“الوثائقي الإبداعي” عربيا التفكير خارج الصندوق
30 July، 2022
بقلم محمد البشتاوي
رافق الجدل الفيلم الوثائقي منذ ظهور اللقطات الأولى تاريخيا، إذ نلاحظ في التسجيل المصور القصير جدًا (45 ثانية) “ساعة الغداء في مصنع لوميير” أن العمال يخرجون من المصنع بملابس أنيقةٍ وليس بالزي الموحد لهم، في حين تظهرُ عليهم حالةٌ من السعادة والمرح، لا تعكسُ وجود تعب وإرهاقٍ جراء العمل. وحقيقة الأمر أن الأخوين لوميير طلبا من عمال المصنع المجيء في يوم الإجازة المخصص لهم من أجل التصوير فقط.
هذه الحالة لإعادة تمثيل الواقع تكررت في أفلام أخرى، حين قام المخرج الأمريكي روبيرت فلاهيرتي في فيلمه الشهير “نانوك الشمال”، الذي أُنتج العام 1920م، بإعادة تمثيل مشهد صيد “فقمة” تم الاحتفاظ بها وجرها أمام الكاميرا باعتبار أنها صيدُ اللحظة.
الوثائقي العربي.. الخروج من الدائرة المغلقة
طوال عقود مضت، والوثائقي العربي، يكرر نفسهُ في الدائرة ذاتها، فنجدُ أن الإنتاج –بالمجمل– يكرسُ المعالجات والصور التقليدية نفسها، وقلما نعثرُ على تجاربَ مغايرةٍ للسائدِ والمألوف؛ إذ طغى على “الوثائقي العربي” الطرح المباشر، وكثيرًا ما كنا أمام “مقابلات جامدة”، وتعليقات سردية طويلة، وافتقار للجماليات البصرية.
بيدَ أن هذه الأنماط التقليدية، المُكدسة اليوم في أرشيفات التلفزيون، أصبحت من الماضي، بعدما تطورت عمليات ووسائل الإنتاج، في ضوء انتشار الفضائيات والمهرجانات العربية المختصة بالفيلم الوثائقي، فدخل الإيقاع المتحرك للصورة، وتحررت الشخصية من إطار المقابلات الجامدة وباتت تتحرك في مسرح المكان، في حين أصبح التعليق أكثر رشاقةً وقدرة على الربط، الأمر الذي أخرجَ “الوثائقي العربي” من دائرة الجمود نحو فضاء أكثر إبداعًا.
تدوير زوايا المعالجة
ليس كل شريط مصور هو بالضرورة “فيلم وثائقي”، الأمر الذي يضعنا أمام تحدٍّ يتعلقُ بإعادة النظر في ما يُنتج عربيًّا؛ فثمة خلطٌ –في بعض الأحيان– بين التقرير والفيلم الوثائقي، علاوةً على التكرار والتعليب في معالجات الأفلام الوثائقية؛ فهل يمكن توظيف خيط من الدراما في الفيلم الوثائقي ضمن سياقٍ يسمحُ بذلك؟ هل يمكن أن نكون أمام لغة شاعرية في التعليق تعمل على مضاعفة تفاعل المتلقي مع الفيلم، أو سرد بصري يأخذ المُشاهد للمتابعة حتى الدقيقة الأخيرة… إلخ؟
الفيلم الوثائقي ليس الواقع بعينه، وإنما فنٌ لمعاينته، وعليه فإن المنتج، أو صانع الأفلام، لا يقدمُ إلا رؤيةً فنية للواقع، يُساعدهُ في ذلك توظيف بعض الأدوات؛ كالصورة والأرشيف المصور (الفيديو)، والصوت (الموسيقى، التعليق)، الإضاءة، الدراما (إعادة التمثيل)، ودون هذه الأدوات نكونُ أمام تسجيلٍ للواقع، الذي باعتقادي يمكنهُ أن يكونَ جزءًا من الفيلم الوثائقي، أو مستقلًا كشريط مصور، لكنهُ بكل تأكيد ليسَ وثائقيًا.
بعض التصورات في السابق كانت تعمل على تجريد الفيلم الوثائقي من أي أدواتِ تأثير، من بابِ منعِ “التلاعبِ بالواقع”، أو تغييرِهِ، لكن في الوقت نفسهِ، كانت هنالك اتجاهات ترفضُ هذا التنميط لمفهوم “الوثائقي”.
ليس كل شريط مصور هو بالضرورة “فيلم وثائقي”، الأمر الذي يضعنا أمام تحدٍّ يتعلقُ بإعادة النظر في ما يُنتج عربيًّا؛ فثمة خلطٌ أحيانا بين التقرير والفيلم الوثائقي.
بين “الوثائقي الصحفي” والإبداعي
التصورات حول الفيلم الوثائقي مختلفة، والمنشغلون على تأطيره ضمن هذه الرؤية أو تلك كُثرٌ ومن ثقافات مختلفة، ومن بين هؤلاء نوي مندل، الأستاذة الجامعية ومؤسسة ورئيسة المعهد الأسكتلندي للأفلام الوثائقية، التي تتبنى في الكثير من أطروحاتها مفهوم “الوثائقي الإبداعي”، الذي لا يعتبرُ طرحًا مستحدثًا، لكنها –أي مندل– تركز عليه وتُعلي من شأنه لدرجةِ أنها تفصل بينه وبين الفيلم الوثائقي “الصحفي أو التلفزيوني” كما تقول؛ إذ ترى في أنماط “الوثائقي” معالجات غير عميقة، في حين تخلط بين أنماط الإنتاج التلفزيونية لتضعَ الجميع في سلةٍ واحدةٍ إلى جانب “الريبورتاج” مثلا؛ فليس كل منتج تلفزيوني هو بالضرورة “وثائقي”.
تتشارك الأكاديمية البريطانية هذا الرأي مع آخرين، يرون أن ثمة فرقًا بين الوثائقي –بأنماطه المختلفة– و”الوثائقي الإبداعي”. ورغمَ أن هذا رأي فيه “تطرف” وتجنٍ على أنماط الوثائقي (التلفزيونية) التي استطاعت مع الوقت تخطي عتبات الرتابة والتكرار والقوالبِ المعلبة، وتقديم وثائقيات مختلفة ومغايرة عن السائد منذ أن ظهر الوثائقي حتى اليوم، إلا أن تجربة “المعهد الأسكتلندي” جديرةٌ بالمتابعةِ والدراسة.
وبحكمِ اهتمامي، تابعتُ بعض ما قدمهُ “المعهد الأسكتلندي” من تجارب في الأردن، لبنان، فلسطين، سورية، وليبيا، علاوة على الأطروحات المقدمة من المعهد، وأهمها الفيديو الذي تتحدث فيه مندل عن “الوثائقي الإبداعي”، بترجمة من مؤسسة “بدايات” في لبنان.
تعتقد الأستاذة الجامعية أن الوثائقي “التلفزيوني” من وظيفته تقديم المعلومات والوقائع مقابل “الإبداعي” الذي يغوص في أعماق النفس البشرية ليقدمَ المشاعرَ والإحاسيس، التي ستبقى معنا لوقت أكثر بكثير من أي حقائق. ومن الأمثلة التي تقدمها على ذلك؛ اللغة الشعرية، إذ تستعرض لقطات يظهر فيها الكادر المضطرب [اهتزاز خفيف] فيما الكاميرا عينٌ ذاتية لراكب على “عربة حصان” ترى سقوط زخات المطر على أرضٍ مبللة لنشاهد ارتطام هذه الحبات بالماء، وخيالات لأناسٍ يتحركون بينما نرى في ما بعد مجموعة من المشاةِ مسرعين تحت المظلات لتفادي المطر والوصول إلى وسائل النقل.
تشرح مندل أن “الوثائقي الإبداعي” يمكنه أن ينقل هذه المشاعر من خلال صور تعبر عن “اللغة الشعرية”، وتشبّه الأمر بالقصيدة؛ فهي توصل “الصور الشعرية” و”الأفكار بعد تجريدها” و”تنقل المشاعر غير المرئية”.
التصورات حول الفيلم الوثائقي مختلفة، والمنشغلون على تأطيره ضمن هذه الرؤية أو تلك كُثرٌ ومن ثقافات مختلفة.
الوثائقي “التلفزيوني” من وظيفته تقديم المعلومات والوقائع مقابل “الإبداعي” الذي يغوص في أعماق النفس البشرية ليقدمَ المشاعرَ والإحاسيس، التي ستبقى معنا لوقت أكثر بكثير من أي حقائق.
أنماط الفيلم الوثائقي
في الجزء الثاني من حديثها، تتناول أنماط الفيلم الوثائقي، لتبدأ مع “الوثائقي الرصدي” الذي يُعنى بتتبع ورصد الشخصية لفترة من الزمن، من أجل تقديم مقاربة حميمة للغاية، تشارك خلالها الشخصية –التي تعرفها أكثر من نفسك– الأسئلة وتتبادل معها الحديث في حين أن تدخلك أمام الكاميرا يكون محدودًا، محاولًا تصوير عفوية الأحداث. وفي مثال على ذلك تشير إلى الفيلم الأمريكي المعروف Grey Gardens للثنائي آلبرت ودايفد مايزلز، الذي يتابعان فيه يوميات امرأتين تعيشان في قصر مهجور ومهمل داخل أحد أحياء نيويورك الغنية.
وإلى جانب “الرصدي”، أُطلقت مصطلحات أخرى على هذا النمط، ومنها: السينما الوثائقية الرصدية أو الشهودية Observational Documentary Film.
بعض النقّاد السينمائيين يرون أن المؤرخ السينمائي الفرنسي جورج سادول كان أول من استخدم هذا التعبير، إلّا أن آخرين يرون أن المخرج السوفييتي دزيغا فيرتوف سبقه في استخدام هذا المصطلح عندما أطلق على مجموعة الأفلام الإخبارية Newsreels التي قام بعمل التوليف الخاص بها، خلال الفترة من عام 1922 إلى عام 1925، مستخدما اسم سينما الحقيقة.
تنتقل مندل إلى “الوثائقي التشاركي” الذي يقترب من “الرصدي” مع فارق وجود تدخل أكبر من المخرج في ما يحدث، حيث يقوم بطرحِ أسئلة مباشرة أثناء التسجيل، أو يبدأ بتشكيل لحظات معينة لتغيير مسار الأحداث الجارية. وتقدم مثالًا على ذلك في فيلم نيك برومفيلد “القائد وسائقه وزوجة السائق”، حيث يسعى المخرج لفترة طويلة إلى أن يقابل تير بلانش (القائد)، وبعد اتصالات ومحاولات يوافق على المقابلة، فيقرر “برومفيلد” عن تخطيط مسبق التأخر عن موعد المقابلة لمدة خمس دقائق، ثم يصور لحظة المواجهة التي يبدو فيها بلانش غاضبا بسبب تأخره ليتصرف دون انضباطٍ ويتحدث بشكل انفعالي.
ترى مندل أن برومفيلد نجح في إظهار مشاعر بلانش حين يغضب، ليظهر كيف يتصرف ويفقد أعصابه بسرعة و”بدون سبب”، فخمس دقائق فقط تمكنت من خدش شعوره؛ فهو لا يسمح لأحد من حولهِ أن يتأخر عليه خمس دقائق.
ما قام به برومفيلد يتكرر في بعض الوثائقيات، لاسيما الاستقصائي، إذ يعمدُ المخرج إلى استفزاز الضيف/الشخصية عبر الأسئلة، الوثائق، الفرضيات، من أجل دفعهِ نحو إخراج ما لديه من معلومات، وقد يلجأ البعض من المخرجين إلى الأسلوب التدريجي في نسج العلاقة مع الشخصية أو الضيف والتصعيد في مواجهته حتى يصل منتج الفيلم إلى لحظة فارقة يتمكن عبر الإمساك بها من استنطاق الشخصية واستخراج ما لديها.
الناقد السينمائي الأمريكي بيل نيكولز في حديثهِ عن هذا النمط من الأفلام، يوضحُ ملامحَها فهي تهدف إلى إيجاد “الفورية” وتفاعل المخرج مع الضيف، وغالبًا ما يقدم صانع الفيلم وجهة نظرهُ في الأفلام التشاركية، مشيرًا إلى الأفلام الوثائقية لمايكل مور، وفيلم “الحكايات القاتمة النائمة” حينما أصبح نيك برومفيلد جزءًا من القصة وهو يحقق في القاتل المتسلسل، موضحًا نيكولز أن العمل الاستقصائي يدخل أيضًا في النمط التشاركي في صناعة الأفلام.
تنطلق بعد ذلك إلى الفيلم “الوثائقي الشعري”، النمط الذي ترى فيه “معالجة شخصية للغاية” يقوم بها المخرج، تقوم على جمع الصور والمواد البصرية ومن ثم العمل على معالجتها فنيا عبر المونتاج دون وجود رابط مباشر لهذه التوليفة مع موضوع الفيلم، ومثالًا على ذلك تقدم فيلم “العراق في شظايا” للمخرج الأمريكي جيمس لونغلي الذي يتتبع ما حدث في العراق بعد الغزو في العام 2003م، إذ عمد المخرج إلى عرض مجموعة من الصور واللقطات غير متصلة مباشرة بحالة الغزو، بينما قام بتركيب بعض أصوات الشخصيات المشاركة في الفيلم، وذلك “لخلق عالم داخلي”.
تنوعت مصطلحات هذا النمط من الأفلام بين “الشعري” و”الشاعري”، الذي يمتلك رؤية محددة للعالم، في حين عرَّفها البعض بأنها أفلام تخاطب المتلقي بلغةِ الصورةِ من خلال الابتعاد عن “الواقع الموضوعي” بهدف الإمساك بالحقيقة الداخلية. لغة الصورة عبر عين الكاميرا تمرر هنا رسائل إلى المُشاهد توحي بالأمر ولا تتحدث به.
وعلى خط مواز لـ”الشعري”، يأتي “الوثائقي الانعكاسي” الذي يعمل على توظيف تداعي الأفكار والمواقف والأشخاص والكلمات عبر المخرج، الذي يُشارك بنفسهِ في الحدث، والفرق هنا عن نمط الأفلام التشاركية، أنه –أي المخرج– يكون المحور الرئيس في الفيلم الذي يخاطب به المتلقي.
وبحسب أستاذة الإعلام الدكتورة منال أبو الحسن فإن هذا النمط تظهر فيه الرؤية الذاتية لصانع الفيلم؛ فالإخراج هنا يهتم أكثر بالمشهد من الموضوع، ويكثف الشعور بالكادر السينمائي بدلا من التوثيق … إلخ.
في “الوثائقي الفكري” تشرح الأكاديمية البريطانية أن المخرج يعمدُ إلى تطوير فكرةٍ لتكون محل نقاشٍ سياسيٍّ أو فلسفي، أو كليهما، وفي ضوء ذلك ترى مندل أن هذا الفيلم يقوم بـ”مقاربة عالمية للفلسفة من خلال محاولته جمع ثراء العالم في فيلم واحد”، مشيرة إلى فيلم “بلا شمس” للسينمائي الفرنسي كريس ماركر دون أن تفصل بشأن أسلوبهِ الفني.