التأكيد على الهوية الثقافية للأزياء العربية التراثية في أفلام سينما المؤلف
5 December، 2023
مرام محمود
حاول العرب تكوين خصوصية ثقافية خاصة بهم، تقوم على بناء وتشكيل هوية مشتركة جامعة للأمة، بعد فترة من الاستلاب والاغتراب خاضتها الشعوب العربية ضدَّ الاستعمار والاحتلال، وحاولوا التمسك بمقومات الهويّة الثقافيّة للأمة العربية، حيث امتزجت الثقافات العربية وتلاقحت معًا، وأصبحت جماع هويات الأمم والشعوب التي انضوت تحت لواء الحضارة العربية الإسلامية، وبهذا كانت الهويّة الثقافيّة هي المعبِّر الأساسي عن الخصوصيّة التاريخيّة والتراثية للأمم.
شكَّلت الأزياء التراثية الثقافيّة بداية النظرة الوجودية للشعوب العربية تجاه ذاتها وانتمائها وهويتها، لتأتي على أولويات الهوية الثقافية الأنماط والأشكال المختلفة للأزياء التراثية للشعوب العربية، واختلاف طرق حياكتها وتطريزها، والممارسات الطقسية في ارتداء الأزياء التقليدية، سواءً في المناسبات الاجتماعية كالأعراس، والأفراح، وليلة الحناء، أو الأزياء التراثية التي يرتديها الرجال والنساء في البيوت أو خارجها، وما تتبعه من الأحكام السلوكية لأفراد المجتمعات العربية المتبعة لارتداء الزي. كما تشكِّل الأزياء التراثية جزءًا أصيلًا من تاريخ الشعوب، فهي تعتبر حصيلة ما وصل إلينا من التراث المادي من إرث الأجداد، حيث تشتمل على إبراز الفنون الشعبية، والحرف التقليدية المصاحبة لصناعة الأزياء، كالتطريز وفن الحياكة؛ ولذا تعدُّ الأزياء من جملة العادات والتقاليد المرتبطة بالقيم التراثية التي تتوارثها الأجيال، والتي تعبِّر عن مدى تفاعل الشعوب بالبيئة الثقافية المحيطة بهم.
قد جاءت السينما لتبرز أهمية الأزياء التراثية والتفاعل الحضاري للشعوب العربية في إظهار التنوُّع الثقافي بينها من خلال الأزياء التقليدية والتراثية، فهي عنصر تشكيلي مهم يساعد في التعبير عن طبيعة الشخصيات؛ إذ يدرك الجمهور- من خلال الأزياء- الأبعاد الاجتماعية، والعاطفية، والنفسية للشخصية، كما يُعبِّر الزي عن الحدث ، وما يتضمنه من معانٍ ورسائل خفية لا تروى إلا من خلاله، وعبر استخدام لون واضح في زي ما، والإشارة لعصر بتفاصيله، وحينها يبرز الجانب التراثي أو التاريخي للأزياء، كما تحظى الأزياء باهتمام من قبل المخرجين، وخاصة في أفلام سينما المؤلف، والتي تعتني بإظهار الموروث الثقافي، والخلفية الاجتماعية للأحداث، فيظهر الزي في مقدمة العناصر التأكيد الهوية، وتجسيدًا حيًّا للتراث، باعتبارها جزءًا أصيلًا يُشير إلى ثقافة شعب من الشعوب وموروثها المحلي، وبذلك تشارك باقي عناصر السرد البصري للصورة السينمائية.
إن مُصمِّم الأزياء له القدرة على تحويل السرد القصصي إلى سرد مرئي، وخلق جمالية مضافة لبنية الفيلم وعناصر التشكيلية المميزة له، خاصة إن كان الفيلم ذا صبغة تاريخية أو تراثية، مما يزيد من مسؤوليات مصمم الأزياء، ويظهر قدرته الإبداعية المتكاملة.
البعد الدرامي للأزياء التراثية
قدّمت السينما العربية من خلال الأزياء، نماذج تؤكد على الهوية في أفلام سينما المؤلف، مثلما قدّم فيلم “فاطمة نسومر” 2014 للمخرج الجزائري بلقاسم حجاج، والذي يروي سيرة شخصية المجاهدة فاطمة بنت محمد بن عيسى، والتي كانت لها همّة عالية ودورًا روحيًّا، باعتبارها المرجعية الدينية لرجال المقاومة، وأحد أبرز وجوه المقاومة ضدَّ الاستعمار الفرنسي في الجزائر. سعى المخرج من خلال الفيلم إلى إبراز طبيعة الحياة الجهادية لهذه المناضلة، فكانت الأزياء والحلي الأمازيغية عنصرًا ملهمًا لاكتمال الصورة الذهنية عن الشخصية، بالإضافة إلى اختيار الخلفية الجبلية المناسبة لأهل القبائل الجزائرية، كما ساعد التصوير واختيار زوايا الكاميرا والإضاءة المناسبة، على إضفاء الإحساس بالمهابة والقوة لهذه الشخصية التاريخية، شكل (1).
وقد كان فيلم “أفراح صغيرة” 2015 للمغربي محمد الشريف الطريبق مُعبرًا بقوة عن الهوية المغربية في حقبة الخمسينيات، كما وفق المخرج في اختيار تصاميم الجلباب والقفطان التقليدي المغربي للنساء بمختلف تشكيلاته وتنويعاتها اللونية، وكانت للأزياء التقليدية المغربية ذات رونق وتأثير على الطابع العام للفيلم، حيث ظهرت العناية الفائقة بصناعة الملابس لإبراز جماليات تلك الفترة، وتبدو ألوان الملابس منسجمة تمامًا مع الديكور بشكل متناغم، شكل (2).
في فيلم “فاطمة نسومر” سعى المخرج إلى إبراز طبيعة الحياة الجهادية لهذه المناضلة، فكانت الأزياء والحلي الأمازيغية عنصرًا ملهمًا لاكتمال الصورة الذهنية عن الشخصية.
ظهرت العناية الفائقة بالملابس في فيلم “أفراح صغيرة” للمغربي محمد الشريف الطريبق؛ حتى أن ألوانها بدت منسجمة مع الديكور بشكل متناغم تمامًا.
اختزال المعاني والمضمون الدرامي للأزياء
هناك اتجاه لدى مخرجي سينما المؤلف العرب للنظر بتقدير إلى التراث الإنساني للشعوب، وسرد الحقائق التاريخية عن حقبة الاستعمار التي مرَّت بها البلاد العربية، ويتم الاعتماد على إظهار الزي التراثي كنوع من الاستئناس بالماضي، كما عبَّر عن ذلك الجزائري مهدي شارف في فيلمه “علبة غولواز” 2007. يظهر ذلك من خلال تسليط الكاميرا على الزي التراثي للمرأة الجزائرية، واحتفاظها بكامل حشمتها أثناء سيرها بالخارج، مع إظهار الملامح البيئية والمكانية للأحياء القديمة والبيوت والسلالم المنحدرة بين الطرقات، وهذا ما يضفي جمالًا محسوسًا على الصورة البصرية للفيلم، كما تظهر قدرة الأزياء على اختزال المعاني الحسيّة المستترة والمتضمنة، كاعتزاز العرب بتراثهم وعاداتهم في تلك الحقبة، وتأكيدًا لمعاني الهوية والانتماء، وتجسيدًا حيًّا للتراث المحلي للشعب الجزائري، وإظهار جانب من تاريخ كفاحهم ونضالهم ضدَّ المستعمر، شكل (3).
كما استطاع المخرج المغربي محمد الشريف الطريبق التأكيد على العادات المغربية الأصيلة، وذلك في فيلمه “أفراح صغيرة” 2015، حيث تُظهر الكاميرا حالة الترابط الأسري بين نساء الدار وهنّ يصنعن المعجَّنات، وقد ارتدين مجموعة من الأزياء التراثية المغربية المتنوعة، في تناغم بصري جميل مع نقوش وزخارف الحوائط الداخلية للقصر المغربي، شكل (27).
يتمتَّع فيلم “جبل باية” 1997 للجزائري عز الدين مدور برؤية جمالية تعكس التراث الأمازيغي، حيث يستند في معالجته على أساطير قبائل الأمازيغ، وعلى الترميز من خلال الصور البصرية، بدل التصريح المباشر، معتنيًا بإبراز جماليات الهوية الأمازيغية عبر استعراض أشكال الأزياء التي تنفرد بها المرأة الأمازيغية، وطريقة حياكتها للملابس وزخارفها المتنوعة والمعبرة عن ثقافتها، وكذلك أشكال الحلي التي تتزيَّن بها، وحتى طريقة الوشم المنقوط على الوجوه، الذي له بُعد جمالي في معتقدات الأمازيغ، والذي يعود تاريخه إلى حياة سكان منطقة القبائل في السنوات الأولى من دخول الاستعمار الفرنسي للجزائر، شكل (28).
كما تظهر قدرة الرموز التراثية على اختزال المضمون الدرامي للفيلم، كما في الفيلم الجزائري “وقائع سنوات الجمر” 1974 للمخرج محمد الأخضر حمينا، الذي تميَّز بلغة سينمائية بليغة على مستوى الصورة السينمائي والحوار، وتمتع بطابع ملحمي وحسٍّ ثوري، ويرصد الفيلم نضال الجزائريين ضدَّ الاستعمار، وتختزل هذه اللقطة معاناتهم وكدهم في تحصيل قوتهم اليومي، وقد حُفرت ملامح الصمود على جبين هذه المرأة كما الوشم، وهي تغزل خيوط الصوف، فالمخرج بذلك أراد أن يُظهر تمسك القبائل الجزائرية بالإرث والهوية والعادات والتقاليد المتوارثة، والتي تمتدُّ جذورها إلى ما قبل اعتناق الأمازيغ للإسلام، وفي هذا اختزال لمضمون الفيلم. شكل (29).
وأخيرًا، فإن للأزياء دورها في تعزيز هويتنا الثقافية، وإبراز تصوّر كامل ورؤية شاملة لبيئة الفيلم السينمائي وطبيعة شخصياته، وخلق حالة متناغمة مع باقي عناصر الفيلم، الأمر الذي ينعكس على أفراد فريق العمل داخل الفيلم، ومن ثَم ينعكس بدوره على المتلقي، وذلك من شأنه أن يُعمِّق الشعور بالهوية والانتماء لبلادنا العربية، ويُضفي مسحة ثقافية خاصة للشعوب تميزها عن بعضها، وتصبح جزءًا من هويتها، مما يُسهم ليس فقط في تعريف العالم بتنوع ثقافتنا العربية، وإنما أيضًا يعمل على تعزيز ثقتنا بأنفسنا، مما سينعكس إيجابًا على إبراز الهوية العربية وحضورها عالميًّا من خلال السينما والإعلام المرئي.
في “علبة غلواز” تظهر قدرة الأزياء على اختزال المعاني الحسيّة المستترة والمتضمنة؛ كاعتزاز الجزائريين بتراثهم وعاداتهم في مرحلة الاستعمار.
للأزياء دورها في تعزيز الهوية الثقافية، وإبراز رؤية شاملة لبيئة الفيلم السينمائي وطبيعة شخصياته، مما ينعكس على المتلقِّي، وعلى أفراد فريق العمل.