• English
  • 14 يناير، 2025
  • 5:45 ص

“لو كان يطيحو الحيوط” لحكيم بلعبَّابس: تحرير ذاكرة المكان

“لو كان يطيحو الحيوط” لحكيم بلعبَّابس: تحرير ذاكرة المكان

13 June، 2023

سليمان الحقيوي

في مُنجز المخرج المغربي حكيم بلعبَّاس (1961) الذي بدأ بفيلم “خيط الروح” (2003) وأشلاء” (2010)، و”محاولة فاشلة لتعريف الحب” (2012)، “عرق الشتا” (2016)، وصولًا إلى  “لو كان يطيحو الحيوط (2022)؛ هناك ملمح لا تخطئه العين في مسار ممتدٍّ يميل نحو الذاكرة والإنسان. ولملمة المستطاع منها. هناك خوف تُضمره هذه الأفلام مجتمعةً عن مصير حكايات تحتاج إلى أن تحرِّرها الكاميرا قبل أن يطالها النسيان. وفزع دائم من فقدان عناصر رمزية: مشاعر، طقوس، هواجس، مخاوف. هذه ــ ربما ــ مهمّة تعتلي قائمة انشغالات المخرج، وهو منهمك خلال عقدين في التنقيب بين دهاليز ذاكرته وذاكرة مسقط رأسه مدينة (أبي الجعد).

لا يمكن النظر لجديده إلا داخل ذلك المسار المصحوب بطريق آخر موازٍ له، وهو معتركه الدائم بين الشّكل والمضمون، بين نضج أسلوب وملحاحية قصص تختزنها الذاكرة، وضمن هذه الإمكانية يقدّم مقترحاً سيصبح ولا شكّ أحد أجمل الأفلام المغربية عبر تاريخها.

لا يمكن النظر لجديد حكيم بلعبّاس إلا من خلال مسار مصحوب بطريق موازٍ له، مسار يجمع بين الشَّكل والمضمون، ونضج الأسلوب وإلحاح قصص تختزنها الذاكرة.

حياة غير عادلة

حياة غير عادلة

في فيلم “لو كان يطيحو الحيوط”،  يبلغ المخرج مستوا آخر من  تَمثّل أسلوبٍ لطالما آمن به. وهو القدرة على الوصول إلى أسئلة الحياة عبر تفاصيل قد تبدو عابرة أو مهملة. في تلك التفاصيل يقول المخرج أو تقول الكاميرا، لطالما كانت الحياة هنا. أنت في المشهد الأول مثلًا أمام :كراسِي متراصَّة كقاعة سينما (في ملكية والد المخرج) ، زاوية سقف مهترئة، نثرات غبار يكشف عنها الضوء المنبعث من آلة العرض. ثم بين كلِّ هذه الأطلال سيّدة تجلس وكأن المكان استفزَّ ذاكرتها للتوِّ. مشهد آسر به قدرة كبير على استنطاق فعل الزمن في الإنسان والمكان على حدٍّ سواء. ثم يسلمنا مشهد البداية لحكايات متوالية. حكايات لا تخضع لرابط سردي، بقدر ما تجتمع حول فكرتي الفقد والألم. من تلك الحكايات سيدة وطفلها يفقدان الزَّوج/الأب، ويُصبح شبحه جزءًا من حياتهم. الأب الغائب في الحكاية الأولى حاضر في الحكاية الثانية، فهنا يفقد الأب ابنه ويعيش ذكراه، ويتخيله فى كل الأوقات. وما بين الفقدين نتعرَّف في حكاية أخرى على سيّدة محرومة من الإنجاب بسبب مشكلات زوجها. تجرّب كلّ الخطط من أجل خلط أوراق القدر، لكن دون جدوى. وابنة تعانى الحرمان والحب. ثمّ رضيع يفارق الحياة ويترك والدته في حسرة رهيبة. ورجل عاش منعزلًا ووحيدًا بعد سنوات الحرب، وحين واجه الحياة مات. وأخيرًا سيدة تفقد أمها العجوز فى يوم زفاف ابنتها، فتقرر كبت الخبر حفاظًا على جوّ الفرح.  إنّها حكايات يتنوّع فيها الفقد وأسبابه، لكنها لا تنفكُّ تقول إن هذا سرّ الحياة؛ غير العادلة، والمؤلمة، لكنها تسير رغم ذلك.

كلّ شخصيات الفيلم  تُساق إلى قدر أقوى منها، فاعليتها معدومة أمام ما تواجهه، للزّمن أثره وفعله وقسوته، يحدث هذا التقابل بين شخصية الشّيخ الذي يبلغ أقصى طموحه أن تعمَّ السكينة الزقاق. حيث ينزوي في غرفته كي ينعم بلحظة هدوء، لكن الأطفال بحويتهم يملئون المكان ضجيجًا وهم يلعبون الكرة، يحتجّ هو. ويعاندونه بالمزيد من الصداع! يحتكم أقواهم والشيخ إلى سباق بينهما يحدّد أحقية القرار في الزقاق، يجري الشيخ بصغ خطوات ثم ينهار، بينما يركض الطفل بعنفوان منهيًا المسار، تعتلي ملامح الطفل حسرة كبيرة، تعاطفه يعكس فهمه للعبة الزمن، المآل الذي سينتهي إليه يومًا، لا نعرف ما غاية الشيخ من المنافسة، هل كانت غايته أن يتسابق؟ أم أن يقدّم هذا الدرس؟ درس الزّمن.

مشهد من فيلم لو كان يطيحو الحيوط

في هذا الفيلم- كما في باقي أفلام حكيم- بلعباس، نواجه السؤال المتجدِّد عن الوثائقي والروائي، المخرج يرى ألَّا فرق بين فيلم وثائقي وآخر روائي، هناك سينما فقط! موقف لا يضعنا بعيدًا عن قول غودار: “كلّ أفلام التّخييل الكبرى تنزع نحو الوثائقي، نزعة الوثائقيات إلى التّخييل.. وإنّ من يختار أحدهما بعناية يجد نفسه أمام الآخر بالضرورة…”. ثم قد يصبح السيناريو في الفيلم مجرَّد ذريعة بتعبير تاركوفسكي، ما يهم في أفلامه هو حرارة الحياة المنبعثة من كلّ شيء قد نصادفه أو نعيد اكتشافه؛ بخطّة أو بدونها. المهم أن تكون هناك قدرة على التقاط إشارت قد لا نصل إليها عبر نصوص مكتوبة بدقّة، يعبّر المخرج عن هذا في مشاهد فيلمه التي اعتبرها هِبات طبيعة لم يكن يخطِّط لها، إنشاد الفارس وهو ينظّف فرسه داخل البحيرة، القطّة المتلصِّصة على طاقم التصوير فوق مبنى، إنها لحظات تأتي في سياق حقيقي وصادق، ثم تجد مكانها ضمن سياق الحكي.

ما يهم بلعباس في أفلامه هو حرارة الحياة المنبعثة من كلّ ما نصادفه، والقدرة على التقاط إشارت قد لا نصل إليها عبر النصوص المكتوبة.

كيمياء المشهد

كيمياء المشهد

المكابدة الحقيقة والمفترضة، بخصوص الفيلم كانت ولا شك متعلقة بكيفية القول/الأسلوب. كيف ستصبح ارتجاجات الذاكرة تلك؟ وهي بالمناسبة ذاكرة جماعية، ولا تخص طفولة المخرج وحده، بل ذاكرة الأم، المدينة، السكان، البلد برمّته. كيف سيكبح جموح تلك الحكايات في إطار يُشذّب القصّة ويقزّمها، وتُصبح رغم قصرها متعدّدة القراءات والدلالات، ويجعل منها مشتركًا إنسانيًّا؟ هكذا كانت تلك  القصص المعلقة تلتقي في حتمية الموت واستحالة مراوغته. الشخصيات المعذَّبة يمكن أن تكون على هذا النحو، أيًّا كان المصير الذي يعترضها أو يفتك بها، والذي قد يعترضنا الآن أو بعد حين. يُصبح هذا الشعور ملازمًا لك وأنت تشاهد الفيلم. ومن  تجليات ذلك، ذاك المشهد العظيم حين تستعدّ الأم للاحتفال بزفاف ابنتها في غرفة منزوية. وفي ذات البيت والدتها المريضة. فتترك البنت للحظة من أجل الاطمئنان على الأم، فتجدها قد فارقت الحياة. ويكون عليها أن تكبت كلَّ مشاعر الحزن والألم كي لا تُفسد فرح ابنتها. توصد الباب وتخرج لتُكمل ليلة الفرح، ترقص وتبكي فرحًا في نظر الناس، وحزنًا على الأم التي غادرتها قبل لحظات. هذا مزيج صعب. استطاعت أن تعبّر عنه ملامح الممثلّة “زهو السليماني”، فهي محرومة من كلّ أداة درامية، صراخ أو عويل. عليها أن تعبّر عن عكس ما تشعر به. الكاميرا تقول إنّ الزمن لا شيء، الحياة قد تتوقّف، الحزن قد يسقط عليك فجأة. إنها كمياء رهيبة يَصنعها المشهد. تخلق روعة بقدر ما ما تبث رهبة من الحياة نفسها، ونسبية ما نعيشه.

هكذا يتركك الفيلم في جوّ نفسي ممتد. تصير تلك المصائر والحيوات مرايا تعكس المعاناة الجماعية، أو جرعة تطهير روحي، وسلوى لكل من يعاني. فالفيلم يحمل تلك الرسالة: لكلّ منا قصّته، نحن فقط لم نـتأملها يومًا. ثم إن الفيلم- حقيقةً- لم يخلّف الصدى المتوقّع؛ بسبب تعقيد شروط العرض داخل القاعات المغربية، والمنافسة الشديدة التي عرفتها المهرجانات العربية والمغربية. لكنّه فيلم ممتدّ الحياة والتأثير. فيلم يمكن العودة إليه كل حين.

الكاميرا تقول: الزمن لا شيء. الحياة قد تتوقّف. الحزن قد يسقط عليك فجأة. إنها كيمياء رهيبة يَصنعها المشهد

فاصل اعلاني