قضايا المواطنة في السينما الفلسطينية قراءة في أعمال هاني أبو أسعد
12 August، 2024
حسني مليطات
إنّ الظروف الاستثنائية التي عاشها وما زال يعيشها المجتمع الفلسطيني، حتّمت وجود بنية مفاهيمية خاصة بتعريف “المواطنة”؛ حيث لم يعد ذلك المفهوم مقتصرًا على المفهوم القانوني المرتبط بالمواطن، باعتباره كائنًا اجتماعيًّا له حقوق وعليه واجبات، تفرضها طبيعة انتمائه إلى بلده، مع الالتزام بالواجبات العامة، مثل دفع الضرائب والحفاظ على الملك العمومي، والدفاع عن الأرض والوطن؛ أي ثنائية الفرد/الدولة، وإنما أصبح مفهومًا مبنيًا على ثلاثة أطر محورية، هي: الحرية والهوية والمساواة. وقد بنى المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد هذه الأطر في عدد من أفلامه، بهدف تصوير (ذات المواطن الفلسطيني)، من خلال اللقطات “القريبة” و”القريبة جدًا” أو بتعبير الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، من خلال “الصورة المضخَّمة”، أي الصورة القائمة على “الانفعال العاطفي”.
فجاء فعل “تصوير” المواطنة في أفلام أبو أسعد من خلال “تمثيل” Representación “حاجة” المواطن الفلسطيني، والتعبير عن ذاته، وبالتالي، استطاع أن يكوّن من خلال شخصيات أفلامه معالم الهوية بأنواعها: الهوية الشخصية (هوية الذات)، والهوية الوطنية، والهوية الثقافية، ثم بعد ذلك، عرَّفنا على أنواع الحرية، بتعبير جان جاك روسو: الحرية الطبيعية، والحرية المدنية، والحرية الأخلاقية، كما عبَّر لنا أيضًا عن مفهوم المساواة، فقسم المواطنة إلى قسمين اثنين: المواطنة الذكورية، والمواطنة الأنثوية.
لم يعد مفهوم المواطنة الفلسطيني مقتصرًا على ثنائية الفرد/ الدولة، وإنما أصبح مبنيًّا على أطر الحرية والهوية والمساواة.
استطاع هاني أبو أسعد أن يكوّن من خلال شخصيات أفلامه معالم الهوية وأنواع الحرية ومفهوم المساواة في المواطنة الفلسطينية.
عرس رنا
يُعتبر فيلم “عرس رنا” أو المعروف باسم “القدس في يوم آخر”، من الأفلام الدلالية، المفسِّرة لحال المجتمع المدني الفلسطيني، وبالتالي، أعتبره من الأفلام المركزية لتفسير قضايا المواطنة من خلال لقطاته المثيرة لانتباه المشاهد. يصور هاني أبو أسعد، برؤية الكاتبة الفلسطينية ليانة بدر، معنى المواطنة الأنثوية، ويرسم معالم الفتاة الفلسطينية الخارجة من إطار الذكورية الأبوية، بتعبير عالم الاجتماع الفلسطيني الأمريكي هشام شرابي، حيث تظهر الممثلة كلارا خوري – بشخصية رنا – باعتبارها المواطنة المطالبة بحقوقها كامرأة تعيش في دولة فيها دستور يحفظ لها حقوقها، باعتبارها جزء من تلك الدولة، وبالتالي لها حقوق وواجبات ينبغي أن تتسم بها وتقوم بها أيضًا.
والظاهر في هذه الشخصية المحورية، الشخصية الفاعلة، حراكها في السعي لاختيار شريك حياتها “خليل”، ففكرة تمردها على قائمة الأسماء التي وضعها لها والدها، هي الحبكة الفعلية للفيلم، فعامل الرفض في المجتمع الذكوري، يعتبر في نظر ذلك المجتمع “تمردًا”، وفي هذه الحالة، فإنّ فعل الرفض أسهم في تأسيس شخصية مواطنة، تطمح في الحصول على حقوقها، باختياراتها هي، دون أن يكون هناك أحدٌ يفرضها عليها، وبالتالي “التحرر الإيجابي”، وفق رأي الفيلسوف الإنجليزي إيزايا برلين، من تلك القيود المجتمعية، والسعي المطلق إلى تكوين “الهوية الذاتية” التي تحتم إظهار رأيها، واتخاذ قراراتها بما يتوافق مع ذاتها هي دون غيرها؛ ولذلك يُعرّف برلين التحرر الإيجابي بأنّه “أمنية الفرد أن يكون سيّد نفسه” (برلين، 2015، 211).
المُلاحظ في “عرس رنا” أن فعل الحركة لدى البطلة عبارة عن “رموز” إشارية لتصوير الواقع الفلسطيني، والتعبير عن حصاره.
عامل اجتماعي
كما صُور مفهوم المواطنة في هذا الفيلم في عنوانه الرئيسي نفسه؛ فالعرس أو الزواج، عامل اجتماعي، وليس فرديًّا، كما يقول حليم بركات في كتابه “المجتمع العربي المعاصر”، يسهم في توطيد علاقة الفرد بمجتمعه، وبالتالي السعي إلى نيل الحقوق المدنية التي يوثقها في قوانين الأحوال المدنية؛ ولذلك فإنّ بنية الأحداث في الفيلم تقوم على “تحركات رنا” في البحث عن حبيبها خليل، المسرحي، والبدء بترتيبات الزواج …، لكن المُلاحظ أن فعل “الحركة” الذي قامت به رنا في كل “لقطات” الفيلم، عبارة عن “رموز” إشارية إلى تصوير الواقع الفلسطيني، والتعبير عن “حالة الحصار” التي عاشها الفلسطينيون، لا سيما بعد عام 2002م، أي بعد اجتياح المدن الفلسطينية، ليكون ذلك الفعل، فعل الحركة، السعي إلى “التحرر” من قيود العادات وقيود الحواجز التي وضعها الاحتلال؛ ولذلك نلاحظ إكثار “اللقطات الكاملة” في الفيلم؛ أي اللقطات التي تصور المشهد من بعيد، لا سيما لحظة عبور رنا الحواجز، بهدف “تصوير” حال المجتمع، والكيفية التي يعيش عليها في ظل وجود “حاجز” يفرض عليك قيودًا تحرمك من حقك في الوصول إلى منزلك مبكرًا، أو ربما يفرض عليك ألا تتنقل بحرية، ولذلك جاءت فكرة العرس، كعامل تأطيري يظهر وجودية المواطن الفلسطيني على أرضه، بأنه يتزوج وينجب، ويكوّن أسرة، ويبني مجتمعًا. ليكون ذلك العامل هو المؤسس الفعلي لأنثربولوجيا الأمل المتجسد بشخصية رنا نفسها، والظاهر على تعبيرات وجهها وصمتها، فانتظارها وثقتها بنفسها واليقين الداخلي المزروع فيها من عوامل توطين الذات بالأمل في العيش بمجتمع منفرد مستقل؛ ولذلك خُتم الفيلم بمشهدين اثنين: مشهد مرئي تظهر فيه رنا، وهي تلبس فستانها الأبيض، وترقص بالقرب من حاجز إسرائيلي، ومشهد نصي من قصيدة “حالة حصار” للشاعر محمود درويش:
هنا، عند منحدرات التلال، أمام الغروب،
وفوّهة الوقت،
قرب بساتين مقطوعة الظلّ،
نفعل ما يفعل السجناء،
وما يفعل العاطلون عن العمل:
نُربّي الأمل.
يا طير الطاير
صوّر هاني أبو أسعد قضايا المواطنة في فيلم “يا طير الطاير” من خلال تمثيل الهوية الثقافية للمجتمع الفلسطيني، من خلال “تخيّل” شخصية الفنان الفلسطيني محمد عسّاف، والتعبير عن رؤية المرأة الفلسطينية لذاتها، ورؤية الآخرين لها، بالإضافة إلى تصوير معاني “الفساد”، والدمج بين الهوية الدينية والثقافية.
تتجلى معالم الهوية الثقافية في الفيلم من العنوان الرئيسي نفسه، فــ يا طير الطاير، هو المقطع الأول من الأغنية المشهورة التي غنّاها محمد عسّاف في برنامج أرب أيدول المشهور، والذي مثل فوزه فيه الانتقال الفعلي من الطبقة الفقيرة إلى الطبقة الغنية، مع الحفاظ على “الرسالة” التي طمح إلى إيصالها إلى العالم، بوجود مجتمع مدني يحب الغناء والموسيقى، ويمتلك “تراثا” يحفظ هويته وقضيته؛ ولذلك يقول ستيوارت هول “مهما يكن أعضاء المجتمع مختلفين بسبب الطبقة والجندرة، فإنّ الثقافة القومية تسعى لتوحيدهم في هوية ثقافية واحدة، وتمثيلهم جميعًا بصفتهم ينتمون إلى العائلة القومية العظيمة نفسها”، أي ينتمون إلى الدولة التي هم “مواطنون” فيها.
وأرى أن الاهتمام بهذه الشخصية، جاء بهدف إظهار تلك الهوية وتعزيزها، فما غنّاه عساف في ذلك البرنامج وفي غيره عبارة عن كلمات تدمج بين المعاصرة والتراث، وتؤسس لشكل جديد من أشكال الهوية الثقافية الفلسطينية، فيا طير الطاير، أغنية تعريفية للمكان الفلسطيني، ولكن من منظور كائن “حر” غير مقيّد، يطير بحرية مطلقة، دون مسائلة، ودون تفتيش. وبالتالي فإنّ “تخيل” الفنان الفلسطيني دفاع عن مواطنة الفلسطيني في أرضه، وإظهار لحقٍّ من حقوقه، وهو الوجود على أرضه، يُعمّرها ويبنيها ويعزز ذاته فيها.
ويمكننا تطبيق قول هول في القضية الثانية من قضايا المواطنة في هذا الفيلم، وهي الدعوة إلى المساواة بين الذكر والأنثى، ويظهر ذلك في المشهد الطفولي لمحمد عسّاف، الذي كان يحثُّ أخته، بشكل مباشر وغير مباشر، لتشاركه الغناء، الذي كان محظورًا على الفتاة، بحكم عادات المجتمع وتقاليده. ففي مخيلة شقيقته، التي توفيت نتيجة الفشل الكلوي، فإنّ عمل المرأة مقتصر على البيت فحسب، فتقول في أحد المقاطع لأمها التي مثلتها منال عوض “ليش تبكي يمه، غسيل الكلى أحسن من غسيل البيت”، وهذه الرؤية الطفولية مبنية على رؤية تقاليد المجتمع الذي تعيشه، والذي لا يساوي بين المرأة والرجل، وأنّ عمل المرأة “مقتصر” على عمل البيت فقط. وظهرت لقطة أخرى مشابهة، عندما ذهبت شقيقة محمد للمطالبة بحقها، مع شقيقها وأصدقائه، من الرجل الفاسد، وأظهرت شجاعتها، سألها الفاسد “انت بنت ولا صبي”، وبعد أن طردهم قال محمد لأخته “ليش تقاتليه هذا مو شغلك”، فهذه الرؤية الطفولية مبنية، كما ذكرت على رؤية ذكورية متأصلة في المخيلة، بأنّ المرأة للعمل البيتي، لا للدفاع عن حقها أو للعمل خارج منزلها.
تتجلَّى الهوية الثقافية في “يا طير الطاير” من العنوان؛ فهو المقطع الأول من أغنية محمد عسَّاف في برنامج أرب أيدول الشهير.
لقطة إشارية
كما صوّر الفيلم أيضًا في لقطة إشارية واحدة لافتقار المواطن في وطنه لأبسط حقوقه، وتُظهر تلك اللقطة برؤية محمد عسّاف (شابٌّ تقطعت أرجله، نتيجة الحرب، يزحف على الشارع، دون أن يمتلك حق الحصول على آلة خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة)، وبالتالي فإنّ هذه اللقطة “البعيدة” تنتمي إلى “الصورة المُدركة” التي تلامس، وبشكل مباشر، الواقع الحقيقي الذي يعيشه المجتمع الغزيّ تحديدًا، لتُخرج تلك اللقطة الفيلمَ بــصورة طبيعية، وفق رؤية الكاتب الإيطالي بازوليني، الذي يرى أن السينما الناجحة هي التي “لا بُدّ أن تكون طبيعية”.
ومن الموضوعات التي طرحها الفيلم أيضًا حاجة المواطن إلى مؤسسات ثقافية تعليمية تتبنى مواهبه، فالتصوير الحركي لمغامرات الأطفال وهم يبيعون السمك، (يُنصب عليهم)، ثم العمل كمنشدين ليتقاضوا مبلغًا من المال، وشراء أدوات موسيقية تساعدهم في توطين مواهبهم، عبارة عن “تعابير دلالية سيميائية” تشير إلى أنّ “المنفعة العامة” لا تشمل كل أفراد المجتمع. وفي هذا يقول أرسطو في كتابه السياسة “متى كان حكم الفرد أو الأقلية أو الأكثرية منصرفًا إلى منفعة العامة، فالدستور صالح بالضرورة” (أرسطو، السياسة، 198)، وهذا من الاعتبارات التي ينبغي الاعتماد عليها لتصوير “حال الدولة”، وتوضيح ثنائية (الفرد/الدولة)، فكلما سعت الدولة إلى توفير خدمات إلى أفرادها، وتبني الموهوبين منهم، كلما زادت علاقة أولئك الأفراد بدولتهم، وأصبح الانتماء إليها المكوّن الفعلي لذلك.