• English
  • 14 يناير، 2025
  • 6:06 ص

تناقضات الأسلوب الفني بين فيلمَي “المومياء” و”الأرض”

تناقضات الأسلوب الفني بين فيلمَي “المومياء” و”الأرض”

4 January، 2023

بقلم محمد الفقي

مع كل مشاهدة جديدة لفيلم “المومياء” (شادي عبد السلام، 1969)، ولفيلم “الأرض” (يوسف شاهين، 1969)، يجد المرء إغراءً لا سبيل إلى مقاومته لعقد المقارنات بين الفيلمين. فمشاهدة أحدهما تستدعي تداعيًا للأفكار مع الآخر، ربما لأنه لم يُصنع في تاريخ السينما العربية فيلمان متضادان فنيًّا مثلهما، فما بالنا والاثنان يحتلان قمة “الأروع عربيًّا”؟ ونطمح، عبر هذه السطور، إلى قراءة مختصرة للأسلوب الفني للفيلمين، في صورة ملاحظات سريعة.

السياق الزمني والفكري

صُوّر الفيلمان في عام 1968، وطُبعت نسخة العرض الخاصة بكل منهما في عام 1969، وبينما عُرض “الأرض” بالفعل في عام 1969، تأخر عرض “المومياء” حتى عام 1975 لظروف قيل وقتها إنها “اقتصادية” تتعلق بطبيعة الفيلم “اللاجماهيرية”.

السياق الزمني إذن واحد ومتشابه؛ هو الحالة النفسية والفكرية التي سادت بين المثقفين والفنانين العرب في أعقاب هزيمة 1967. ثقل الحدث الجلل أثر بشدة في النخبة الفكرية والفنية العربية، وضاعفت تأثيره الأحلام والآمال العريضة، والثقة الكبيرة التي كانت لدى أبناء الطبقة الوسطى العربية تجاه أنفسهم وأوطانهم. هذا الشرخ العميق في نفوس أبناء تلك المرحلة، جعلهم يحاولون بإخلاص وصدق مع النفس، البحث عن أسبابه. كانت المسألة بالنسبة لهم أكبر من مجرد إدارة خاطئة للمعركة مع العدو، وآمن معظمهم بأن هناك أشياء أخرى أكبر وأهم خاطئة في المجتمع نفسه؛ أخطاء هيكلية وبنيوية لولاها لما أدرنا معركتنا على هذا النحو. وفي رحلة البحث عن الأسباب والعلات، صُنع “المومياء” وصُنع “الأرض”.

حبكة الفيلمين

الحبكة في السينما هي لب القصة بصورة مختصرة. بالنسبة لفيلم “المومياء”، انتهى شادي من كتابة النسخة النهائية لسيناريو الفيلم عام 1968، وساعده في كتابة الحوار بالفصحى الأديب علاء الديب. ورغم أن أصل القصة كان واقعيًّا؛ هو حادثة أسرة “عبد الرسول” في صعيد مصر التي ظهرت في الفيلم كقبيلة “الحربات”، فإن شادي أضاف للقصة الواقعية تخييلات أكسبتها أبعادًا وجودية أكبر من مجرد قصة عن مجموعة لصوص للآثار.

مُلصق فيلم المومياء

تدور حبكة الفيلم في عام 1871، حول محاولة مجموعة من الأفندية: “جاستون ماسبيرو” مدير الآثار المصرية، وعلماء المصريات والآثار بالمتحف المصري، ومن ضمنهم “أحمد أفندي كمال”؛ أول عالم مصريات وآثار مصري، بالتعاون مع الحرس المكلف بحراسة منطقة طيبة الأثرية “الأقصر” بقيادة الضابط “البدوي بك”، كشف لصوص الآثار الذين يسرقون المقابر الفرعونية، ومحاولة إنقاذ تلك الآثار وإحضارها سالمة إلى القاهرة.

ونيس في مواجهة التاجر أيوب، وبينهما مصوغة عين حورس من تراث الأجداد ويُلاحظ أنها مفتوحة وشاخصة للأمام

يصل أحمد كمال إلى طيبة ويتواصل مع قائد حرس المنطقة “البدوي بك”، في الوقت نفسه الذي يموت فيه “سليم” زعيم قبيلة الحربات التي تسرق الآثار وتبيعها إلى التاجر “أيوب”، الذي يبيعها بدوره في السوق العالمية للآثار. أشقاء سليم يبلغون أبناءه عن سر الخبيئة ومكان الآثار التي كان الكهنة المصريون قديمًا قد أخفوها عن أعين اللصوص في مكان سري في الجبل. ابن سليم الأكبر يفاجأ لأول مرة بنشاط القبيلة الإجرامي، ويعلم مصدر رزقهم؛ بيع جثث الموتى للأغراب، فيرفض الاستمرار في هذه التجارة البائسة.

يقرر الأعمام وكبار القبيلة قتله، بينما يظل “ونيس” الابن الأصغر لسليم مترددًا متخبطًا، حتى يعلم جريمة قتل الأعمام لأخيه، فيقرر في النهاية الذهاب للأفندية “أحمد كمال” والضابط “البدوي بك” وإخبارهما عن مكان الآثار المدفونة في الجبل، حارمًا قبيلته من مصدر رزقها. ويستخرج الأفندية 40 تابوتًا لأشهر فراعنة مصر؛ من الأسرة 17 إلى الأسرة 21، بمساعدة فلاحين من الوادي، ويعودون بها سالمة إلى القاهرة.

ملصق فيلم الأرض

أما فيلم “الأرض”، فهو عن رواية لعبد الرحمن الشرقاوي، وقد ساعد يوسف شاهين في كتابة سيناريو وحوار الفيلم، حسن فؤاد، وهو سيناريست وصحفي وناقد وتشكيلي ومخرج. تدور حبكة الفيلم في عام 1933، في إحدى قرى الوادي، حيث يعلم الفلاحون أن الإدارة الحكومية قد قلصت حصة مياه الري الخاصة بأراضيهم، العطشى أساسًا، فيغضبون ويقررون بعد مداولات، باقتراح من المتعلم المثقف “محمد أفندي”، أن يقدموا عريضة احتجاج إلى الإدارة الحكومية. ويسافر محمد أفندي إلى القاهرة ويقدم العريضة إلى “محمود بك”؛ الذي هو نفسه إقطاعي في قريتهم ذاتها. وتتفاقم الأمور عندما يقرر “محمود بك” أن يستخدم توقيعات الفلاحين لتقديم عريضة أخرى للحكومة تقترح إنشاء طريق يربط قصره في القرية بالطريق الرئيسي، ما يستلزم انتزاع ملكيات أراضي بعض الفلاحين. يثور الفلاحون، فترسل الحكومة قوات الهجانة للسيطرة على القرية وفرض حظر للتجول، ثم ترسل قوات شرطية بزعامة مأمور القسم التابعة له القرية. يبيع مثقفو القرية، مثل “محمد أفندي” و”الشيخ حسونة”، أهاليهم من الفلاحين مقابل وعد بتحويل الطريق الجديد عن أرضهم الخاصة. وفي النهاية، يستسلم الفلاحون للأمر الواقع، إلا زعيمهم “محمد أبو سويلم” الذي يتشبث بأظافره بأرضه، فيتم سحله بحصان المأمور على الأرض.

المعنى والمغزى

يصارع فيلم “المومياء” فكرة البعث والإحياء لعناصر النهضة في الحضارة المصرية القديمة من أجل الصحوة الجديدة للوعي والانطلاق في مسيرة الحضارة والتقدم في زمننا الحالي. وبتعبيرات شادي نفسه: “أردت أن أعبر عن شخصية الإنسان المصري الذي يعيد أصوله التاريخية وينهض من جديد. وأتصور أن الأفلام التاريخية التي أصر على تقديمها هي نوع من البحث التاريخي بلغة الكاميرا عن هموم الحاضر وأشواقه”.

هناك تاريخ قديم من الحضارة والتقدم، ثم سلسلة طويلة من التاريخ الأحدث من التخلف والتقهقر، كان سببه الأساسي، كما يظهر في “المومياء”، هو جهل الآباء بقيمة حضارة الأجداد. الآباء في قبيلة الحربات لا يعرفون شيئًا عن ماضي المومياوات التي يبيعونها للأغراب، فهي بالنسبة لهم ليست إلا جثثًا لا يعرفون لها أمًّا ولا أبًا، وتستطيع الواحدة منها إطعام مئة فم. مهمة الأبناء إذن هي استعادة الوعي المفقود بعظمة حضارة الأجداد ومنابعها، وهذه العملية تستلزم القيام بفعل عنيف من قبل نخبة مثقفة وواعية “الأفندية”، بانتزاع المومياوات من أيدي الآباء الجهلة وحرمان القبيلة كلها من مصدر رزقها، لأنهم هم القادرون على الحفاظ على هذه الحضارة من العبث والسرقة.

والهدف الأكبر ليس إعادة إحياء الأجداد، لكن إعادة بعث الأحياء الجاهلين الهائمين الضائعين. والقضية الكبرى في “المومياء” هي الوعي، والشر الأكبر هو الجهل، وهو شر هيكلي يعم على جميع قبيلة الحربات، وليس مسؤولًا عنه أفراد بأعينهم. إن الوعي والمعرفة بعناصر قوة الأجداد هو الشرط لتحقيق البعث والنهضة للأحفاد.

أما القضية في فيلم “الأرض”، فليست في الوعي أساسًا، لكن في أهمية المقاومة، التي تُجهض في النهاية بسبب دناءات وخيانات صغيرة وتغليب للمصالح الخاصة؛ خيانات المثقفين والنخبة المتعلمة تحديدًا، الذين هم أنفسهم “الأفندية” في فيلم “المومياء”. وجميع الفلاحين في “الأرض” واعون بأهمية المقاومة وضرورتها، وليس هناك خلاف على ذلك حتى بين أكثرهم جهلًا.

القضية الكبرى في “المومياء” هي الوعي.. والشر الأكبر هو الجهل.

ينهض فيلم “الأرض” على تفجير أمر مصيري هو فعل المقاومة.

الأسلوب الفني في “الأرض”

يمثل “الأرض” نموذجًا فريدًا لتفاعل عدة اتجاهات فرعية للمدرسة الواقعية معًا في ضفيرة واحدة متماسكة ومتناسقة. الواقعية، أو الواقعية الاجتماعية كما تسمى أحيانًا، مضفرة في “الأرض” مع الواقعية النقدية، والواقعية الطبيعية، والواقعية الاشتراكية. الفروق النظرية ليست شاسعة بين الواقعية واتجاهاتها الفرعية الثلاثة، بل هي فروق دقيقة، لكن ما يميز العمل الفني الكبير هو الوعي بالتفاصيل والفروق الدقيقة، لا الاقتصار على العموميات ورؤوس الموضوعات.

ويكمن ذكاء يوسف شاهين في “الأرض” في الجمع بين أفضل وأقوى ما في الاتجاهات الواقعية المختلفة، مع تجاهل عناصر الغلو والتطرف التي تتسم بها تلك الاتجاهات، على نحو يخدم رؤيته الفنية هو، لا على نحو تابع لاتجاه فني بعينه. مثلًا، يأخذ من الواقعية النقدية فكرة وجود طبقة خفية غير ظاهرة تحت طبقة الواقع الإمبريقي المحسوس والمباشر؛ أي فكرة “نمط إنتاج الفلاحين”، أو”نمط الثقافة النهرية”، أو “نمط الإنتاج الآسيوي”، الذي يميز الثقافة العامة المصرية، والمحبط بطبيعته لأية ثورة.

لقطة من فيلم الأرض

هناك خصيصتان أساسيتان تميزان نمط إنتاج الفلاحين؛ الأولى هي اعتماد الفلاحين بشكل كامل على سلطة مركزية قوية تقوم بتوزيع المياه على الجميع. والثانية هي انعزال مصالح الفلاحين عن بعضها البعض مكتفية فرديًّا بذاتها، على عكس عمال المصانع الذين تجبرهم طبيعة العمل الصناعي المترابطة والمعتمدة في أجزائها على بعضها البعض على التضامن. بل ربما كان من مصلحة الفلاح أن يتضرر محصول جيرانه حتى يحقق محصوله هو أكبر ربح ممكن. نمط إنتاج الفلاحين ظاهر في النتيجة الحتمية التي يصل إليها فيلم “الأرض”. بل ونلمس تفهمًا من صانع الفيلم لمأزق الشيخ حسونة ومحمد أفندي اللذين باعا القضية من أجل المصلحة الخاصة لأرضهما. والأهم هو تفهم الفلاحين أنفسهم في الفيلم لتلك الحقيقة وعدم إدانتهم للنخبة التي باعت.

إذن الطبقة الخفية غير الظاهرة تلك هي التي تشكل آلياتها التأثير الأكبر على دوافع خيانة الشيخ حسونة ومحمد أفندي، وليس مجرد أنانية فردية نابعة فقط من نفس ضعيفة  تُغلب الخاص على العام. والشر الأكبر هنا هو هيكلي بنيوي، والشرور الفردية هي استجابة طبيعية وإنسانية له، ويتفهم الفلاحون في القرية، وعلى رأسهم محمد أبو سويلم وعبد الهادي، موقف الشيخ حسونة، برغم حزنهم.

ومن الواقعية الطبيعية يأخذ يوسف شاهين في “الأرض” الجنس كأحد محركات السلوك الإنساني، دون شطحات الطبيعيين باعتباره المحرك الأساسي والوحيد. ويهمل أيضًا غرامهم الدائم بعقدتي فرويد؛ “أوديب” (اشتهاء الولد لأمه)، و”إلكترا” (اشتهاء البنت لأبيها). يأخذ أيضًا من الطبيعيين الواقعية في اللغة والحوار، دون التدني إلى غرامهم بفاحش القول وبذيئه.

ومن الواقعية الاشتراكية يأخذ الوعي بالصراع الطبقي وتناقض المصالح بين الفلاحين وبين الرأسمالية والبرجوازية، وضرورة كشف جرائم الأخيرة. ويأخذ منها أيضًا الاهتمام بفكرة إبراز النموذج البطولي للفرد من أجل الإبقاء على الأمل والتفاؤل في نفوس المشاهدين. ويأخذ كذلك من الواقعية الاشتراكية سهولة الأسلوب الفني ووضوحه في عرض القضية على نحو تفهمه كافة قطاعات الجماهير.

مشهد من فيلم الأرض

لكن يوسف شاهين لا يطبق مبادئ الواقعية الاشتراكية تمامًا كما نعرفها، وكما أوصى بها “اتحاد الكتاب السوفييت” الذي تأسس في عام 1934، وما عُرف بخصائص “الفن البروليتاري”. إن يوسف شاهين في “الأرض” يبدو كمن انحاز إلى فريق “ليون تروتسكي” في الجدل الذي ثار بينه وبين فريق “جوزف ستالين”. كان فريق ستالين من الفنانين والكتاب يصر على القطيعة التامة مع الفن البرجوازي، بينما كان فريق تروتسكي يحاجج بأنه لابد أن يستوعب الفنان الاشتراكي كل دروس الفن البرجوازي وإنجازاته قبل المضي إلى الأمام. انتصر طبعًا فريق ستالين بإعلان قيام “اتحاد الكتاب السوفييت”. إن يوسف شاهين يعتني كثيرًا بالصورة السينمائية في “الأرض”، وبالكادرات، وبأداء الممثلين، وبتقنية ومعدات التصوير ذاتها، على نحو نشعر معه بالصلة الواضحة مع منجزات الفن السينمائي الأميركي في أرقى صوره وحالاته. 

يمزج فيلم “الأرض” اتجاهات الواقعية النقدية والطبيعية والاشتراكية في منظومة واحدة.

الأسلوب الفني في “المومياء”

أما الأسلوب السينمائي في “المومياء” فهو نقيضه في “الأرض”. يمكن أن نطلق على أسلوب شادي عبد السلام في “المومياء”: “المثالية” أو “الكمالية.” المثالية طبعًا هي نقيض الواقعية بكل اتجاهاتها كما تقدم. لكن مثالية أو كمالية شادي ليست ابنة التراث اليوناني-الروماني في الفن، ولا الكلاسيكية، ولا حتى القوطية الأوروبية، إنها “المثالية الفرعونية”.

فعلى خلاف أسس الفن اليوناني-الروماني الذي كان فنًّا إدراكيًّا وتعبيريًّا، كان الفن المصري القديم فنًّا مفاهيميًّا ومثاليًّا. الفن الإدراكي التعبيري يتميز بأساليب فنية تعتمد المنظور الواحد بهدف خلق أبعاد ثلاثية متوهمة، بحيث يعرض الفنان الموضوع من وجهة نظره هو وكما يراه. الفن المفاهيمي المثالي على العكس، يسعى لتصوير الموضوع من وجهة نظر الموضوع نفسه، وليس من وجهة نظر الفنان. لذلك يهتم الفن الفرعوني بنقل كل المعلومات الممكنة عن الموضوع إلى المشاهد من ناحية، ويهتم أيضًا وفي الأساس بأن يعرض الموضوع في شكله المثالي، أي الشكل الذي يتوق الإنسان نفسه، أو حتى الحيوان أو الجماد، إلى أن يبعث على صورته.

بالنسبة للشق الأول؛ أي نقل كل المعلومات الممكنة عن الموضوع إلى المشاهد، يجمع الفنان المصري القديم في سبيل تحقيق ذلك بين المسقطين الأفقي والرأسي فيظهرهما معًا في نفس اللوحة. بإمكانك أن تلاحظ في “المومياء” حرص شادي على تطبيق القاعدة نفسها في بعض اللقطات التي أخذها من المساقط الرأسية (أو ما يُسمى في السينما بلقطة “عين الطائر”). قد يفسر البعض المسقط الرأسي لهذه اللقطات تفسيرًا سينمائيًّا كلاسيكيًّا برغبة صانع الفيلم في إظهار الضعف والضآلة والاغتراب للشخصية المصورة، لذلك يصورها من أعلى بلقطة “عين الطائر”، لكننا نراه التزامًا فنيًّا من شادي بالأسلوب المصري القديم في الفن والتصوير، وإن كان هذا لا ينفي ذاك.

مواضع الأشخاص حسب مكانتهم

بالنسبة للشق الثاني؛ أي قاعدة أن يصور الفنان الشخصيات في أكمل صورة، فنرى أقوى تطبيق لها في “المومياء” في طريقة تصوير جميع شخصيات الفيلم. إن المشاهد للفيلم لأول مرة، إذا حاول أن يلغي الصوت ويتفرج فقط على الصورة، من المستحيل عليه أن يخمن أن “المومياء” هو فيلم عن لصوص آثار وعصابة تسرق المقابر، فجميع أفراد قبيلة الحربات يظهرون في أكمل وأبهى وأفخم صورة، وهي الصورة التي يتمنى كل منهم في ذهنه أن يكون عليها، أو أن يبعث عليها وفقًا للاهوت الفرعوني. حتى أن اللص الحقيقي في الفيلم؛ أي التاجر “أيوب”، يعرضه لنا شادي في أفخم صورة ممكنة، برغم أنه يعلم قيمة التوابيت وما تحويه، وليس جاهلًا كقبيلة الحربات؛ أي أنه الشرير الحقيقي في الفيلم.

وتأكيدًا لهذا الالتزام بقواعد الفن المصري القديم، نضرب مثلًا آخر؛ شكل البيوت في قبيلة الحربات. ويحق لنا أن نعتبرها امتدادًا لبيوت المصري القديم من عامة الشعب، لأننا نلمح كتابات هيروغليفية بوضوح على بعض حجارتها، والتي قد تكون من آثار فرعونية أعيد استعمالها في بناء بيوت القبيلة. كانت منازل العامة من قدماء المصريين في العموم أقل جمالًا ومثالية بشكل صارخ عن المباني الملكية والحكومية والمعابد الدينية المهيبة والمقابر. هذا الشكل من القرى والبيوت مطبق بشكل صارم على منازل قرية الحربات. حتى أن بساطة البيوت وتقشفها من الداخل، الذي يظهر جليًّا في قاعة استقبال بيت “سليم” زعيم القبيلة المتوفى، هو عينه بساطة بيت المصري القديم وتقشفه من الداخل.

نساء قرية الحربات يقفن في وداع توابيت الأجداد

ومن مظاهر التزام شادي في “المومياء” بقواعد الفن المصري القديم أيضًا، حرصه على تطبيق قاعدة مهمة في الفيلم؛ هي قاعدة “عدم الحجب”، فلا توجد شخصية تحجب الأخرى في الصورة. حتى أن مشاهد المجاميع في الفيلم؛ مثل مشهد دفن سليم، أو مشهد نقل التوابيت، أو مشهد خروج نساء قبيلة الحربات لوداع التوابيت، حرص شادي على أن تظهر المجاميع فيها كفرادى، كلّ ظاهر بذاته، ولا يحجب أحدهم الآخر، بالرغم من الصعوبة العملية الكبيرة في تنفيذ ذلك أثناء التصوير وحركة المجاميع.

كان الفنان المصري القديم يحرص حرصًا دينيًّا على ألا تحجب شخصية، شخصية أخرى في الرسم. كل شخص له احترامه وتوقيره وأهميته، ويجب أن يظهر بكامل تفاصيل وجهه وملابسه وأكسسواراته، حتى إن كان في خلفية الرسم ويقف خلف من هو في مقدمة الصورة. ومن أجل ذلك اخترع الفنان المصري أسلوبًا مغايرًا لأسلوب المنظور في الفن الغربي، فهو لا يرسم الشخص أو الشيء البعيد في الخلفية وعلى نحو أصغر، لكن يرسمه في نفس حجم الشخص الذي في مقدمة الصورة، مع وضعه أعلى منه في الرسم، دلالة على أن هذا يقف خلف ذاك. بهذه الطريقة أتيح للمشاهد أن يرى كل تفاصيل وألوان وجه وجسد وملابس الشخص الذي يقف في الخلفية، لا كالفن الكلاسيكي الذي يكتفي برسمه في الخلف على نحو صغير فقير في التفاصيل، أو على نحو يحجب فيه من في المقدمة جزءًا من جسد من في الخلفية. إن شادي يحافظ على مبدأ عدم الحجب، الذي يتضمن بداخله مبدأ آخر هو إعطاء الأهمية نفسها في التصوير لجميع الشخصيات والأشياء في الصورة.

ونيس بعد أن سلم آثار أجداده لبعثة المتحف المصري

وهناك قواعد أخرى كثيرة للفن الفرعوني المثالي مطبقة في “المومياء”؛ مثل إعطاء أهمية كبرى للقطات البروفيل (تصوير الوجه الإنساني من الجانب)، وهو ما كان ينتهجه الفنان المصري القديم للتعبير عن الملامح بصورة أقوى، وتصوير الأعين مفتوحة وناظرة للأمام، وتصوير اليد البشرية بشكل تظهر معه كل الأصابع، وتصوير الرجل الذي يقف بجوار المرأة بحيث يكون هو أكبر منها، وتصوير الرجل بحيث يقف إلى يسار المشاهد ومتجهًا ببصره إلى اليمين حيث تقف المرأة؛ أي يكون الرجل في الموقع الأقوى والمسيطر في تكوينات الصورة، إلا إذا كانت المرأة أعلى منه شأنًا. وأحد الأمثلة على ذلك هو مشهد اجتماع زوجة سليم بأخويه وبابنها في حجرة الاستقبال: فهي تكون أولًا جالسة إلى يسارهما (يمين المشاهد)، بينما يقف الابن إلى يسارها (يمين المشاهد)، حتى يغادرا المنزل وتنفرد بابنها، فيتيح لها شادي حرية الحركة لتصبح إلى يمين الابن (يسار المشاهد)، وغير ذلك من القواعد الفنية الفرعونية المطبقة في “المومياء”، التي تحتاج إلى تفصيل أكثر إيفاءً.

 إن شادي لم يكن يذهب إلى أي مكان دون أن يعود إلى الفن الفرعوني، الذي كان دافعه أن يؤدي دورًا أشبه بالحقيقة. فالفن الفرعوني المثالي لم يكن يُثمَّن بسبب جماله المطلق، لكن لأنه يتجاوز وظيفة الزخرفة والتجميل، وحتى وظيفة التعبير، إلى الوظيفة “الإحلالية” التي يحل فيها الفن مكان الحقيقة. واستجابة لتلك الفلسفة الفنية المصرية القديمة، يحق لنا القول إن شادي في “المومياء” لم يكن همه الأكبر الجماليات البصرية، بقدر فكرة الإحياء وقيمته؛ إحياء المضمون وإحياء الشكل معًا.

أسلوب شادي عبد السلام في “المومياء” هو “المثالية” كنقيض لأسلوب يوسف شاهين.

فاصل اعلاني