• English
  • 14 يناير، 2025
  • 7:19 ص

راحلون لا يعرفون الغياب

راحلون لا يعرفون الغياب

30 July، 2022

طارق الشناوي

كان عاما حزينا بكل المقاييس، أتحدث عن 2020، و2021 لم يكتف فقط بالجائحة، ولكنه أيضا حصد العديد من الأرواح ضحايا كورونا أو غيرها، تعددت الأسباب والموت واحد. عديد من الأسماء غادرونا، مثل نادية لطفي وماجدة الصباحي وجورج سيدهم والمنتصر بالله ومحمود رضا ومحمود ياسين ورجاء الجداوي وعزت العلايلي ويوسف شعبان، واستمرت حالة الفقد حتى قبل أيام وودعنا المخرج السوري حاتم على والكاتب المصري وحيد حامد والموسيقار اللبناني إلياس رحباني، آخر عنقود الرحبانية الذين أسسوا الموسيقي والنغم الحديث في لبنان، رحيل كل هؤلاء الكبار وغيرهم كثيرا ما يطرح سؤال، عن حال الحياة الفنية والثقافية بعدهم، هل نعاني التصحر الفكري، ونعيش في حالة خواء، وعلى كل المستويات.

كثيرا ما نقرأ تلك العناوين المتكررة مثل رحيل آخر الكبار، أو آخر الرجال المحترمين، أو آخر الظرفاء، وغيرها من (المانشيتات) التي تؤكد على موقف ثابت وهو نهاية عالم وبزوغ عالم آخر بدون هؤلاء الكبار. دأبنا دائما على أن نضع خطا فاصلا، يوحي أن تلك هي النهاية لعنقود الإبداع المتدفق، وما سوف يأتي بعدهم لا وزن له، والغريب أننا بعد رحيل ما وصفناه بأنه آخر، نعيد تدوير نفس الكلمة للراحل الجديد ونعتبره أيضا آخر، وهكذا تتكرر نفس الكلمات التي تعني النهاية.

بينما واقعيا، الحياة الفنية والثقافية تتجدد، مع كل حقبة زمنية، نتابع مبدعون جدد أبناء الزمن.

غاب نجيب الريحاني في نهاية أربعينيات القرن الماضي ولم ترحل الكوميديا، وغاب إسماعيل ياسين في مطلع السبعينيات وظلت الضحكات تملأ حياتنا، غادرنا عمالقة كُثر وظل الفن يتجدد على الشاشات وخشبات المسارح. من أكثر السنوات ضراوة، مثلا تلك التي فقد فيها الغناء العربي في ثلاثة أعوام فقط، ثلاثة من قمم الغناء العربي تباعا فريد الأطرش (ديسمبر 74) وأم كلثوم (فبراير 75) وعبد الحليم (يونيو77)، ورغم قسوة وفداحة الضربة فلقد استمر الغناء.

 الزمن يدفع للحياة بمن يشبه الحياة، فقد يحاول البعض استنساخ فنان، مثلما حاولوا مع أكثر من مطرب أعدوه ليصبح خليفة لعبد الحليم حافظ، ولكن الناس لم ترض بالصورة وظل الأصل حاضرا.

الفن لا يتوقف تدفقه مع رحيل فنان مهما بلغت قيمة عطاؤه، تظل مساحة الفنان الغائب أيضا غائبة، ولا يشغلها إلا حضوره من خلال إعادة عرض أعماله. لقد عرفت العديد من هؤلاء الكبار الذين غادرونا، مثلا النجم الكبير محمود ياسين في سنواته الأخيرة بدأت الذاكرة تخونه وابتعد فعلا نحو أربع سنوات عن الأستوديو، بعد أن كان قد تعاقد على مشاركة عادل إمام بطولة مسلسل “صاحب السعادة”، ولكن أمام الاتهام الذي لاحقه بالنسيان أمام الكاميرا، قرر الانسحاب.

الفنان محمود ياسين

 ابتعد تماما محمود ياسين ولم أره سوى في تكريمه بعدها بأشهر قلائل في مهرجان الإسكندرية السينمائي، وللحقيقة كان في حالة ذهنية جيدة يعرف الجميع ويدلي برأيه بكل رزانة أثناء المؤتمر الصحفي، محمود هو (جان) السينما المصرية منذ مطلع السبعينيات، أسندت له البطولة في أكبر عدد من الأفلام عرفته شاشة السينما المصرية.

بعض الفنانين لا يغادرون أبدا الساحة يظلون في الأستوديو، وحتى اللحظة الأخيرة مثل رجاء الجداوي، التي أنهت دورها في المسلسل التليفزيوني الرمضاني الأخير “لعبة النسيان” وفيلم “تواءم روحي” ثم ودعت الحياة برصيد ضخم، تجاوز عطاءها 60 عاما. المخرج السوري حاتم على أحالوا جنازته في دمشق إلى حفل عُرس شاركت فيه  الجماهير .حاتم كان يكتب ويمثل ويخرج وقدم  أروع الأعمال الدرامية، وكان من أكثر المخرجين العرب الذين تبحث عنهم شركات الإنتاج  المصرية والخليجية واللبنانية، لأن له بصمته الفنية التي من المستحيل محوها.

حاتم علي

النجوم نوعان الأول يسبقه ضوء ساطع يؤدى إلى (الزغللة) وهؤلاء هم الأغلبية، وتبقى الأقلية المنتقاة، أصحاب الضوء الكاشف، ويقف في الصف الأول بين هؤلاء عزت العلايلي، ضوء ينير أولاً مسام العقل والقلب قبل أن يستقر في الوجدان.

على خريطته تجد أهم مخرجي السينما المصرية وقد أجمعوا على موهبته مثل صلاح أبو سيف “السقا مات” و”المواطن مصري”، ومع يوسف شاهين “الاختيار” و”الأرض” و”إسكندرية ليه”.

بينما يوسف شعبان فنان متعدد الأنغام الدرامية، استطاع أن يتواجد بقوة في زمن الكبار  ويظل دوره “محسن ممتاز” رجل المخابرات المصرية  له سحره، فكيف لمسلسل اسمه “رأفت الهجان” يقفز للناس اسم “محسن ممتاز”، هذا هو سر يوسف شعبان، يستطيع أن يلتمس في الدور التالي للبطل، ما يضعه في مقدمة (الكادر)، لنتأكد أن نجم المشاعر يتفوق أحيانا على نجم “الأفيش”!!.

الكاتب الكبير وحيد حامد أتاحت لي صداقتي الممتدة معه أن أتابعه منذ بدايته ككاتب إذاعي متميز، حتى صار هو الكاتب الأول في الدراما السينمائية، وصاحب موقف فني وفكري، لا يمكن أن نختصر حضوره المؤثر فقط لأنه واجه (الإخوان ) الذين حاولوا اختطاف مصر، ولكن وحيد أستطاع أن يستوعب اللغة السينمائية الحديثة في تناول قضاياه، وهو من الكتاب القلائل الذين يتحملون أمام الجمهور المسؤولية الأدبية عن مشروعهم الفني، وهكذا سنظل نتذكر له أفلاماً مثل “الهلفوت” و”الانسان يعيش مرة واحدة” و”طيور الظلام” و”سوق المتعة” و”اضحك الصورة تطلع حلوة”  والفيلم الأخير هو  أقرب الأفلام إلى قلبه، وحيد لديه عديد من التلاميذ  المتألقون، إلا أنهم مدركون أن عليهم تقديم بصمتهم الخاصة، وكان تلك هي نصيحته لهم.

الفنان الذي يمتد به العمر قد يجد نفسه، مع الزمن، خارج الزمن، ولكن الموهوب حقا هو من يستوعب مفردات العصر، الذي يعيشه.  

 كان عاماً ثقيلاً جداً علينا، وهؤلاء الذين غادرونا ستظل أعمالهم تتجدد في الوجدان، وسيظل أيضا نهر الإبداع لا يكف عن الجريان، بأحلام وإبداعات ومبدعون، يواصلون المسيرة.

فاصل اعلاني