• English
  • 8 ديسمبر، 2024
  • 1:58 ص

فهم الفيلم القصير من الفكرة إلى الشاشة

فهم الفيلم القصير من الفكرة إلى الشاشة

5 December، 2023

طاهر علوان

في البدء كانت الصورة، بكل ما تحمله من غزارة تعبيرية ودلالات وتأويلات واقعية أو افتراضية؛ ولهذا كانت السينما منذ بواكيرها منشغلة بإشكالية التعبير الذي تحمله الصورة السينمائية المتحركة، وبذلك كان الزمن عنصرًا فاعلًا في هذه المعادلة، أن يتلقى الجمهور حصيلة معرفية وجمالية وحسية في أقل مساحة زمنية ممكنة.

ليس التكثيف والاختزال والاختصار والتركيز في هذه الحالة، إلا توابع جوهرية لا غنى عنها لغرض كسب جمهور المتلقين، خصوصًا أولئك الذين بحاجة إلى رسائل جمالية مكتنزة، وبعيدة عن الترهل والإضافات الزائدة والإيقاع الهابط، وكلها جميعا تبعث على الملل، وتدفع الجمهور إلى عدم الاهتمام والمتابعة.

من هنا- ومن هذه الزوايا- يمكننا النظر إلى الفيلم القصير من جهة استجابته لهذه المتطلبات منذ بواكير السينما، حتى صار هذا النوع الفيلمي مرتبطًا بجمهور عريض، ومهرجانات، وصانعي أفلام، وفرق إنتاج، فقد اختصر الكثير من متطلبات الفيلم الطويل، سواء من ناحية الزمن الفيلمي، أو من ناحية الميزانية الضخمة للفيلم الروائي الطويل.

وهنا لا بدَّ من التأكيد أن قواعد كتابة السيناريو واحدة، وأن ما ينطبق على النوع الفيلمي الطويل ينطبق على الفليم القصير، لجهة بناء المشاهد، والدراما الفيلمية، والحبكة، ودور الشخصيات في تلك الدراما الفيلمية.

لا بدَّ من التأكيد على أن قواعد كتابة السيناريو في الفيلم الطويل هي نفسها في الفيلم القصير، سواءً في بناء المشاهد أو الدراما أو الحبكة أو دور الشخصيات.

قراءة إشكالية

وخلال ذلك تبدو إشكالية الفيلم القصير مثار جدل يتجدَّد بتجدُّد القراءة الفيلمية المجرَّدة، هذه القراءة الإشكالية التي لا تبحث في الفيلم إلا عن (الحكاية) التي هي بمثابة القلق المضني الذي يختصر الكائن في أنه كائن حكّاء أو راوٍ بامتياز، الإنسان يقرأ حياته على أنها حكاية طويلة، تمتد بامتداد فطرة السرد التي غرست في الكائن ذاته .

إذًا … هنالك من يحكي ومن يحكى له … وكانت مطوَّلات ألف ليلة وليلة دالة على هذا النمط المتشابك للمرويات، وللبناء الحكائي المجرد، وعندها ترسَّخ وجود كائن نهم للحكاية مولع بالنهايات السعيدة، مأخوذ إلى نمطية تغريبية تُفرِّغ أي شكل من محتواه، سوى محتواه الحكائي.

لكن إذا كان هنالك تدفُّق متكامل للبناء، تدفُّق لهذا المروي الشامل والكثيف والمتنوِّع الذي ورثه المتلقون من أساطين الدراما، ومن مدرسة أرسطو أساسًا، إذا كان هنالك مثل هذا التدفُّق المعبر عن البنية الروائية، فماذا عن تلك المساحة الزمانية / المكانية / الحكائية للفيلم القصير؟

لقد اعتاد جمهور الفيلم على تلك السيرة الشائقة المتكاملة التي يمثلها الفيلم الطويل، بينما استكان المتلقي حائرا في (أين يضع الفيلم القصير في أولويات المشاهدة التقليدية؟) فهو ليس الفيلم التسجيلي الذي طغى عليه الحسُّ الخبري والذي عمق كينونته (الاندلاع) التكنولوجي الممثل في الفضائيات والتوابع الأرضية والأنظمة والمنصات الرقمية، حتى صار فيلمًا إخباريًّا / سياسيًّا أكثر من انتمائه إلى بول روثا، أو جريرسون، أو بازيل رايت، أو غيرهم .

واقعيًّا لا يمكن قراءة الفيلم القصير على أنه امتداد عملي (مضغوط ومكثَّف أو موجز) للفيلم الطويل، كما لا يمكن عدُّ القصة القصيرة تكثيفًا واختصارًا للرواية، وهنا سيجري بحث في تصنيف to classify   الفيلم القصير في موازاة الفيلم  الطويل، وفي موازاة الفيلم  التسجيلي .

ربما هي جدلية مخالفة لما هو سائد من مفاهيم ومعطيات تعدُّ الفيلم القصير كيانًا متحققًا واقعيًّا، وهو جزء من فاعلية تجريبية وإنتاجية لا أكثر، فهو ليس جزءًا من ذلك الزخم الذي يستند إليه الفيلم الطويل، والمستند أساسا على طابع الاستهلاك اليومي الذي طبع الفيلم الروائي الطويل، وتاليًا تحوله إلى مفردة تداولية في الحياة المعاصرة، تعززه ماكينة الإنتاج الصناعية التجارية الإشهارية، وتيسره التكنولوجيا الحديثة والأنظمة الرقمية .

وعلى هذا صرنا أمام سؤال آخر يواجهنا ونحن نقرأ جدلية الفيلم القصير، تتعلق هذه المرة بالانتماء للنوع الذي يجب أن ينسحب فيه الفيلم القصير إلى منطقة تخصُّه، وتميزه عما سواه من الأنواع الفيلمية .

واذا كانت إستراتيجية الفيلم القصير ذات طبيعة زمانية في المدخل الأول للتصنيف، من منطلق التمهيد من خلال الاسم (أنه فيلم قصير من ناحية الزمن، أنه فيلم لا يأخذ وقتًا طويلًا في العرض، أنه فلاش سريع ربما)، وهكذا تمضي القراءة الزمانية في شكلها المبسط لدرجة الإخلال بمفهوم الزمن وخلخلته، وكل هذا بالطبع يأتي من وجهة نظر مُشاهِد عجول، ولا يجد متسعًا للمضي مع ميلودراما تقليدية، ربما وهو قادم لمشاهدة هذا الفيلم القصير أساسًا.

إن هذا هو ما دعا إليه أيزنشتاين بقوله إن الفيلم هو ليس ما يُرى وما يُسمع، بل ما يفحصه المرء بالمشاهدة، وما يصغي إليه إصغاءً شديدًا، وهذه الرؤية هي التحول الحقيقي في القراءة.

قراءة زمانية

 وهنا فإن قراءة النص والفيلم ليست إلا قراءة زمانية، فيما يتعلق بالفيلم القصير، وبصدد القراءة اللحظوية التي يعبر عنها بارت فإنها قراءة ربما كانت أقرب للفيلم القصير هنا، من منطلق الإدراك المسبق أن هذا الفيلم يبنى على إستراتيجية زمانية للوصول إلى الدراما وتحققها أو اكتمالها. وفي كل الأحوال فإن قراءة مجردة للفيلم القصير لا يمكن إلا أن تمر بهذه المعطيات كي تكون ذات معنى .

ولعلَّ من الملفت للنظر على هذا الصعيد النظرة البانورامية المتسعة، التي لا ترى في الفيلم إلا أنه بناء حكائي قد تغلغلت في بناه ومكوناته مسيرة زمنية هي ليست غير (زمن الأحداث)، وهي سلسلة متحققة ولا سبيل للخروج منها، وأنها معطى بدهي من بدهيات البناء الفيلمي، وإن السعي لقراءة الفيلم زمانيًّا لا بدَّ وأن تمر بهذا المعطى الحيوي، والركن الفاعل في البناء الفيلمي .

هذه المعطيات تحضر بقوة في تجارب كبار المخرجين العالميين، الذين عاشوا مرحلة الفيلم القصير وتشبّعوا بجميع المعطيات التي نتحدث عنها، ومن هؤلاء- على سبيل المثال- المخرج الكبير كريستوفر نولان وفيلمه القصير بالأبيض والأسود “دودلباغ”، والذي قدم من خلاله الشخصية الواحدة والمكان الواحد، وكيف يتم بناء الأحداث تصاعديًّا في الفيلم القصير، وكذلك تجربة المخرج ديفيد لينتش وفيلمه القصير “الجدَّة”، والمخرج تيم بورتون وفيلمه القصير “فنسنت”، والمخرج مارتن سكورسيزي وفيلمه القصير “الحلاقة الكبرى”، والمخرجة صوفيا كوبولا وفيلمها القصير “العق النجوم”، وغيرهم.

القراءة اللحظوية التي عبر عنها “بارت” هي الأقرب للفيلم القصير؛ لأنه يقوم على إستراتيجية زمانية للوصول إلى الدراما وتحقيق اكتمالها.

تدفُّق

وأما بصدد ما أشرنا إليه من قبل عن تدفق المروي الشامل والكثيف والمتنوع، الذي ورثه المتلقُّون من أساطين الدراما، ومن مدرسة أرسطو أساسًا، إذا كان هنالك مثل هذا التدفق المعبر عن البنية الروائية، فماذا عن تلك المساحة الزمانية / المكانية / الحكائية للفيلم القصير، من خلال النماذج المتميزة التي قدَّمها كبار المخرجين، ومنهم المخرجون الذين وردت أسماؤهم آنفًا.

هذا السؤال يوجب استقصاء الفيلم القصير بصفة عامة حكائيًّا، ومن منطلق بنيته الزمانية / السردية، وربما كان هذا هو أحد أهم الأركان الفاعلة والمهمة في معمار الفيلم القصير، والذي يوجب قراءته عميقًا. والتي من خلالها سوف نتوصل إلى معطيات العملية الإخراجية والإنتاجية، وصولًا إلى كتابة السيناريو والإشكاليات المصاحبة.

وإذا كان هنالك من منطلق يتعلق بالنص/ السيناريو مجردًا، بصرف النظر عن كونه نصًّا لفيلم طويل أو قصير، فإنه يتعلق بكون كلا الفيلمين ينطويان على بُعد حكائي، وبحسب جاكوبسن فإننا إزاء بنية مجردة للنص، وما تنطوي عليه من علاقة بين الرسالة التي لها نسقها المرتبط بالنص وشفراته الخاصة، تلك التي تتمظهر في الكلام المروي أو الرسائل التي تنقل داخل النص نفسه.

وبعد ذلك فلا شك أن التكنولوجيا الرقمية قد اختصرت على صانع الفيلم القصير الكثير من المتطلبات في حيازة الأجهزة والمعدات؛ ليجد أنها قد اختزلت كثيرًا بفضل التكنولوجيا الرقمية، وصارت هنالك من الأفلام القصيرة ما يصور بواسطة كاميرا الموبايل، وكذلك يتم المونتاج بمختلف مراحله، ابتداءً من التقطيع الأولي، وصولًا إلى المزج – المكساج، وانتهاءً بإضافة الحوار، وحتى تصحيح الألوان بفضل البرمجيات الرقمية المتاحة في أجيال الهواتف النقالة.

لكن السؤال هو هل كل هذه التكنولوجيا الرقمية كافية لإنعاش تلك الرغبة في صناعة الفيلم القصير؟

واقعيًّا إن تلك التحديات المركبة التي تواجه صانعي الفيلم القصير على جميع المستويات، تتطلب منهم في الأزمنة الحديثة المزيد من الثقافة السينمائي من جهة، وفهم الفيلم القصير والتعمق فيه، مع توثيق الصلة بين هذا النوع الفيلمي والمصادر الأكثر حضورًا التي يمكن الإعداد منها، كالروايات والقصص القصيرة وغيرها.

فاصل اعلاني