قراءة نقدية لفيلمي “أسماك حمراء” و “ميكا” …. تحدِّي المستضعفين في السينما المغربية
5 December، 2023
محمد فاتي
لا شكَّ أن السينما هي مرآة الواقع، وصورة معكوسة عن تجارب فئات اجتماعية مختلفة في العالم. ولطالما كان الفن السابع هاجس مبدعين كُثر، في نقل ما تقاسيه الفئات الهشة في الحياة، حيث انبنت رؤى العديد من المخرجين، في تصويرهم لهذه الطبقات المهمشة، على ثنائيات متناقضة من القيم والأفكار والأوضاع المقابلة في مجموعات اجتماعية أخرى (متنافرة).
وقد جسَّدت السينما المغربية، عبر العديد من الأفلام، قضايا الطبقات المستضعفة، من خلال التركيز على فئات تتقوقع في مواقع هامشية في المجتمع. لا تجد السند والعضد، لا تحظى بحماية وآمان، تفتقد للعناية والاهتمام، تعاني في صمت وإذعان، تقاسي حياة الكدِّ والشقاء، تعيش الخضوع والخنوع، تتعايش مع حياة الذلِّ والمهانة، تجابه أغوال الوقائع وذئاب الطبائع، تقاوم الأخطار والأشرار، تتحدى الصعاب والأتعاب. وتتكون تركيبة هذه الفئات غالبًا من الطبقات المسحوقة في المجتمع، كالنساء والأطفال والمتشردين والفقراء والمضطهدين والمعاقين… إلخ. وهي طبقات تحاول إثبات كيانها وحضورها، ترغب في الإعلان عن نفسها وإبراز دورها، تهدف إلى نقل تجاربها والبوح بهواجسها، تسعى إلى التعبير عن أحلامها وأحاسيسها….، متحدية في ذلك كل العراقيل التي تقف حاجزًا صعبًا أمام طموحها، وسدًّا منيعًا أمام رغباتها.
وسنحاول أن نقف، في هذه الدراسة، مع فيلمين مغربيين تناولا عينتين اجتماعيتين تنتميان إلى فئة المستضعفين، وتخوضان معركة الحياة بحلم وأمل ومواجهة لكل الأشواك التي تقف في طريقهما. الفيلم الأول “أسماك حمراء”، ذلك الفيلم الذي ينقل لنا مغامرة مجموعة من النسوة المضطهدات اللاتي دفعتهنَّ الظروف القاهرة إلى سلك طريق وعرة، مليئة بالمآزق والتحديات. والفيلم الثاني “فيلم ميكا”، الذي يركز على براءة الطفولة المهمشة، ومقارعة الصغار لعالم الكبار، في سبيل توفير لقمة العيش، وتنفيذ طلبات الأسرة الفقيرة، ومن أجل تحقيق هواجس الأنا وأحلام النفس وآماني الذات في النجاح والارتقاء والبطولة.
“أسماك حمراك” ينقل مغامرة مجموعة من النسوة المضطهدات اللائي دفعتهنَّ الظروف القاهرة إلى سلك طريق مليئة بالمآزق والتحديات.
يركز “ميكا” على براءة الطفولة المهمشة، ومقارعة الصغار لعالم الكبار؛ تحقيقًا لأماني الذات في النجاح والارتقاء والبطولة.
“أسماك حمراء”، نساء في مواجهة الحصار
“أسماك حمراء” هو الفيلم السينمائي الطويل الثاني للمخرج المغربي عبد السلام الكلاعي، بعد عشرة أفلام تليفزيونية. يدور الشريط حول شخصية “حياة” (جليلة التلمسي) التي تغادر السجن، حيث أمضت عقوبة طويلة المدة بسبب قتلها لزوجها المتسلط، الذي كان كثيرًا ما يعتدي عليها بالضرب والسبِّ والشتم والإهانة، والتهديد بالقتل.
تعود “حياة” إلى مسقط رأسها في العرائش شمال المغرب، لتجد نفسها في مواجهة أخ يرفضها خوفًا من كلام الناس، حيث تلتقي حياة به بعد خروجها من السجن، لكنه يعتذر لها عن استقبالها في منزله؛ نظرا للعار الذي لحقها بسبب جريمتها أولًا، ولرفض زوجته المتسلطة حضورها للمنزل ثانيًا. فتضطر للبحث عن كراء وتترجى أخاها (أمين الناجي) للبحث عن فرصة عمل لها كطلب وحيد منها، تشتغل في البداية في معمل لتعليب التوت الأزرق، وهناك ستتعرف على صديقتها أمل (فريدة بوعزاوي)، وتشاركها الكراء في منزل صغير رفقة الأخت الصغيرة “هدى” (نسرين الراضي) المصابة بشلل دماغي، وإعاقة ذهنية.
بعد خلاف في العمل بين أمل وإحدى العاملات في المصنع، سيطرد المدير البطلتين المشاغبتين، لتعملا في مزرعة بين عشرات النساء، وتواجها معًا لعبة الحاجة والاستغلال، ووصمة العار المزمنة، في منظومة قيم مختلة، وفي مجتمع مريض بشتى العلل الاجتماعية. خاصة في ظلِّ تسلط ذكور المجتمع الذين يطحنهم، أيضًا، واقع سوسيواقتصادي قاهر، بسبب الفقر والحرمان، وظروف الحياة الصعبة.
ستقرر أمل الهجرة إلى الخارج؛ للتمكُّن من إعالة أختها المعاقة، وستكلف صديقتها حياة بأخذ هدى إلى جمعية للعناية بالأشخاص المعاقين للتكفل بها، إلى حين عودتها من جديد. بينما ترفض حياة الاستسلام أمام تسلُّط المجتمع الذكوري في هذه الضيعة الفلاحية، فتقاوم تحرُّش القيِّم على المزرعة (الممثل زكرياء عاطفي)، وتجابه مضايقات سائق حافلة النقل (الممثل سعيد باي)، وتأبى أن تنصاع لرغبة أي من الوحوش الآدمية التي ترغب في استهلاك جسدها، مؤكدة بأن تفضيلها لهذا العمل الشاقِّ في الضيعة، هو إثبات ودليل على رفضها لأي وسيلة أخرى غير مشروعة في سبيل الحصول على المال (بيع جسدها).
وصمة العار
وبالموازاة مع ذلك، تحاول حياة، بشتى الطرق وكل الأساليب، إقناع ابنها بأن جريمتها لم تكن مقصودة، وأن والده هو من أرغمها على ذلك، بسبب اضطهاده لها، واعتدائه المتكرر عليها بالضرب والسحل، والسب والشتم، التسلط والتجبر. لكن الولد كان يتهرب منها في كل لقاء، ويرفض مقابلتها أو الإنصات لأي كلمة تصدر منها في هذا الموضوع، إقرارًا منه بمسؤوليتها في الجريمة البشعة التي أودت بها إلى السجن. لكن حياة تقاوم أيضًا وصمة العار هاته التي لحقتها من نظرة الأسرة والعائلة والمجتمع، وتتمكن من تأكيد دعواها للابن، وإثبات حجتها وبرهانها في غياب النية والتعمد في الحادثة التي وقعت. وهذا ما يظهر لنا جليًّا في المشهد الأخير من الفيلم، حيث نلتقي بالابن وهو يطلب من سائق شاحنة العمال أن يتوقَّف من أجل إنزال أمه، ويستقبلها بسيارته الخاصة، ليضمها إلى حضن العائلة من جديد؛ برهانًا على تصديقه كلامها، والتسليم ببرهانها، والقبول بوجهة نظرها، والإذعان لتبريرها.
بخروج حياة من السجن، كان عليها أن تقاوم نظرة المجتمع وتصوراته السلبية، أن تجابه رؤية العائلة والأهل والأسرة التي اختلَّت بسبب ما اقترفته سابقًا في حق زوجها، أن تواجه إحساس النفور والإعراض والتهرب من الجميع: الأخ والابن والعائلة، وحتى أقرب الصديقات.
فبعد استرداد حياة لحريتها اشترت حوضًا لسمكة حمراء، وقررت أخذه معها إلى مسكنها الجديد، رفقة أمل وأختها المعاقة هدى. هذه الأخيرة اتخذت من هذه السمكة أنيسًا لها في وحدتها وعجزها وإعاقتها، فكانت حريصة على إطعامها واللعب معها والانتشاء بحركاتها داخل السياج المائي. لكنها أحست بعجز السمكة هي الأخرى في هذا الفضاء الصغير، ولاحظت حريتها المقيدة في أغلال هذا المحيط الزجاجي، فطالبت من حياة تخليصها من هذه الورطة، وتحريرها من هذا الحجز، وإطلاق سراحها في البحر الممتد، أصل وجودها وينبوع نشأتها ومصدر حياتها.
وهدى رغم ألمها النفسي وضعفها البدني وعجزها الجسدي، فإنها محبة للحياة عاشقة للسعادة، وهذا ما جعلها تبحث عن تحقيق هذه الغاية في سبيل حرية هذا الكائن الصغير الذي شاركها ضعفها، وتماهى معها في حالة العجز والوهن والقيد. وقد أدى هذا الحوض المائي وظيفة رمزية بليغة في الفيلم، انتقاها المخرج عبد السلام الكلاعي بفنية وقصد جمالي، للتعبير عن قضايا وهموم أبطال الفيلم. فقد اختار المخرج أن يضع سمكة حمراء في هذا الحوض، محاصرة بسياج زجاجي، تتحرَّك في محيط محدود، غير قادرة على مغادرة المكان، عاجزة عن تجاوز الحدود. وهذه الوضعية المكبلة لها ارتباط مجازي بالقيود التي تحاصر بطلات الفيلم الثلاث (حياة وأمل وهدى). وهذا الحصار يمكن رصد تجلياته من خلال ما يلي:
حصار أخلاقي – عائلي
وهو الذي واجهته البطلة حياة بعد خروجها من السجن، حيث اصطدمت بنظرة المجتمع السلبية إليها، وبنفور شلة العائلة منها، وبحقد الابن تجاهها، وبرفض الأصدقاء لقاءها؛ بسبب العار الذي لحقها بعد ارتكابها لجريمة قتل زوجها. فإذا كانت حياة قد تخلصت من سجن القانون، إلا أنها ظلت محتجزة في سجن أخلاقي، قوامه القيم الاجتماعية التي ترسخ لصورتها السلبية كمجرمة فتكت بزوجها.
حصار اجتماعي
ويتجلى أساسًا في الطبقة الاجتماعية الهشة التي تنتمي إليها بطلات الفيلم، الطبقة العاملة، الفقيرة، المحرومة، المهمشة… فقد أرغمتهنَّ الظروف القاسية على ولوج ميدان العمل، والتعويل على الجهد البدني في محيط عمل شاقٍّ وعسير، يحتاج إلى المثابرة والجهد والصبر والمكابدة والنفَس الطويل…. فقد ركز هذا الشريط كثيرًا على الطبقة النسوية، وأبرز أهمَّ تضحياتها في سبيل بناء الأسرة، وربط آواصر العائلة، وتوفير لقمة العيش، عبر الكد والعمل والتعويل على النفس، في سبيل العيش الكريم، وحق الحياة، وغريزة البقاء، حتى وإن كان ثمن ذلك، قسوة العمل، وتسلط الأرباب، واستغلال الملاك، وتنمر الحراس، وتحرش المشغلين.
حصار صحي جسدي
ويتعلق بالمرض الذي يكبل الطاقة الجسدية للفتاة هدى أخت أمل (صديقة البطلة). وهي سجينة جسد يحلم بالحركة والحب والنشوة، لكنها عاجزة لإصابتها بشلل دماغي، وهذا ما يؤثر في سلوكها داخل المنظومة الاجتماعية؛ كونها فتاة مكبلة القوى، غير قادرة على المشاركة والمساهمة في الحياة الأسرية والعائلية، محرومة من أبسط حقوقها: المشي، الحركة، الاستحمام، التجول، التعليم، اللعب، العمل، الصحبة، الحب والعاطفة… إلخ، ولا تستطيع تأدية العديد من هذه الأنشطة، إلا بمساعدة مضنية من شقيقتها أمل التي تضحِّي في سبيلها، أو من طرف حياة التي تعرَّفت عليها هدى حينما جاءت للسكن في البيت.
الفيلم، إذن، يصور كدَّ العاملات في المعامل، ومكابدتهنَّ في العمل الشاق بالضيعات الفلاحية لساعات طويلة دون توقف. وهذا لا يتم دون ضغط ومضايقات واستفزازات من طرف فئة الرجال: المتسلطين والمستغلين والمتحرِّشين (مدير المصنع، القيِّم على العاملات في الضيعة، سائق شاحنة النقل). فالجميع يحاول الاعتداء على كرامة هؤلاء النسوة، والكل يقف عثرة أمام أحلامهنَّ، وحاجزًا يصدهن: بالإخضاع والاحتقار، بالاستفزاز والإهانة، بالقمع والمنع، بالإخلال والاستغلال، بالانتهاك والتعدي، بالسلب والاستيلاء. هكذا نجح المخرج عبد السلام الكلاعي في تمثُّله للبعد الواقعي للأحداث، عبر تقريب المشاهد من أنواع مختلفة من النضالات التي تخوضها النساء، من أجل حياة أكثر حرية وكرامة، ضدَّ قوى الظلم والقهر والاستغلال.
تجلى الحصار الاجتماعي في الطبقة الاجتماعية الهشَّة التي تنتمي إليها بطلات “أسماك حمراء”، بينما تجلى الحصار الصحي في المرض الذي أصاب هدى.
“ميكا”.. ولادة بطل من رحم الفقر والتهميش.
يعتبر الفيلم المغربي “ميكا” أحدث الأعمال السينمائية للمخرج المغربي إسماعيل فروخي، وهو من إنتاج سنة 2020، وبطولة كل من صبرينا وزاني، وعز العرب الكغاط، بالإضافة إلى الطفل زكرياء عنان.
يحكي الفيلم قصة الطفل «ميكا»، الذي يعيش في أحد أحياء مدينة مكناس الفقيرة، مع أبوين مريضين، في وضعية اجتماعية صعبة. يصطحبه رجل عجوز إلى الدار البيضاء، ويُعرِّفه على أحد الميسورين للعمل في نادٍ للتنس بالدار البيضاء، ومن منطلق استعداده لفعل أي شيء حتى يغير مصيره، سيلفت أنظار مدرّبة لكرة المضرب «صوفيا»، التي لاحظت موهبته في ممارسة رياضة الكرة الصفراء، لتعتني به، وتستمر أحداث الفيلم، في رصد مصير الطفل «ميكا»، أمام صعوبات الواقع الجديد وتحديات الخلاص. وتتواصل أحداث الفيلم السينمائي، فيجد “ميكا” نفسه لاعبًا محترفًا، ويقدِّم مباراته بمهارة عالية، منتحلًا صفة ابن رئيس النادي، ويحقق حلم احترافه رياضة التنس على أرض الوطن، ثم تتغيَّر نظرته حول الهجرة إلى الخارج.
يصور الفيلم، إذن، بعض القضايا الاجتماعية التي بصمت حبكة القصة بطابعها الدرامي وبعدها الواقعي، كالتفاوت الطبقي الصارخ بين:
– أغنياء الدار البيضاء: بلكنتهم الفرنكفونية (الدارجة المفرنسة)، وحياة الرفاهية التي تتعدد مظاهرها في الشريط: تمكين أطفالهم من التعليم والتثقيف وإتقان اللغات، الحرص على تزويدهم بالأكل الجيد والملابس النظيفة، تزويدهم بكل وسائل التسلية واللعب والنشاط، تسجيلهم في نوادٍ رياضية للاستمتاع بممارسة التنس (رياضة الأغنياء)…. إلخ.
-الطبقات المهمشة والمستضعفة: وهي طبقات فقيرة تعيش في أسفل السلم الاجتماعي، لا تجد ما يسدُّ رمقها، فتضطر إلى تشغيل أطفالها الأبرياء، وحرمانهم من حقوقهم الطبيعية وهم في سنٍّ صغيرة (أسرة البطل المعوزة). أطفالهم يعانون الفقر والحرمان والتشرد والقهر، لا يجدون ما يسدُّ جوعهم، تدفعهم الظروف إلى العمل الشاقِّ (ميكا)، أو إلى التشرد والانحراف وتعاطي المخدرات والسرقة والجريمة (أطفال الشوارع في البيضاء)، أو إلى حلم الارتحال والاغتراب في الخارج، والمغامرة بحياتهم عن طريق محاولاتهم الخطيرة في الهجرة السرية (البطل ميكا وصديقه).
ولعبت الأزياء دورًا بارزًا في الإيحاء بالفوارق الطبقية الشاسعة بين أغنياء البيضاء ومهمشيها، حيث نصادف الملابس الراقية النظيفة، والماركات الرياضية الفارهة لأطفال الطبقات الغنية الذين يأتون إلى التدرُّب في ملاعب التنس. والملابس الرثَّة والمتسخة التي يلبسها البطل أثناء العمل، أو أثناء ممارسته لهوايته المفضلة (التنس).
في سبيل الحلم
وقد كان البطل كثيرًا ما يمارس تدريباته في غرفته المظلمة، دلالة على تصميمه ومواظبته، ومكابدته ومجاهدته في سبيل تحقيق حلمه بممارسة هذه اللعبة التي أثارت شغفه. وما يؤكد هذا الولع والانجذاب باللعبة، هو طلبه المساعدة من مدربته من أجل التمرن في أوقات فراغه (في الصباح الباكر قبل بداية عمله)، ومقاومة الإجهاد البدني المضاعف (تعب العمل وتعب التدريب)، والإجهاد النفسي (قلة النوم والقهر النفسي)، في سبيل الاستمرار في حلمه وعشقه وولعه (ممارسة التنس).
استقرَّت فكرة الهجرة في بال الفتى الصغير، بعد أن اشتدَّت الضغوط، وتأزمت الظروف وتعقدت الأمور، وهذا ما دفعه إلى طلب المشاركة في واحد من دوريات الفئات الصغيرة بهدف جني المال، لدفعه إلى الوسيط الذي سيساعده في الهجرة. ولما علمت مدربته بهذا الخبر غضبت منه، خاصة أنها كانت ترى فيه موهبة مشرقة في عالم التنس، فألقت عليه بساعتها الباهضة الثمن، وانصرفت غاضبة من جبنه وضعفه واستسلامه لقهر الواقع وإكراهات المجتمع. أخذ ميكا الساعة واتجه صوب الميناء من أجل الهجرة، وفي الأمتار الأخيرة سيقرِّر التراجع عن هذه الفكرة، والعودة إلى الجد والعمل والإلحاح في سبيل تحقيق حلمه الرياضي. وهذا ما أسعد مدربته، التي تفاجأت بحضوره في مباريات الدوري الذي نظمه النادي الرياضي.
ويحفل الفيلم بالعديد من المشاهد البلاغية، واللقطات الرمزية التي تؤكد الصلة بين موضوعه، ومقاصده الفنية والفكرية والإنسانية:
– دلالة السحابة التي تبرز في مطلع الفيلم على شكل طائر محلق في السماء، وتوحي بحلم الطفل الصغير نحو العلا والنجومية والنجاح، برغبته في معانقة النصر والصعود لسماء المجد.
– دلالة المكنسة التي كان يحملها الطفل ميكا أثناء العمل (تنظيف الملاعب). حيث كان يحاول تقليد مدربة التنس صوفيا في استعمالها للمضرب، عن طريق حمله للمكنسة، ومحاكاتها في طريقة اللعب، ولكن بدون كرة. نحن هنا أمام لقطة بليغة لها ارتباط وثيق بحلم البطل الفقير/المهمَّش في أن يكون بطلًا؛ كونه شغوفًا باللعبة، متحفزًا للفوز والانتصار، متطلعًا للألقاب والبطولات، رغم العوز والهشاشة، الهشاشة التي جعلته يتعرض لكل أنواع القسوة والسخرية والتنمُّر من أبناء الطبقات البرجوازية الذين يأتون للتدرب في ملاعب التنس. والاحتقار الذي يتعرض له سببه الأول وضعه الهامشي في المجتمع: فقدانه للسند، موت الأب بسبب المرض، فقر الأم واضطراره للعمل لإعالة الأسرة، حرمانه من رؤية أمه وإخوته، العمل كمنظِّف لمرافق الملعب، وبستاني في جنباته الخضراء. فكان ميكا، كثيرًا، ما يلجأ إلى الصمت والخنوع، بدل المواجهة التي قد تهدد مكانه في العمل.
يحفل “ميكا” بالعديد من المشاهد البلاغية واللقطات الرمزية التي تؤكد الصلة بين موضوعه ومقاصده الفنية والفكرية والإنسانية.
إيحاء بالأمل
وفي المشهد الأخير اقتنص المخرج، بلقطة فنية بارعة، نهاية المقابلة التي أجراها الفتى ميكا في الدوري، وسقوطه منهكًا بعد أداء حماسي كبير، رغم الهزيمة. سقط الطفل على الأرض سقطة مؤلمة، أصيب على إثرها في معصمه، وركزت الكاميرا على وجهه وهو ملقى على أرضية الملعب، ينظر إلى السماء (من الأسفل إلى الأعلى) حيث النوارس تحلق في السماء، إيحاء بالأمل والحلم في النجاح، وتسلق المراتب والوصول إلى المجد.
ثم بعد ذلك بدأت الكاميرا تصعد نحو السماء، مركزة عدستها على جسد البطل الملقى على الملعب، في لقطة بعيدة اقتنصت من الأعلى إلى الأسفل، من شموخ النصر إلى ميدان الملحمة، من سماء المجد إلى أرض الواقع: حيث الرغبة والعزيمة، حيث الكد والمثابرة، حيث الحلم والسعي نحو العلا، حيث الحماس والحافزية…، وهذا ما زكَّته المدربة بدخولها داخل حقل التأطير، وسعادتها بأداء ميكا، وتشجيعه للنهوض من الأرض بعد هذه المباراة الرائعة، فانتهى الفيلم وهو يؤطر هذا المشهد، والكاميرا تصعد شيئًا فشيئًا إلى الأعلى، بينما المدربة تساعد تلميذها البطل في استجماع قوته، للنهوض مجددًا نحو الأمل، نحو الهوس، نحو الأمنية، نحو الحلم، نحو المجد.
هكذا نصل، في الختام، إلى التأكيد على قيمة الفن السابع في تصوير الواقع، ونقل التجارب الإنسانية للعديد من الفئات المستضعفة التي تعيش أنواعًا متعدِّدة من الصراع. هذا الصراع الذي يتمخَّض عن مجموعة من التناقضات الصارخة التي يعرفها المجتمع، والتي تولد هذه المواجهة- غير المتوازنة- بين طبقات متفاوتة ومتباينة من حيث الحلم والهاجس والهدف.