• English
  • 20 يناير، 2025
  • 5:20 ص

عمرو جمال: مهرجان البحر الأحمر السينمائي دعم فيلمي “المرهقون” ولم يفرض شروطا أو يمارس أي شكل من اشكال الحذف

عمرو جمال: مهرجان البحر الأحمر السينمائي دعم فيلمي “المرهقون” ولم يفرض شروطا أو يمارس أي شكل من اشكال الحذف

5 December، 2023

محمد الجرادي

ذاع صيت فيلم “المرهقون” في فعاليات مهرجان برلين السينمائي الدولي المنعقد في فبراير الماضي، وسُلطت الأضواء على مخرجه الشاب عمرو جمال، القادم من اليمن، البلد المرهق بالحرب في لحظته الراهنة. الفيلم الذي اشتركت في إنتاجه عدة جهات، لعل أبرزها مهرجان البحر الأحمر السينمائي، حاز جوائز رفيعة. “كراسات سينمائية” التقت مخرجه عمر جمال، وحاورته حول الفيلم وقضايا أخرى، تتعلق بصناعة السينما في اليمن.

بداية، كيف يمكنك تعريف نفسك شخصيًّا وفنيًّا؟

أنا واحدٌ من أبناء مدينة عدن، المدينة التي أُدين لها بما استطيع من المحبة والوفاء. وأفخر بكوني نشأت في أزقَّتها وشوارعها، وتعلمت في مدارسها وجامعتها العريقة. فيها تفتح وعيي على الوجود والحياة، ومنها كانت وستظل حيوية شغفي وحبي للسينما والمسرح.

في مدينة عدن تفتح وعيي على الوجود والحياة، ومنها كانت وستظل حيوية شغفي وحبي للسينما والمسرح.

هذا الإطراء يدفعني إلى سؤالك ما لذي أحدثته عدن كمكان أو بيئة ليكون في المحصلة الشغف والحب للسينما والمسرح؟

في الواقع، كنت في المراحل الأولى من التعليم الأساسي، وإلى تلك الفترة من مطلع التسعينيات، كانت عدن لا تزال تحتفظ بشيء من ملامح الازدهار الثقافي والفني الذي شَكَّل تعبيرًا حقيقيًّا عنها كبيئة خلاقة للثقافة والفنون وفاعلة في هذا الفضاء محليًّا وعربيًّا وربما عالميًّا. وأعتقد بأنني كنت محظوظًا، بمعايشة القليل جدًّا من ملامح ومظاهر تلك الحيوية الفنية والثقافية لهذه المدينة، قبل أن تدخل في أحلك مرحلة مرت عليها وعلى تاريخها الثقافي، بدأت مع النصف الثاني من عقد التسعينيات، والتي حملت إليها الأفكار المتشددة والمعادية للثقافة والفنون.

بعيدًا عن المآلات المؤسفة، دعنا نتذكر معك شيئًا من ملامح ازدهار ثقافي لمدينة- أو لنقل بيئة- لا بدَّ أنها شكَّلَتْ ميولك الفنية، وأثَّرَتْ بشكل أو بآخر في تجربتك الفنية مسرحًا وسينما؟

نعم، كان لا يزال هناك مجتمع ثقافي فني، بما يحمله التوصيف من معنى، ففي كل زاوية تمر عليها تجد الناس يستمعون للمذياع وصوت الأغاني تصدح منه: أغاني لفنانين عرفناهم عن قُرب لاحقًا في المقاهي، واستمعنا ببساطة لحكاياتهم، وكذلك أغاني هندية وعربية وأجنبية. أيضًا في الحواري تجد الناس مشدوهين بمتابعة مسلسل تلفزيوني أو فيلم. كذلك الصحف والمجلات، كان الناس يقرأونها باهتمام في المقاهي وفي كل مكان، ويتعرفون من خلالها على كبار الكتاب والأدباء والفنانين، ويبذلون كرمًا في إظهار التقدير لهم عندما يصادفونهم في شارع أو في مقهى. إلى جانب ذلك كانت بعض العروض المسرحية لا تزال قائمة هنا وهناك، ولو بشكل طفيف.

لكن ماذا عن السينما؟

كانت لا تزال هناك دور سينما تقدم عروضًا أسبوعية، وبالإمكان أن تذهب برفقة أصدقائك أو أسرتك لمشاهدة العروض. الآن تحضرني اللحظات الأخيرة لنشاط سينما بلقيس، من خلال برنامج كانت تنظمه المدرسة صباح كلِّ يوم جمعة. والقليل من زيارات السيرك الى مدينة عدن ومعرض الكتاب. تحضرني زيارة “العيدروس” التي كانت بحدِّ ذاتها ظاهرة واحتفاء ثقافي كبير بالكركوس والبيارق والألوان الجميلة والأهازيج الدينية الصوفية.. وتحضرني القليل من كل هذه الروائح البعيدة لمدينة عجيبة وساحرة، جعلتني دائما خلال تللك المرحلة من الطفولة وما بعدها وإلى الآن، أرغب حد الشغف، بأن أكون مُعبّرًا عن هذا المكان وحيويته الثقافية والفنية ومشاركًا فعَّالًا فيه، من خلال شكل من أشكال العرض التي لم أكن أعرف ترجمة لاسمها بسهولة، لكن بمرور الوقت أصبحتُ أعرف أنها ما يسمى بالمسرح والسينما.

من المسرح إلى السينما

عملتَ للتلفزيون، كما للمسرح وبصورة نشطة بعد التأسيس لفرقة “خليج عدن المسرحية” عام 2005 في عدن، ثم للسينما الآن. ما تفسير هذا الانتقال؟

الكثير من زملائي يعرفون انني لم أكن أحب العمل للتلفزيون، ولطالما أفصحتُ عن هذا الشعور، فأنا عاشق مجنون للمسرح وللسينما. لكن مع ذلك فإن عملي للتلفزيون أفادني كثيرًا، بل أهَّلني بما يكفي لاتخاذ قرار الانتقال للسينما، وقد كنت أشعر دائمًا بأنني سأنتقل إليها عاجلًا او آجلًا.

أخبِرنا متى وكيف حدث ذلك فعليا؟

بعد اندلاع الحرب بعامين، وتحديدًا في العام 2017، عندما استغنت إحدى القنوات التلفزيونية المحلية- ربما لأسباب نقص مواردها المالية في تلك الفترة- عن بعض الأعمال، من بينها عملي الذي كان باللهجة العدنية (جنوبية)، مقابل عمل آخر بلهجة (شمالية)، كون اللهجة الشمالية جمهورها أكبر. لم يحزَّ في نفسي هذا الأمر، لكن ما حزَّ في نفسي أن مسؤولي القناة أغلقوا تلفوناتهم عني، حتى أنني شعرت بالإهانة. وصرت لا أتخيل نفسي لاحقًا في موقف أن يتخلى عني التلفزيون في أي لحظة، وبهذه البساطة. وفي لحظة جازمة قلت في نفسي لقد حانت الفرصة لمغادرة المكان الذي لا أحبه. وفعلًا بدأت أفكر مليًّا بالسينما بعد أن اقترح عليَّ خوض التجربة صديقي محسن الخليفي، الذي سوف يكون شريكي في إنتاج الفيلمين المنجزين إلى الآن، وهما “عشرة أيام قبل الزفة”، و”المرهقون”.

المرهقون

بالانتقال إلى تجربة إنتاج فيلم “المرهقون” المُنجز مؤخرًا، هل جاءت بالبناء على عوامل وظروف مرحلة إنتاج فيلم “عشرة أيام قبل الزفة”؟

بالتأكيد خرجنا من تجربة فيلم” عشرة أيام قبل الزفة” بمعرفة مسائل كثيرة، منها كيف نشارك بالفيلم في مهرجان، وكيف نقوم بتوزيعه، وكيف نتنبَّه لبعض الأخطاء التي رافقت إنتاجه، مثل إغفالنا خطوة تقديمه إلى صناديق دعم عربية ودولية، للحصول على تمويل يساهم في رفع مستوياته الفنية، ثم كيف نحترف أكثر ونتعامل مع محترفين حقيقيين وبأدوات حقيقية. وبالفعل توصلنا أثناء التجهيز لفيلم “المرهقون” لخطة جيدة للحصول على الدعم المالي، بدأت بميزانيات محلية ثم ميزانيات صناديق الدعم الدولية، وكانت المنافسة صعبة مع عدد كبير من الأفلام من مختلف أنحاء العالم. وقد استطعنا انتزاع عدد من المنح المالية لدعم استكمال وتطوير تصوير وإنتاج الفيلم من مهرجانات عربية ودولية مرموقة، منها “مهرجان البحر الأحمر السينمائي” في مدينة جدة بالسعودية بنسخته الثانية، و”مهرجان مالمو” للفيلم العربي بالسويد، ومهرجان “كارلو فيفاري” بالتشيك. إلى جانب ذلك أصبحنا حريصين على تواجد خبرات أجنبية محترفة ضمن الفيلم في كل جوانبه. بحيث يُستفاد منهم في تدريب الشباب المشاركين في الفيلم، وهم من أبناء عدن وحضرموت وتعز وصنعاء، وغيرها من المحافظات. وقد استفاد الكثير منهم، وصار البعض لديه الآن مشروعه الخاص.

توصلنا أثناء التجهيز لفيلم “المرهقون” إلى خطة جيدة للحصول على الدعم المالي، بدأت بميزانيات محلية، ثم ميزانيات صناديق الدعم الدولية.

في مهرجان برلين السينمائي الدولي بنسخته الـ73 خلال فبراير الماضي، أُثير الانتباه عالميًّا لفيلم “المرهقون” إثر حصوله على جائزتين رفيعتين ضمن فعاليات المهرجان نفسه، إحداهما من منظمة العفو الدولية، لـ “الفيلم الأكثر تأثيرًا إنسانيًا”، والأخرى ثاني أفضل فيلم روائي في قسم البانوراما، وبتصويت أكثر من 20 ألف من الجمهور الزائر للمهرجان. كيف قابلت هذه الأنباء؟

بلا شك قابلتها بسعادة كبيرة، خاصة وأنها من مهرجان برلين السينمائي الذي يعدُّ من كبريات الأحداث المهمة في السينما العالمية. لكن في الواقع، لا أضع الجوائز نصب عيني، أو هدفًا أساسيًّا وأنا أُجهز لعمل سينمائي لاحق. ورؤيتي دائمًا أن لا يُكرس الفنان تفكيره في مسألة إرضاء الفعاليات أو المهرجانات، بهدف الحصول على الجوائز، أو حتى بإرضاء جمهوره ومحيطه. عليه أن يفكر عميقًا في لحظة الخلق والإبداع الفني، وكيف ينتج عملًا فنيًّا بكل حواسه وشغفه وقناعاته وصِدقهِ.

بالعودة الى فيلم “المرهقون”، وإلى سياقه “الاجتماعي” الذي لم يفترق عن فيلم “عشرة أيام قبل الزفة”، أين يمكننا ملاحظة افتراق تجربة “المرهقون” عن سابقتها؟

الفيلمان يتحدثان بشكل أو بآخر عن وضعية أُسر الطبقة المتوسطة في عدن خاصة، واليمن عامة، وتأثيرات الحرب على الوضع الاقتصادي والمعيشي لهذه الفئة المهمة من المجتمع. لكن الفارق هو أن “عشرة أيام قبل الزفة” اتخذ أسلوبًا كوميديًّا وساخرًا، بخلاف “المرهقون” الذي اتخذ جدية شديدة. ثم هناك الفارق الزمني، فـ”عشرة أيام قبل الزفة” تم إنتاجه بين عامي 2017-2018، في أعقاب حرب انتصرت فيه عدن على الإرهاب، وكان هذا باعثًا للأمل في النفوس. بينما “المرهقون” الذي جاء بين عامي 2020- 2021، وهي الفترة التي كانت الأوضاع تزداد قتامة وسوءًا، فقد تَشَكَّل الشعور باليأس لدى معظم الناس؛ لذلك كان لا بدَّ أن نكون صادقين مع مجتمعنا، ونقدم الفيلم بتلك القسوة التي تشبه القسوة في الواقع. أما الفارق الفني في فيلم “المرهقون” فقد كان واضحًا، من خلال أسلوب التصوير الذي يمنح المُشاهد فسحة تأملية في التفاصيل، بغض الطرف عن استمتاعه من عدمه بالأحداث. وذلك من خلال أسلوب اللقطات الواسعة، بحيث جاءت معظم مشاهد الفيلم لقطات متصلة بدون تقطيع. وهذه كانت رغبتي بتوثيق بعض المباني القديمة في المدينة، والتي تم ويتم تدميرها بشكل يومي، وسط غياب الدولة، ودون اكتراث لعمرها الذي يصل إلى مائة عام.

“المرهقون”، و”عشرة أيام قبل الزفة”، يتحدثان عن وضعية أُسر الطبقة المتوسطة في عدن، وتأثيرات الحرب على الوضع الاقتصادي لهذه الفئة من المجتمع.

تناول الفيلم “الإجهاض” كقصة واقعية، كما أشرت سابقًا، كيف أمكنك المعالجة الفنية لمسألة كهذه تتقاطع عندها اعتبارات اجتماعية ودينية؟

هذه الاعتبارات لم يكن الفيلم معنيًّا بها تمامًا، فهو أبعد منها، ومن كونه يتناول مسألة الإجهاض كحدث مجرد، وإن كانت خلفيته تتحدث عن أسرة تحاول إجهاض طفلها. إنه يتحدث عن واقع اقتصادي مرير تَمرُّ به الأسر المتوسطة في اليمن، وفي عدن تحديدًا، نتيجة الحرب، وكيف حمل ذلك إحدى الأسر إلى التفكير بجدية في إجهاض طفلها حتى لا تضيف أعباء مالية أخرى على نفسها. ومن زاوية أخرى، استثمرنا فنيًّا وموضوعيًّا فعل “الإجهاض” كمفردة مجازية في استخداماتها التي نعلم كثرتها وشيوعها في مصادر الأدب العربي والصحافة والإعلام، إذ عادة ما نقرأ تعبيرات من قبيل: “أُجهضت أحلامه”، أو “الآمال التي أُجهضت ..و.. إلخ”. حتى الطفل في الفيلم هو ليس كيانًا فحسب، وإنما هو رمزية كبيرة لمستقبل البلاد الذي يتم إجهاضه عنوة.

الدعم

حدثنا عن طبيعة الدعم الممنوح للفيلم من مهرجان البحر الأحمر السينمائي، وإلى أي مدى كانت الاستفادة من الدعم؟

الدعم كان سخيًّا ومهمًّا جدًّا، فقد ساعدنا بشكل كبير على تطوير واستكمال مراحل مهمَّة في مشروع الفيلم: التصوير، الإنتاج، هندسة الصوت، وغير ذلك من المسائل الفنية. وفوق ذلك، لمسنا تعاطيًا حقيقيًّا مع مفهوم الحرية المتطلبة في صناعة الفنون عمومًا، والسينما بصورة خاصة. من خلال عدم فرض شروط معينة للدعم، وأظن هذه ميزة يكاد ينفرد بها مهرجان البحر الأحمر، والذي أصبح مؤخرًا، بالنسبة لعدد كبير من الأسماء السينمائية عربيًّا وعالميًّا، واحدًا من أكبر وأهم المنصات والجهات الداعمة، بل أصبح مصدر الدعم الرئيس لإنتاج عدد كبير جدًّا من الأفلام الطويلة والقصيرة لمخرجين سينمائيين كبار وناشئين ومغمورين، وهو دعم لا ترافقه تدخلات في النصوص، أو ممارسة أي شكل من القص أو الحذف. إن هذا الشكل من إعطاء الحرية وتشجيع الفنون، أمرٌ جديرٌ بالتقدير والشكر للمملكة وللمهرجان الذي من الواضح أن دوره سيكون أكبر في خارطة تفاعلات السينما، على المستوى العالمي مستقبلًا.

بالعودة إلى تجربتك وتجارب عدد من صانعي وصانعات الأفلام الشباب في اليمن، هل يمكن النظر إلى مجموع ما تقدمونه من جهود إنتاجية مستقلة وفردية، كمشهد تأسيسي لصناعة سينمائية يمنية؟

لا أعتقد ذلك، طالما بقيت مظاهر هذه الإنتاجية محصلة لجهود فردية ومستقلة. سوف تظل صناعة السينما في اليمن عبارة عن تجارب فردية تُنجَزُ بشقِّ الأنفس؛ لأنك عندما تتحدث عن صناعة سينما، فإن عليك أن تتحدث عن منظومة متكاملة: وزارة ثقافة تهتم، ورجال أعمال مهتمون، وقبل ذلك دولة تُقَرّر وتُنفّذُ بُنى تحتية للمسرح والسينما، خاصة وقد تم تدمير ما كان موجودًا منها. وهو متواضع وهش كما نعلم. وأظن أن من سيأتي في مرحلة قادمة، وعنده اهتمام وجدية بهذا الجانب، سوف يبدأ من الصفر لتأسيس بُنى تحتية للثقافة والفنون، وتحديدًا السينما والمسرح.

سوف تظل صناعة السينما في اليمن عبارة عن تجارب فردية تُنجَزُ بشقِّ الأنفس؛ لأنك عندما تتحدث عن صناعة سينما فإن عليك أن تتحدَّث عن منظومة متكاملة.

فاصل اعلاني