• English
  • 14 يناير، 2025
  • 6:24 ص

سكورسيزي بين حادثتي قتل

سكورسيزي بين حادثتي قتل

5 December، 2023

إبراهيم آب إمام

“السينما ماتت” بهذا المعنى بشَّر على مدار سنوات صاحب الفيلم المرتقب “قتلة وردة القمر”، مارتن سكورسيزي، صاحب الواحد والثمانين عام. كان يقصد بهذه الجملة الثورية أن نوع السينما التي كان هو أحد رموز ثورتها الشابة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، لم تعد تملك القدرة على حمل نفس الهم الذاتي الذي حملته الموجة الجديدة، بعد سقوط عصر الأستوديوهات الإقطاعي منذ بدايات الخمسينيات. وبينما فيلمه المنتظر يتحدث عن قتل الرأسمال الأبيض لأصالة الأمريكيين الأصليين. يتناول حديث سكورسيزي الأخير قتل رأسمال الشركات المليارية؛ أصالة حلم السينمائيين لصالح أفلام الفرانشايز، أي أفلام العلامة التجارية، مثل عالم مارفل، وجيمس بوند.

يرى جيل هذه الموجة أنه بإمكانك تمويل فيلم تجاري بمئة مليون دولار، أو أن تجمع منح متعددة تستهلك عمرك لتمويل فيلم متناهي الصغر بمليون واحد. لكن المساحة الوسيطة لم يعد لها مكان. الصوت الذاتي المستقل للفنانين لم يعد يغري منظومة الاستثمار الجديدة، حيث أصبحت شركات الإنتاج ليست سوى قطاع منفرد داخل كيان كبير يعمل رئيسه التنفيذي على أن يحقق معدلًا سرمدي الربح.

للمفارقة سكورسيزي فجَّر هذه الفكرة ما قبل كورونا في مجد سيطرة نيتفلكس، التي أحيت له فيلمه المستحيل “الرجل الأيرلندي” بتكنولوجيا ثورية، وميزانية أقرب إلى المفتوحة.

قصد سكورسيزي بجملته “السينما ماتت”؛ أن نوع السينما التي كان أحد رموز ثورتها الشابة، لم يعد يملك القدرة على حمل نفس الهم الذاتي.

لوغرتمات الحواسيب

هذا النقد لم يبشر به سكورسيزي منفردًا، بل وأبناء جيله حول العالم، من كوبولا إلى جودار. غير أن سكورسيزي أخذ النقد إلى مستوى أكثر جدلية، بأن الكارثة هذه المرة أعمق من سابقتها في القرن الماضي. المعضلة هذه المرة أن السيطرة انتقلت من القاعات بحيويتها إلى لوغرتمات الحواسيب التي وفرت منصاتها أدوات قياس رقمية أكثر إحكامًا، تبدَّل معها العمل الفني من تجربة إنسانية، ولو كانت ربحية، إلى مجرد “محتوى” content. تمامًا مثل أي محتوى آخر على الفضاء الإلكتروني، العامل الوحيد هو أن تقرأ اللوغاريتمات تفضيلاتك المباشرة لعدد معين من الدقائق على الجهاز الإلكتروني، أيًّا كان محتوى هذه الدقائق، فيلمًا، موسيقى، أو وصلات رقص. دون أن تحاول هذه اللوغاريتمات أن تقترح عليك مساحات جديدة للاكتشاف، كالتي كان يقترحها مصممو جداول العرض التليفزيوني، أو مبرجو الحفلات، أو حتى مشرفو نوادي الفيديو. وبالتالي يتم الاستثمار في اتجاه واحد، أكثر ضمانًا للشركات التي تحتاج دائمًا أن تقدم إلى حاملي أسهمها أرقامًا صاعدة إلى اللانهائية.

fellini1

اختار سكورسيزي منذ سنوات ذكرى ميلاد فيلليني، ليعبر عن هذه المفارقة في تاريخ السينما، في مقاله “المايسترو”، حيث الحديث عن  أكثر أساتذته حسية وانطلاقًا، مستعرضًا زمنه بين نيويورك وروما. زمن تمكنوا فيه- ولو بصعوبة- من إكتشاف أحلامهم مع آخرين. زمن يرى أننا لم يعد في إمكاننا تكراره.

سينما المؤلف

سكورسيزي الذي لم يشارك فيلمه الأخير في المسابقة الرسمية لمهرجان كان. حيث فضل أن تتاح الفرصة لأجيال أخرى يمكن أن تفيدها فرصة كهذه. وبينما تنتظر القاعات العرض التجاري للفيلم. ضج العالم بحضور كثيف لتجربة “باربيهايمر”، لمخرجين قادمين من سينما المؤلف الذاتية بدرجات مختلفة. فيلم “أوبنهايمر” لكريستوفر نولان على خام الأيماكس، يطرح تساؤلًا يليق بزمن نخاف فيه حربًا عالمية ثالثة. وفيلم “باربي” لمخرجته جريتا جروينج الذي تم تصويره بديكورات ومؤثرات حقيقية لمخرجة عُرفت بأفلامها النسوية المستقلة، ولكنها هذه المرة تطرح تساؤلًا نسويًا من الموجة الثالثة أكثر طزاجة.

هذه الضجة، أحدثت حضورًا ملفتًا، حُجزت فيه القاعات لأسابيع متتالية، على مدار كل حفلات اليوم، وتم مد فترات عرض السينمات التي تقدم الفيلم من خلال مشغلات الخام، وليس الديجتال في حالة أوبنهايمر. الرواج لم يتوقف غربًا، بل امتد بحيوية في الشرق الأوسط، وتحديدًا في الخليج والسعودية، حيوية ظهرت في افتتاح قاعات جديدة، حققت حضورًا وأرباحًا ملفتة، تولد معها سوق محلي الصنع والاستقبال في الخليج، انعكست نتائجه لتدعم حجم الإنتاج في دول الجوار مثل مصر، والتي رغم تاريخها الكبير في المنطقة، إلا أن العزوف عن الإنتاج لدور السينما، والاعتماد على المنصات، كان الخيار المتزايد في العقد الأخير بآلياته التي أشار لها سكورسيزي. كل هذا يعيد مرة أخرى الأمل في السينما بمعناها الأثير لمحبيها. ويطرح فكرة موت السينما، وسيطرة اللوغريتمات مرة أخرى على طاولة الاختبار.

امتد الرواج السينمائي إلى السعودية ودول الخليج، وانعكست نتائجه على مصر، فكان الاعتماد على المنصات خيارها المتزايد بآلياته التي أشار إليها سكورسيزي.

فاصل اعلاني