• English
  • 14 يناير، 2025
  • 11:18 م

حوار الشاشة والذهن كيف تساعدنا السينما على فهم قضايا الفلسفة؟

حوار الشاشة والذهن كيف تساعدنا السينما على فهم قضايا الفلسفة؟

5 December، 2023

بدر الدين مصطفى

يعد تقاطع السينما والفلسفة مجالًا بحثيًا غنيًّا ومركبًا. فمن ناحية يمكن اعتبار السينما شكلًا من الفنون يحمل إمكانات تُمكِّنه من استكشاف بعض الموضوعات والأفكار الفلسفية، مثل طبيعة الواقع، والوضع الإنساني، والمعضلات الأخلاقية. ومن ناحية أخرى، يمكن اعتبار الفلسفة مجالًا معرفيًّا يمتلك الإمكانات التي توفر  لنا مقاربة أكثر عمقًا للموضوعات والأفكار المعروضة في الأفلام.

تتمثَّل إحدى الطرق الرئيسة التي تتقاطع بها السينما والفلسفة في محاولة استكشاف الأسئلة الميتافيزيقية والمعرفية. على سبيل المثال، تستكشف أفلام مثل “The Matrix” أو “Inception” طبيعة الواقع وتصوراتنا عنه، وتتحدى  افتراضاتنا حول ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، والتشكك في صدق معتقداتنا عن العالم أو  وضع فرضية لإمكانية التلاعب بها.

وبالمثل، تستكشف العديد من الأفلام الكثير من الأسئلة والمعضلات الأخلاقية، مثل إشكالية ما إذا كان من المبرر قتل حياة شخص من أجل هدف أسمى، أو  التساؤل عن حدود الحرية الشخصية. على سبيل المثال، يستكشف فيلم “Crash” قضايا العنصرية والتحيز، ويثير  تساؤلات حول ما إذا كان بإمكاننا حقًّا فهم تجارب الآخرين.

من المؤكد أن استخدام السينما لتوضيح المفاهيم والأفكار الفلسفية بطريقة أكثر واقعية من الحجج أو النظريات المجردة، له جاذبيته الخاصة؛ وذلك لأن السينما تمتلك إمكانات هائلة تساعدها على تقريب الأفكار المجردة والنظريات الفلسفية لجمهورها الواسع بشكل مبسَّط إلى حد ما. على سبيل المثال، يمكن استخدام فيلم “Eternal Sunshine of the Spotless Mind” لتبسيط المفهوم الفلسفي عن الهوية الشخصية، حيث يستكشف الفيلم فكرة محو الذكريات. وكيفية تأثير ذلك في الشعور بالذات.

لهذه الأسباب لم تكن السينما بعيدة عن اهتمامات الفلاسفة ومناقشاتهم. حقًّا تعتبر الإسهامات الفلسفية لمقاربة السينما قليلة نوعًا ما. مقارنة بالمقاربات الفلسفية للفنون الأخرى، لكن بالنظر إلى حداثة فن السينما تبدو قلة هذه المقاربات مُبرَّرة نوعًا ما. وربما يكون الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز من أشهر الفلاسفة الذين كتبوا على نطاق واسع عن السينما. فقد جادل بأن السينما هي شكل فني فريد. له لغته الخاصة وطريقة تفكيره، واستكشف الطرق التي يمكن من خلالها استخدام السينما لتحدي افتراضاتنا حول العالم. وبالمثل جادل ستانلي كافيل بأن السينما شكل من أشكال التعبير الفني القادر على الكشف عن حقائق عميقة تمسُّ الوضع الإنساني، كما استكشف الطرق التي يمكن من خلالها استخدام السينما لتحدي فهمنا للغة والمعنى. من بين الفلاسفة الذين أولوا اهتمامًا خاصًّا بالسينما أيضًا الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي الذي كتب عن العلاقة بين السينما وإحساسنا بالمجتمع والانتماء، وجادل بأن السينما يمكن أن تساعدنا على التواصل مع الآخرين وتنمية الشعور بالهوية المشتركة. أما سلافوي جيجيك فقد ذهب إلى أن السينما يمكن أن تكشف عن الرغبات اللاواعية للمجتمع، واستكشف الطرق التي يمكن من خلالها استخدام السينما لهدم الأيديولوجيات السائدة.

تحاول هذه المقالة التركيز فقط على جانب واحد من ممكنات العلاقة بين الفلسفة والسينما والكشف عنه، وهو ذلك المتعلق بإمكانية الاستفادة من السينما بطريقة بيداغوجية، تساعدنا على فهم قضايا الفلسفة.

تمتلك السينما إمكانات هائلة تساعدها على تقريب الأفكار المجردة بشكل مبسَّط كما في فيلم “Eternal Sunshine of the Spotless Mind”

هل السينما أداة لتعليم الفلسفة؟

لا شكَّ أن أي فن من الفنون يمكن الاستفادة منه على المستوى البيداغوجي (التعليمي والتربوي) بطرق مختلفة. وربما تكون السينما، بما تمتلكه من إمكانات تقنية وسردية، هي الفن الأهم الذي يمكن الاستفادة منه في هذا الصدد. ومع ذلك فإن مشكلة الكثير من الدراسات التي تتخذ من الفلسفة نهجًا لدراسة السينما، تتمثل في تبنيها مقاربة تبدو مغرية من ناحية الشكل، لكنها  لا تؤسس لعلاقة يمكن البناء عليها مستقبلًا لتطوير هذه المنطقة البينية المهمة من الدراسات الإنسانية. وتتمثل تلك المقاربة في محاولة تطبيق بعض المفاهيم الفلسفية على الأفلام أو قراءة عمل سينمائي من خلال أحد الفلاسفة. غير أن هذا النهج في التعامل مع العمل السينمائي يختزله في جانب واحد فقط، هو الحوار أو الحبكة (فكرة الفيلم)، وفي هذا المعنى يقول دانييل فرامبتون في كتابه الفيلموسوفيا: “لقد تحول الفلاسفة من سقراط إلى اللعب بجهاز الفيديو، وكل ما يريده حقًّا العديدون منهم ليس إلا تخفيف محاضرة بعرض بضع مشاهد من فيلم أو فيلمين كلاسيكيين. إن هؤلاء الفلاسفة- ببساطة- مهتمون بالطريقة التي تحتوي بها بعض الأفلام على قصص وشخصيات يمكن أن تساعدهم في تصوير أفكار فلسفية معروفة جيدًا. لكن السينما أكثر من مجرَّد أن تكون كتيبًا في متناول الفلاسفة يضمُّ مشكلات فلسفية … وإذا كانت نقطة البداية عند هؤلاء الفلاسفة هي ماذا تستطيع السينما أن تفعله للفلسفة؟ فكم يكفيهم من الوقت حتى يكتشفوا أن السينما تقدم الفلسفة؟”.

ربما كان الأجدر من محاولة البحث عن فيلسوف ما داخل العمل السينمائي، أو تطويع بعض الأفكار السينمائية كي تتوافق والفلسفة، هو التساؤل عن الكيفية التي يفكر بها الفيلم في العالم، وهنا قد يوصلنا الفيلم إلى الفلسفة، أو إلى حقل معرفي آخر. ليحدث هذا التلاقي المثمر.

ما أريد أن أؤكد عليه هنا أن العلاقة بين الفلسفة والسينما، أو حتى الاستفادة من الأخيرة في تأكيد بعض المفاهيم والأفكار التي تقترحها الأولى، لا يعني التبعية، بل يعني في المقام الأول وجود علاقة مثمرة بين كلا المجالين، بحيث يدعم أحدهما الآخر. بناءً على هذا التوجه يمكننا اقتراح بعض المستويات التي يمكن على أساسها الاستفادة من السينما في تدريس الفلسفة.

مستويات ممكنة للفيلو- سينما

يمكننا اقتراح ثلاثة مستويات ممكنة تعبِّر عن احتمالات قائمة بين عالمي السينما والفلسفة، مع التأكيد على وجود مسارات أخرى عديدة، يمكن من خلالها التفكير فلسفيًّا في السينما.

إحدى الفلسفات

فيلم المخرج كرستوفر نولان Memento

أولًا، في هذا المستوى قد يجسد الفيلم السينمائي إحدى الفلسفات؛ الفكر الوجودي في رواية الغريب L’étranger  لألبير كامو، التي جسَّدها فيسكونتي في 1967 في فيلم يحمل العنوان ذاته. وقد تقدم السينما قضايا ناقشها الفلاسفة؛ نقد المجتمع الاستهلاكي فيFight Club (1999)، نقد الأيديولوجيا في They Live (1988) ، نقد وسائل الإعلام وما تمارسه على العقول في The Truman Show (1988)   نقد المجتمعات الشمولية فيEquilibrium (2002) . أو قد يقدم المخرج من خلال فيلمه طرحًا يتشابه من حيث الأساس النظري مع طرح أحد الفلاسفة؛ مفهوم المحاكاة في فيلم Simone (2002)، الوجود المتوهم في فيلم (2001) Vanilla Sky   والشك الديكارتي في وجود العالم الخارجي، الزمن الدائري في فيلم  (2000)Memento ومفهوم العود الأبدي عند نيتشه، الواقع الافتراضي في  (1999) Matrix  ومفهوم االسيمولاكرا عند أفلاطون، علاقة الأنا بالآخر في سينما شاهين.

عايش

 لنأخذ مثالًا على هذا المستوى من فيلم المخرج السعودي عبد الله آل عياف “عايش” 2009، والذي يعالج قضية فلسفية عميقة بلغة سينمائية متقنة. فعايش الذي يعمل حارسًا لثلاجة موتى أحد المستشفيات، والذي يظهره الفيلم في اللقطات الأولى كما لو لم يكن حيًّا على الإطلاق، هو أقرب ما يكون للموتى من الناحية المهنية والحياتية. غير أن الفيلم يأخذنا في مسار محمَّل بتأملات عديدة عن معنى الموت وقيمة الحياة، وعن الأمل والتحرُّر من القيود التي تفرضها علينا أوضاعنا الحياتية والمهنية.

وجدة 2

وعلى الرغم من بساطة اللغة السردية في فيلم “وجدة” 2012 للمخرجة السعودية هيفاء المنصور، فإننا نجده من ناحية أخرى يعالج قضية اجتماعية وفلسفية تتعلق بإثبات الذات والهوية الشخصية. فوجدة، التي تحلم بامتلاك دراجة خضراء معروضة في أحد متاجر الألعاب القريبة من منزلها، تكافح من أجل تحقيق هويتها الشخصية، على الرغم من القيود المجتمعية التي تكبِّلها. وقد استطاع الفيلم أن يربط برشاقة بين تحقيق هدفها وسعيها نحو مقاومة الواقع، والتغلب على العوائق بتحقيقها لذاتها، فامتلاكها لدراجتها هو شكل من إثبات ذاتها وتأكيد هويتها.

فيلم فضيلة أن تكون لا أحد للمخرج السعودي بدر الحمود

أما فيلم “فضيلة أن تكون لا أحد” 2016  للمخرج السعودي بدر الحمود، فيحمل في جانب منه نوعًا من الرثاء لعالم يغيب فيه الحكي والعلاقات الحية مقابل سيطرة التقنية، كما يرصد  شكلًا من طبيعة العلاقات التي تسود عالمنا الراهن الذي تحول فيه الإنسان إلى شاشة، حيث تغيب العلاقة التفاعلية المباشرة، ويتحوَّل الإنسان نفسه إلى النموذج الأساسي لعصر الإعلام؛ الشاشة. وهنا تختفي العلاقات الحية التي تتضمَّن التفاعل بين الأنا والآخر. 

توثيق حياة

ثانيًا، مستوى آخر من مستويات التلاقي بين الفلسفة والسينما، يتمثل في أن الفيلم قد يأتي توثيق لحياة فيلسوف أو مفكِّر أو فنان ما. فأحيانًا يمكن الاستفادة من الفيلم في تجسيد السيرة الذاتية لأحد الفلاسفة أو المفكرين أو الفنانين. والفيلم في هذه الحالة لا يكون مفيدًا من ناحية استعراض السيرة الذاتية فقط، وإنما أيضًا في عرض بعض الأفكار لدي الشخصية، وكيفية تكوُّنها، وعلاقتها بالواقع المحيط بها. كثير من الأفلام وثقت لتاريخ العديد من الفلاسفة والفنانين نذكر منها؛ فان جوخ فيVan Gogh (1991)، نيتشه في (2007) When Nietzsche Wept، أرسطو وعلاقته بالإسكندر الأكبر في (2004) Alexander، ابن رشد في المصير (1997).

مرحلة تاريخية

ثالثا، المستوى الثالث يتشابه مع المستوى الثاني لكنه أكثر شمولًا، بحيث يمكن للفيلم أن يجسد مرحلة تاريخية من مراحل التطور الإنساني، التي تشكل الأرضية التي نشأت عليها الأفكار ،أو يجسد الطبيعة الجغرافية، والظروف التاريخية لمجتمع ما.  وهذا المستوى له أهميته كخلفية معرفية يمكن الاستفادة منها أثناء دراسه تاريخ الفلسفة والأفكار، فالفكر مرتبط بصورة وثيقة بالتاريخ والجغرافيا، مع الوضع في الاعتبار أن التاريخ يعالج  داخل الفيلم وفقًا لرؤية المخرج، وحسب المعالجة الدرامية للأحداث. نجد على سبيل المثال مادة تاريخية مهمة في فيلم The Agony and the Ecstasy (1965)  الذي يستعرض جزءًا من السيرة الذاتية للفنان الإيطالي مايكل أنجلو. وارتباطها بالظروف التاريخية التي عاصرها، وكذلك الحال مع أفلام أخرى مثل  The Birth of a Nation (1915)، وThe Last Emperor (1987).

يمكن للفيلم أن يجسِّد مرحلة تاريخية من مراحل التطور الإنساني، أو يجسِّد الطبيعة الجغرافية والظروف التاريخية لمجتمع ما.

خاتمة

أخيرًا يمكن القول إن السينما بمقدورها أن تقدم تمثيلًا مرئيًّا قويًّا للأفكار والمفاهيم الفلسفية. ومن خلال ما يطرحه الفيلم من معالجات وأفكار، يمكن إحياء المفاهيم الفلسفية والقضايا الأخلاقية والثقافية والأنطولوجية والجمالية، بطريقة ملموسة وجذابة، أكثر من مجرَّد القراءة عنها في كتب الفلاسفة. باختصار، تتيح لنا السينما  رؤية الأفكار الفلسفية. وتجربتها بصورة يمكن أن تعمق فهمنا ومشاركتنا معها عاطفيًّا ووجدانيًّا.

يمكن إحياء المفاهيم الفلسفية والقضايا الأخلاقية والثقافية في السينما، بطريقة ملموسة وجذَّابة، أكثر من مجرد القراءة عنها في كتب الفلاسفة.

فاصل اعلاني