النفس، بمعنى أن الوعي بالتسامح، مع النفس والآخر، يأخذ عند داود قيمة عليا، أحيانًا تفوق مقدار الذنب نفسه، كأنه رسالة إنسانية تتقدَّم مشروع الفردانية وتسوقه.
ربما أجواء الذنب تسيطر على فيلم “أرض الخوف”، ولكنه ذنب أولي، موروث لم يحدث بسبب أخطاء ارتكبها بطل الفيلم، أو بسبب احتياج غريزي، أو أوضاع اجتماعية مختلَّة. لتبرير هذا الذنب الوراثي يلجأ المخرج لمجموعة من الرموز الدينية؛ ليضع البطل ضمن سياقاتها وحكاياتها ودلالاتها؛ وليضع هذا الذنب الخفي ضمن هذا الإطار المرجعي.
ربما هناك محتوى مواز تُصاغ فيه حكاية الفيلم، ربما هو قصة خروج آدم من الجنة، والذنب الذي حمله معه. هذا البطل لم يطأ الجنة من قبل، ولا يحمل أي ذكرى عنها، ولكن برغم هذا، فهذه الذكرى الأولى تطارده، كأنها ميراث بشري، فالذنب هنا مثله مثل الرسالة.
بدأ مفهوم الذنب يتحرَّر وينضج عند داود في فيلم “أرض الخوف” عن الذنب الاجتماعي في “الصعاليك”، أو الذنب الديني في “سارق الفرح”، ليس هذا فقط، بل يتلاعب به ويخرجه من دائرة المكونات الأساسية لبطله، كأن بطله بريء مولود بلا ذنب ولكن هناك ذنب يطارده من الخارج، وهذا الذنب سيجعله أحيانًا يعيد ترتيب أولويات الحياة.
في “سارق الفرح” سنجد المكونات الأساسية للذنب ونقيضه، وهو التسامح والمغفرة. التسامح مقاومة للذنب سواء مع النفس، أو مع الآخر. هنا الآخر شريك أساسي. وهو حل مؤقت يحدِّد كيفية التعامل مع الذنب، وليس صياغة جديدة تتعمد عدم الاعتراف به؛ لأنها لا تعرفه، كما يحيا يحيى المنقبادي في “أرض الخوف”، فهذه الفترة التي ولد فيها الذنب، ومُنح اسمه، لم تترك أثرًا لها داخل ذاكرته، مما جعله يوغل في ارتكاب الذنوب والقتل والفحش في صفحته الجديدة. كأنه يتعرف على الحياة لأول مرة، هذا المجرم البريء، الذي يعيد سيرة إنسان، ولكن هذه المرة بتعرفه على الذنب بدون التعرض لسلطة مؤسسته العريقة.
“يحيى المنقبادي” بطل من نوع خاص، لا يواتيه أي إحساس بالذنب، ويطبق العدالة بطريقته. إن “أرض الخوف” التي ولد فيها، دفعته لكي يتخلص من هذا “الخوف”، بمواجهته، لأنه بالأساس فاقد لهويته الأصلية ك”يحيى المنقبادي”، وهو أيضًا لا يعرف أرضًا أخرى، لا يعرف “أرض الأحلام”، أو “الجنة”، كي يشعر بالذنب والمقارنة. أنه في لحظة نسيان طويلة. كأنه في مهمة مؤقتة، يمارس فيها عدم خوفه، ويشفي رغبته في القتل، فهو ليس المسؤول لأنه في مهمة، أو هناك ” رسالة” مسؤول عنها، أما حياته الحقيقية والخاصة فلم تبدأ بعد. أنه يصفي حسابه مع ” أرض الخوف”، ومع ذنب لا يحمل أي ذرة مسئولية تاريخية أو حدسية، عنه.
ربما الغرض من رحلة أبطال داود، بجانب تغيير مفهومهم للذنب، ارتباطها الشرطي بالاستنارة. هناك رحلة تنوير جغرافية، تحدث في المكان نفسه، سابقة على وجود أبطاله، بها تسام من أسفل لأعلى، تعيد القوى للإنسان بعد ان كانت مسلوبة منه، وهي إحدى ميزات رحلة الاستنارة عند داود، أنها لا تستسلم ولا تفاوض، ولكنها تعيد ما فقد، كسرقة النار التي قام بها بروميثيوس؛ ليعيد الدفء للبشر، بعد أن احتكرتها الآلهة.
اهتمام المخرج بأهمية “التغيير” في مسار أبطاله، والذي يتقاطع مع مسار الذنب في داخلهم، ربما جاء كمشروع شخصي لم يكتمل، وتشابكت معه، في رحلته، مسارات جديدة. ربما هذا المشروع يتلخَّص في كونه “طاقة شعور”، وليس منهجًا إيديولوجيًّا يمتلكه المخرج. وربما أيضًا أن مبرره الفكري عنده هو رفضه الاستسلام مهما كان، والذي هو أحد حلول الحياة، والتأكيد دومًا على الانتصار، التجاوز، التغيير.
تعيش أزمنة أفلام داود داخل “زمن المقاومة” الذي سيطول حتمًا، زمن ما بعد الهزيمة وما قبل الانتصار. رغبة التغيير بحد ذاتها شعار سهل يخلق عالمـًا، أما لو اختار المخرج لأبطاله الاستسلام، كحل، فسوف يجعله يبحث من جديد عن صياغة لعالمه بدون هذا الأمل، سيجعلهم يتورطون اجتماعيًّا أكثر؛ حتى يعوض المكونات الدرامية لعالم التغيير.
تعيش أزمنة أفلام داود داخل “زمن المقاومة” الذي سيطول حتمًا، زمن ما بعد الهزيمة وما قبل الانتصار.
رغبة التغيير الملحة لدى أبطاله جنَّبته كمخرج (وجنَّبتهم كأفراد في الحياة) هذا التورط الاجتماعي الذي لا يفضله في تناول قضايا أبطاله، ورشحت بدورها خطًّا وجوديًّا، وهو أهمية تغيير الإنسان من داخله، يحل محل قراءة حياة الأبطال اجتماعيًّا، سواء كان مصدر هذا الخط الوجودي الدين أو السياسة. التحم التغيير، كبناء، بالحلم، بالكينونة. أبطاله لا يستسلمون لقدرهم، ليسوا فقط لأنهم أقوياء ولكن كونهم لا يرون طريقًا آخر غير الانتصار والتجاوز؛ لأن داخل هذا الانتصار، بمنطقهم، تكمن رغبة البقاء، أو أن الانتصار لا يعني سوى “البعث/ الاستنارة”.
وسط هذا التمرير لنوع مختلف من” الأخلاق”، وأيضًا الإحساس بالذنب؛ كانت هناك زاوية نظر جديدة تولد داخل هذا “الفرد” الذي سيتعامل بشكل مختلف مع “الذنب”، تلك المؤسسة الاجتماعية والدينية الراسخة. ربما لأنه، الفرد، يمتلك حرية واسعة وغير مقيدة في تلك الدرجة الاجتماعية الصعلوكية التي يشغلها، كما في “الصعاليك”، أو ربما هذه الحرية التي منحها له المخرج أباحت له، ولو ضمنيًّا وبدون تصريح، مثل هذه العلاقات كما في “أرض الخوف”.
ربما “صلاح” و”صفية”، في “الصعاليك”، عانيا من تأثير هذا الذنب ومن تفسيره، ولم يتجاهلاه تمامًا، فالزوجة “صفية” حلقت شعرها لتقتص من جمالها الذي كان سببًا في إغواء “صلاح” صديق زوجها ورفيق رحلته. أما “صلاح” فقد أخذ يخبط رأسه في القائم الأسمنتي لغرفته، حتى يدمى ويخرج منه الدم كأضحية فداء لهذا الذنب. ولكن بالتأكيد من كان يقف وراء الكاميرا، كان يراهما بشكل مختلف، لقد منع عنهما أشكال عقاب أكثر قسوة، واقتصره فقط على مسؤولية شخصية / عقاب شخصي، يحملها كل منهما داخله تجاه واجباته الإنسانية والاجتماعية في حديهما الأدنى، أو الجديد، ويمكن عبر طقوس الفداء أن يتخففا من أثر الذنب، ويحصلا على مغفرة الله.
لقد فرَّغ المخرج هذا الذنب الديني والاجتماعي، عند صلاح وصفية، من رغبة التكفير، فقام بتغيير شكل الذنب، وجعله إحدى التجارب التي تقوي وتبني نفس الإنسان؛ ربما لأنهما ما زالا أمامهما رحلة أهم، وينتظران تجربة وجودية أكبر، وهي صعودهما إلى مرحلة الثراء، وفقدهما لخصيصتيهما في الصعلكة، ولهذه الحرية التي كانت سببًا في هذا الذنب.
ربما فقدهما لهذه الدرجة من الحرية جعلهما أيضًا يفقدان أبسط مشاعر الإحساس بالذنب، وهو العقاب الحقيقي في رأيي. وكأن هذا الذنب يختفي وراء تعقيد العلاقات وسلب الحرية الشخصية. لقد كان المخرج يجهز لهما مفاجأة أكبر، من وجهة نظره بالطبع، تتجاوز في زلزالها الخيانة ومشاعر الذنب، ألا وهي فناؤهما القريب، سواء بالثراء الذي مسخ وجودهما، أو بالموت الذي كان الخطوة الأخيرة لمسيرة التفسُّخ والانهيار التي عانيا منها. ربما تعالي صلاح وصفية على الذنوب، لأن الموت كان ينتظرهما في نهاية الفيلم.
في “سارق الفرح”، برغم تشابه الظروف، مع أبطال “الصعاليك”، ووقوف أبطاله في أسفل السلم الاجتماعي، إلا أنه حدث نكوص لمفهوم الذنب، وأصبح له مقومات وطقوس كطقوس الاعتراف في الكنيسة. عند اعتراف “أحلام” لـ”عوض” ليلة الدخلة، بواقعة رقصها في أحد البيوت التي يرتادها الأجانب، من أجل أن تكمل تكاليف زواجهما. لاحظ الستارة التي تعترف من وراءها أحلام لعوض، بعد أن تخلع ملابسها، والتي تشبه شباك الاعتراف. لقد حدث الاعتراف؛ لأن هناك شعورًا أصيلًا بالذنب، على تفاهته، بالقياس بالخيانة أو العلاقة الجنسية في “الصعاليك”. هذا الذنب يحتاج لمغفرة وتسامح من “عوض”، الذي يمثل قسيس اعترافها في هذه البداية الجديدة لحياتهما معًا. ولكنه واقع غير متسامح، فتشعر بأن (عوض) عندما يسامحها يقوم بدور ما يتجاوز قدراته، وطاقته على التسامح. لقد أصبح الذنب طرفًا ثالثًا بينهما، ولا يمكن أن يتم ترضيته فقط بهذا التسامح.
لا يعبر (عوض) فقط في تسامحه عن وعي شخصي، ولكنه يلتحم مع صانع الفيلم وأمنيته لأبطاله بأن يحملوا جزءًا من رسالته، حتى لو كانوا غير قادرين على حملها. المسافة التي يأخذها المخرج من أبطاله في هذا الفيلم قريبة جدًّا؛ لذا هذا التصور للآخر سيتم حجبه، ربما في هذه الحالة الاعتراف بالذنب، أو إعلاء قيمة التسامح، منع ظهور هذا “الآخر”، الذي توسِّع أخطاؤه من قدراتنا، وليس حضوره الطبيعى؛ وحل مكانه رغبة المخرج في تسيير الموقف بدون صراع.
ربما ذاتية أفلام داود تمنع، أحيانًا، ظهور هذا “الآخر”، أو تحدُّ من حريته، أو تجعله شبيهًا له. بالرغم من الحلم الطوباوي الذي يوجد في كل الأفلام. لم يوفر داود انفصالًا لهذه الذوات التي أوجدها عن الذات الأم التي يحملها. هي سيرة بأوجه متعددة.