السينما اللبنانية تنتعش على وقع الأزمات
4 January، 2023
بقلم فيكي حبيب
يثير المشهد السينمائي اللبناني الدهشة. ففي ظل أسوأ أزمة اقتصادية ومالية يعيشها لبنان الحديث، وفي ظل الانهيار الكبير الذي يشمل القطاعات كلها، تبدو السينما في منأى عما يجري، وكأنها لا تنتعش إلا على وقع الأزمات! فهي التي ظلت سنوات طويلة تتغذى من سينما الحرب، حتى كادت هذه الثيمة تكون الوحيدة تقريبًا التي يدنو منها السينمائيون، ولا يبتعد الواحد منهم عنها قليلًا حتى يعود إليها من جديد.
نقول هذا، وفي البال مجموعة الأفلام الكبيرة نسبيًّا التي أبصرت النور بعد انتفاضة أكتوبر – نوفمبر (2019)، وما تبعها من تطورات دراماتيكية، لم يكن آخرها انفجار مرفأ بيروت في صيف 2020، الذي وصفته وكالات عالمية بأنه ثاني أكبر انفجار في العالم بعد انفجار هيروشيما.
حضور عالمي
أفلام جالت المهرجانات الدولية، وأعطت صورة وافية عن حضور هذه السينما الكبير رغم كل الأزمات، من كان إلى البندقية وبرلين وتورونتو وسواها من التظاهرات السينمائية. وإذا كانت المشاركة في مهرجان كان، المهرجان الأبرز حول العالم، تقدم شهادة ولادة سينمائية لكل من تطأ قدماه عتبة الريفيرا الفرنسية، فإن الفنان اللبناني التشكيلي علي شري مثّل لبنان هذا العام في الدورة الـ75 للمهرجان الفرنسي الكبير، لينضم إلى قافلة الأسماء التي وضعت السينما اللبنانية على خريطة السينما العالمية بمشاركتها على الكروازيت الفرنسية، بدءًا من جورج نصر مرورًا بمارون بغدادي وصولًا إلى نادين لبكي ودانيال عربيد وإيلي داغر.
وبالتالي، تمكن شري من الدخول من الباب العريض في تجربته السينمائية الروائية الطويلة الأولى، فيلم “السد”، الذي نافس من خلاله ضمن فئة “أسبوعي المخرجين”، قبل أن تبدأ جولاته حول العالم. ومنها، أخيرًا، محطة في مهرجان كارلوفي فاري التشيكي الذي عاد إلى موعده الطبيعي في يوليو بعد تغيرات قسرية بسبب وباء كورونا، ويعدّ واحدًا من أعرق المهرجانات في العالم والتظاهرة السينمائية الأبرز في وسط وشرق أوروبا.
ولا شك في أن المفاجأة كانت كبيرة عند الجمهور التشيكي الذي دخل لحضور “السد” وفي باله أفلام “أسبوع السينما اللبنانية” التي شاهدها في دورة عام 2015 حين نظم المهرجان تلك التحية الكبيرة للسينما العربية بعد تجاهل دام سنوات طويلة.
يومها اكتشف محبو الفن السابع في هذه المدينة البوهيمية، مدى التصاق السينما اللبنانية بالحرب من خلال ثمانية أفلام اقتربت كلها من هذه الثيمة، وإن تفاوتت في توقيت إنتاجها. وتساءل حينها كثيرون: ألا توجد سينما لبنانية خارج ما يعرف بمصطلح “سينما الحرب”؟ وسرعان ما أتاهم جواب المنظمين بأن طبيعة الإنتاج اللبناني تفرض نفسها على هذا الاختيار، خصوصًا أن العقود الأخيرة لم تحمل أفلامًا تكاد تبتعد عن هذه الثيمة.
وهكذا ترسخت قناعة عند هذا الجمهور مفادها أن السينما اللبنانية تشكّل المعادل لسينما الحرب، فحتى حين يقرر المبدع أن يلامس مواضيع أخرى، فإن تأثيرات الحرب تظهر جليًّا فيها. من هنا، كانت المفاجأة كبيرة بمشاهدة فيلم يحمل اسم مخرج لبناني، لكن من دون أن تكون له علاقة بالسينما اللبنانية المعهودة، من قريب ولا من بعيد. فـ”السد” تدور قصته في السودان وفي خلفيته الثورة السودانية (2019) من خلال قصة الشاب “ماهر” الذي يعمل بالقرب من سد مروي في معمل كمينة للطوب التقليدي.
ترسخت لدى الجمهور قناعة لفترة طويلة بأن أفلام لبنان هي المعادل لسينما الحرب.
وإذا اعتبر البعض أن فيلم “السد” ينتمي للسينما السودانية أكثر من انتمائه للسينما اللبنانية، فإن السينما اللبنانية الخالصة لم تغب هذا العام عن مدينة المئة ينبوع. بل كان الجمهور التشيكي على موعد مع واحد من أجمل هذه الأفلام: “بيروت اللقاء” للمخرج الراحل برهان علوية.
وبالتالي، تمكن الجمهور من إعادة اكتشاف واحد من كلاسيكيات سينما الحرب بحلّة جديدة من خلال النسخة المرممة من الفيلم، مثله مثل الجمهور الألماني الذي كان على الموعد نفسه في فبراير، حين عُرض الفيلم في فئة “برلينال فوروم” خلال الدورة الثانية والسبعين من مهرجان برلين السينمائي الدولي بمناسبة مرور 40 عامًا على مشاركة علوية في المهرجان.
وفي العاصمة الألمانية أيضًا، حضر برهان علوية والسينما اللبنانية من جديد، لكن هذه المرة من خلال الدورة الـ13 لـ”مهرجان الفيلم العربي في برلين” التي أقيمت في إبريل من هذا العام، واختارت لبنان ضمن برنامج “بقعة ضوء” تحت عنوان “من الحرب الأهلية إلى الفوضى: سينما المقاومة تحت الضوء”. ولا شك في أن العنوان يحمل دلالات كبيرة فنّدها بيان المهرجان، مع تركيزه على دور هذه السينما في الـ”كشف عن مقدمات أزمة لبنان المعاصرة”. فـ”المخرجون اللبنانيون تمكنوا على مدى عقود متواصلة من تحويل صدماتهم وخبراتهم إلى سرديات سينمائية مبدعة، ساهمت في تشكيل مسارات المقاومة وتجلّت فيها مساعيهم لمواجهة أقدارهم بشجاعة”. وهكذا وجد جمهور المهرجان أفلام أجيال متعاقبة من السينمائيين اللبنانيين جنبًا إلى جنب: جيل الكبار من برهان علوية وجوسلين صعب وسواهما، وجيل الشباب من إيلي داغر ومونيا عقل وسيمون الهبر.
السينما اللبنانية جالت المهرجانات الدولية وأعطت صورة وافية عن حضورها رغم الأزمات.
الانفجار الكبير
وإذا كان للحرب اللبنانية أفلامها التي حملت تواقيع مبدعين كبار حملوا أسئلتها إلى الخارج من أمثال برهان علوية ومارون بغدادي وجان شمعون وجوسلين صعب ورندة الشهال (الراحلين تباعًا وهم في عز عطائهم للأسف)، فإن للأزمة الأخيرة “أفلامها” أيضًا. وهي أفلام حرصنا على وضعها بين معقوفتين، حتى ولو حمل بعضها تواقيع مخرجين شباب عرفوا شهرة وحصدوا جوائز كبيرة في الخارج، مثل إيلي داغر (الفائز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان عام 2015 عن فيلمه القصير “موج 98”) وفيلمه “إعلان حرب”، أو لوسيان بورجيلي (الذي اشتهر بعمله المسرحي قبل أن ينتقل للسينما) وفيلمه “مينارفا”. والفيلمان ينتميان لمشروع مؤلف من 5 أفلام قصيرة بعنوان “بيروت.. آب 2021″، يوثق فيها كل مخرج من المخرجين الخمسة نظرته للانفجار الكبير الذي هزّ العاصمة اللبنانية. وهي تجربة أعادت إلى الأذهان سلسلة أفلام “18 يومًا” المصرية (2011) التي تولى إخراجها عشرة مخرجين، قدموا فيها قصصًا من واقع ثورة “25 يناير”.
وإذ تفاوتت هذه الشرائط في جودتها، اعتبر بعضهم أنها مجرد انفعالات عفوية، فيما رأى آخرون أنه من المبكر (في يومها)، الدنو من سينما الثورة، خصوصًا أن المبدع بحاجة إلى الوقت ليتمكن من تحقيق عمل فني يحاكي الحراك الشعبي المستجد على وقع الأزمات. وما قيل بالنسبة لأفلام ثورة “25 يناير”، يُقال اليوم بالنسبة للأفلام اللبنانية التي تناولت “انفجار المرفأ” أو انتفاضة تشرين.
لكن، في مقابل هذه الشرائط، أطلت، أيضًا، أفلام أعادت الاعتبار للسينما اللبنانية. أفلام حققت نجاحات حيثما حلّت في المهرجانات الدولية قبل أن يحطّ بعضها أخيرًا في الصالات اللبنانية. هذه الصالات التي عادت وفتحت أبوابها أمام الجمهور بعد إغلاق قسري، أدى إلى تكبدها خسائر كبيرة، إذ فقدت الكثير من روادها بسبب جائحة كورونا أولًا، ثم بفعل الانهيار المالي الكبير في السوق اللبنانية، وصعود أسهم المنصات الرقمية على حساب دور العرض التقليدية. وذلك من دون أن ننسى القدرة الشرائية المنخفضة للبناني، وارتفاع أسعار التذاكر، بحيث لم تعد في متناول عدد كبير من الناس، إلى درجة أنه لم يعد مبالغًا القول إن الذهاب إلى السينما صار بالنسبة إلى كثيرين من الكماليات التي لا يجرأون على التفكير فيها.
محطات متميزة
“البحر أمامكم” واحد من الأفلام التي تعرض الآن في الصالات اللبنانية، ونجح من خلاله المخرج إيلي داغر في العودة إلى مهرجان كان في الدورة الـ74 ضمن عروض “أسبوع المخرجين”، وهو الذي كان أحد اكتشافات هذا المهرجان الفرنسي حين منح فيلمه القصير “موج 98” السعفة الذهبية. وتكمن أهمية فيلمه الجديد في كونه قدّم قراءة استشرافية إلى حد كبير لما ينتظر لبنان من مصير قاتم بعد انفجار المرفأ.
“دفاتر مايا”، فيلم آخر، حطّ في الصالات اللبنانية بدءًا من مارس، بعد جولة ناجحة في المهرجانات الدولية، انطلقت في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين (2021) بعد غياب لبنان لعقود عن هذه التظاهرة السينمائية، مرورًا بحصده “جائزة سعد الدين وهبة” لأحسن فيلم في مسابقة “آفاق السينما العربية” في مهرجان القاهرة، ومشاركته في مهرجان البحر الأحمر.
الفيلم، الذي تولى إخراجه الثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج، لا يبتعد عن “سينما الحرب”، فهو يفتح دفاتر الماضي وينكأ جراح الحرب بأسلوب حميمي خاص.
والحرب أيضًا حاضرة في فيلم جيمي كيروز “بروكن كيز” أو “مفاتيح مكسورة”، الذي يعود إنتاجه إلى عام 2020، وكان مهرجان “كان” اختاره ليشارك في الدورة الـ73 إلى جانب أسماء مكرّسة في عالم الفن السابع، لكن إلغاء تلك الدورة يومها بسبب وباء كورونا، حال دون تحقيق كيروز حلمه بالوصول إلى الريفيرا الفرنسية. وللسبب ذاته، انتظر الفيلم عامين، حتى إبريل 2022، ليبدأ عروضه في الصالات اللبنانية، وتدور قصته عام 2014 في مدينة تقع على الحدود بين سورية والعراق، ويصوّر فيه كيروز انعكاسات سيطرة الجماعات المتطرفة على الفنون، ملخصًا ما يريد أن يقوله بكلمات محددة: “الحياة ليست أن ننتظر العاصفة حتى تهدأ، بل أن نتعلم الرقص تحت المطر”.
الرقص، وإن على إيقاع مختلف تمامًا، نراه أيضًا في فيلم المخرج جورج بيتر بربري “عَ أمل تجي” الذي انطلقت عروضه في الصالات اللبنانية منتصف مارس، بعدما اختاره مهرجان برلين العام الماضي ضمن برنامجه.
أفلام أخرى عديدة تنتظرها الصالات اللبنانية، لعل أبرزها فيلم “بيروت هولدم” الذي ستنطلق عروضه نهاية الشهر الجاري، ويحمل توقيع المخرج ميشال كمون في تجربته الروائية الطويلة الثانية بعد فيلمه الروائي الطويل الأول “فلافل” الذي حقق نجاحات نقدية لا بأس بها قبل نحو عشر سنوات، اضطر خلالها مخرجه للانتظار هذا الوقت كله قبل أن ينجز ثاني أفلامه، ثم سنتين أخريين قبل أن يتمكن من عرضه، ما يقول لنا شيئًا عن أحوال السينما اللبنانية بشكل عام.
ورغم النجاحات الكبيرة التي حققتها السينما اللبنانية في الآونة الأخيرة، فإنها لم تسلم طبعًا من رياح الأزمة، وإن رأى المراقب من بعيد أن تأثيراتها تبدو أقل نسبيًّا على هذا القطاع منه على قطاعات أخرى انهارت تمامًا. ولعل في هذا الاعتقاد شيئًا من الصحة لأسباب عدة، أبرزها أن هذا القطاع بُني أساسًا على المبادرات الفردية، وبفضل التمويل الخارجي، في ظل الغياب شبه التام للدولة. لكن هذا لا يعني أن الأمور بألف خير.
تحديات كبيرة
تحديات كبيرة تواجه العاملين في القطاع السينمائي الذي يعاني النقص في الموارد المالية واستنزاف الطاقات البشرية، التي لم تجد سبيلًا أمامها سوى الهجرة. ولا شك في أن هذا القطاع خسر مثله مثل بقية القطاعات جحافل من الأيدي العاملة، التي توجهت إلى الخارج بحثًا عن موارد رزق أفضل.
من هنا، تأتي أهمية المبادرات التي تهدف إلى إحياء الإنتاج السينمائي، مثل المبادرة التي أطلقتها أخيرًا مؤسسة “سينما لبنان” بتمويل من الاتحاد الأوروبي. وتشمل شقين: الأول عبارة عن برنامج توجيهي وتدريبي انطلق في يونيو لتعزيز قدرات المنتجين اللبنانيين، ويشارك فيه خمسة منتجين، سينال واحد منهم جائزة 5 آلاف يورو لتطوير مشروعه. والثاني عبارة عن صندوق دعم لعدد من مشاريع الأفلام، على أن يفتح باب تقديم الطلبات في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
ويقينًا، فإن مبادرات من هذا النوع كفيلة بتحريك المياه الراكدة والمحافظة بالحد الأدنى على قطاع بُني بجهود فردية بالاتكاء على سواعد العاملين فيه من دون أية التفاتة من الدولة. ومع هذا، حققت أفلامه النجاحات ووضعت اسم لبنان على خريطة السينما العالمية.
تحديات كبيرة تواجه العاملين في القطاع السينمائي بسبب نقص الموارد المالية واستنزاف الطاقات البشرية.