سينمائيون إماراتيون وبحرينيون يقدمون فرادة الحكاية في كيفيات سردية مختلفة
30 July، 2022
غسان خروب
“السينما هي كيفية أن تعيش أكثر من حياة.. حياة جديدة مع كل فيلم تشاهده”، هكذا وصف المخرج الأميركي الراحل روبرت ألتمان يومًا نظرته إلى السينما، تلك التي تمنحنا يوميًا حكايات تتيح لنا الغوص في ثنايا المجتمعات الإنسانية، وتمنحنا نظرة خاصة على ملامحها وتفاصيلها، وكذلك هو الأمر بالنسبة للسينما الخليجية، التي تكاد تتمتع بخصوصية فريدة، كونها تأتي من بلاد امتازت مجتمعاتها بثراء الحكاية، وبتنوع إنساني جميل.
ولكن النظرة على السينما الخليجية ستبدو متفاوتة، نظرًا لتفاوت مستوياتها، واختلاف نشأتها وتاريخها في بلدان الخليج، وتفاوت تطورها من دولة لأخرى، ذلك أن كل واحدة منها تشي بمكنون خاص، وبقصص تتصل بطريقة أو بأخرى بالمجتمع، بينما تعبّر أفلامها عن رؤى إخراجية وقصصية متعددة، تحملها مجموعة من المواهب التي عشقت الفن السابع منذ نعومة أظفارها ومضت فيه، إيمانًا منها بأهمية رواية قصصهم، ونقل صورة عن مجتمعاتهم إلى العالم.
وبلا شك أن المتبحر بأعمال السينما الخليجية، سيشدّه ذلك التآلف وتلك اللغة السردية التي تكتنف بعض أفلامها، لا سيما تلك الفنية منها، التي استطاعت أن تجوب مهرجانات السينما، سواء تلك الناطقة بلسان عربي أو تلك الناطقة بألسنة متعددة. ورغم ذلك يبقى لكل سينما في الخليج خصوصيتها.
تبرز لدينا فرادة الحكاية التي تسعى السينما الإماراتية إلى تقديمها، ليظل اللافت أن غالبية الأعمال التي تصدرها هذه السينما، تدور في فلك الماضي، وزمان سابق، إذ البطولة فيها للأفراد وليست الأمكنة، بينما يبدو أن السينما الإماراتية مقبلة على تغيير لافت في سنواتها الأخيرة، بعد دخول عدد من صناعها في إطار “السينما التجارية”، إذ استطاعوا رفد صالات الإمارات بثلة من الأفلام التي “نالت تصفيقًا جماهيريًا كون معظمها كوميدية الطابع”. ولكنْ في إطار السينما الفنية، نجح معظم صناع الأفلام الإماراتية في تقديم لمحة عن مجتمعهم وبعض من قضاياهم، خاصة تلك التي تتوغل قليلًا في بنية المجتمع. ويظل الملاحَظ أن معظم هذه الأفلام التي غلب عليها طابع الروائي القصير، استطاعت أن تلمع في حدود المهرجانات السينمائية، خاصة تلك التي كانت تقام في الإمارات.
السينما الإماراتية مقبلة على تغيير لافت، بعد دخول عدد من صنّاعها في إطار “السينما التجارية”، إذ استطاعوا رفد صالات الإمارات بثلة من الأفلام التي نالت تصفيقًا جماهيريًا كون معظمها كوميدية الطابع.
حكاية الكويت مع السينما، تبدو الأكثر عمقًا وخبرة، فيُنسب لها الإنتاج الأول المتمثل في “بس يا بحر” لخالد صديق، وهو العمل الذي لا يزال حيًا في ذاكرة الناس وعشاق الفن السابع. الحركة السينمائية الكويتية كانت الأسبق في الوصول إلى السينما التجارية، ولكنها ظلت حبيسة بلادها، مع ملاحظة أن التوجه نحو “الدراما التلفزيونية” في الكويت بدا أكثر وضوحًا من نظيره السينمائي، وهو ما يفسر لنا ارتباط الدراما الخليجية بالكويت.
قلة الأفلام القادمة من البحرين وعمان وقطر لا تعني عدم وجود إنتاج سينمائي فيها، ولكن معظم هذه الأفلام ظلت تدور في فلك الروائي القصير، ولم تتمكن من تجاوز حدود المجتمع وبعض القضايا التي طرقتها السينما في زمن ليس بقريب، ورغم ذلك يظل هذا الإنتاج “مهمًا”، كونه يكشف لنا عن مواهب جميلة، تؤمن بأن لديها ما ترويه للعالم، وأن من حقها أن تروي قصصها بأسلوبها الخاص.
“عسل ومطر وغبار”
التجربة الإماراتية ميزتها ثلة أفلام جميلة، بعضها عاشت أحداثه في الماضي، وأخرى عاينت الواقع ونقلته إلى الشاشة الكبيرة، كما في فيلم “عسل ومطر وغبار” للمخرجة الإماراتية نجوم الغانم، التي تروي فيه ثلاث قصص مختلفة في توجهاتها، لا يجمعها سوى صناعة العسل في الإمارات. فيلم نجوم الغانم ينتمي إلى نوعية “الديكودراما”، وفيه نتابع تنقلها بين مناطق دفتا وشيص ووادي سنا، لتقابل فيها كلًا من غريب اليماحي وعائشة عبدالله النقبي، وفاطمة سند النقبي، إذ لكل واحد منهم حكايته مع جمع العسل، المهنة التي توارثوها عن آبائهم، ويسعون في الوقت نفسه إلى المحافظة عليها عبر نقلها إلى أبنائهم وبناتهم.
“عسل ومطر وغبار” ليس العمل الأول لنجوم المعروفة باتقاتها لعبة الأفلام الوثائقية، فقد سبقته بـ”سماء قريبة” و”المريد” و”حمامة”، وأتبعته لاحقًا بفيلم “آلات حادة” الذي ألقت فيه الضوء على تجربة الفنان التشكيلي الإماراتي الراحل حسن شريف. وبالعودة إلى فيلمها “عسل ومطر وغبار”، فإن أهمية هذا الفيلم لا تكمن فقط في طبيعة الحكاية، وإنما في تصوير مشاهده التي سعت فيها نجوم إلى “أنسنة” الصورة، وتقديمها بصورة جاذبة، تختلف في إيقاعها من مشهد لآخر، في وقت حرصت فيه نجوم على تقديم معلومة صحيحة وكاملة؛ بعضها يأتينا على لسان غريب الذي يشير إلى أن توقيت «عسل السمر» لا يكون إلا في شهر مايو، بينما «عسل العشب» يكون في شهري مارس وأبريل، وأن النحل يحتاج الى مياه عذبة لأن يتغذى.
تجربة نجوم الوثائقية، تبدو بارزة في السينما الخليجية عمومًا، وتقودنا للحديث عن نوع آخر من الأفلام التي امتازت بها السينما الإماراتية، كما في تجربة المخرج عبدالله حسن أحمد، وفيلمه “ولادة” الذي يأخذنا عبر لغة سردية جميلة نحو عمق البيئة الإماراتية، عبر أحداث قصة تدور في يوم دفن الشهداء، وهو يوم لا يزال حيًا في الذاكرة الإماراتية. فيلم “ولادة” ينطوي على حكاية إنسانية الطابع، وثرية بتفاصيلها التي تعكس شغف الانتماء إلى المكان والهوية، ذلك ما تشعر به كمشاهد من خلال مرورك في حياة أسرة إماراتية في يوم واحد، وتطالع فيه حياة عائلة مكونة من أم خائفة على ناقتها، وأب متورط في رحلة مع رجل صامت، وابنهما العاشق للاعب الكرة العالمي “رونالدو”. لكل واحد من هؤلاء خطه الدرامي الخاص الذي يعكس فيه بساطة وطبيعة السينما التي يعشقها المخرج عبدالله حسن أحمد، فيبدو الفيلم احتفاءً بالشهادة والحياة معًا.
في المقابل، نشهد فيلم “نادي البطيخ” للمخرج ياسر النيادي، الذي جاء بعد تجربته القصيرة “روبيان”، ولعل ما يميز هذا الفيلم أنه “عمل يغرد خارج إطار النمط السائد في صناعة الأفلام الإماراتية”، وذلك من خلال طبيعة الطرح الذي يمضي فيه، والمتمثل في الوجه الآخر للنموذج المبهرج بالشكليات والأقنعة، ليتوغل عبر “رموزه” في ثنايا المجتمع المثقل بالعادات والأعراف. ذلك الطرح نكتشفه في حكاية 6 رجال يجتمعون في إحدى ليالي الصيف في مرزعة ما، يمارسون فيها طقوسًا معينة بجو تسوده بعض الديكتاتورية والسلطوية، لتكشف هذه الطقوس ماضيهم الصادم وتعرضه بشكل غرائبي، يأتي بعضها على هيئة خطايا أو ظلم مجتمعي تعرضوا له، أو أفكار سيطرت عليهم، أو أحداث ومواقف مروا بها، ليسرد كل شخص ما حصل له في الماضي رغبة في التحرر أو الخلاص من ذلك الهم.
ويأتي هذا السرد إما على هيئة أحلام أو خيالات أو كوابيس، ليصل من خلاله إلى قمة الألم، ويجد نفسه -بعد ذلك- في المزرعة مرة أخرى. “نادي البطيخ” عمل جميل، مثقل بالرموز القادرة على إثارة فضول المشاهد للمضي قدمًا في استكشاف طبيعة المجتمعات، والإنسان أيضًا، ولعل ما يميزه هو عدم مضيه في طرق سرد تقليدية أو كلاسيكية، وذلك نابع من طبيعة السيناريو المبني بطريقة جميلة ابتعد فيها النيادي عن الكلاسيكية، وتخلص فيها من عقدة الحبكة وتصاعداتها المختلفة.
الشجرة النائمة
نظرة مختلفة يمنحنا إياها فيلم “إن بارادوكس” للمخرج الكويتي حمد الصراف، على طبيعة إنتاجات السينما الكويتية التي خرج من رحمها “بس يا بحر” لخالد صدّيق، الذي لا يزال حيًا في ذاكرة الناس رغم مرور سنوات طوال على رؤيته النور. “إن بارادوكس” يمكن القول إنه يعد نقلة “نوعية” في مسيرة السينما الكويتية، ليس فقط على صعيد الشكل والرؤية الإخراجية، وإنما على مستوى المضمون أيضًا، إذ حكاية العمل تدور في سياق من التشويق والإثارة، حول محاولة رجل “هوجم” بلا هوادة أن يكشف لغزا غامضا، وأن يوقف شلال الذكريات غير المفهومة التي تسيطر عليه، وحينها يكتشف ما هو وهمي وما هو واقعي.
“إن بارادوكس” للكويتي حمد الصراف يعد نقلة “نوعية” في مسيرة السينما الكويتية، ليس فقط على صعيد الشكل والرؤية الإخراجية، وإنما على مستوى المضمون أيضًا.
جمالية هذا العمل تكمن في ذهابه على الصعيد الدرامي أو الروائي نحو مناطق فلسفية عالية المستوى، والمتمثلة في عملية اكتشاف ما هو وهمي ونظيره الواقعي، إذ يتأرجح المشاهد بينهما في سبيل اكتشاف حبكة القصة، وقد ساعد في ذلك المستوى الاحترافي العالي الذي تميز به المخرج حمد الصراف، الذي وظّف في هذا العمل مفردات سينمائية جميلة زادت من ألق هذه التجربة.
في التجربة البحرينية، يبرز لدينا فيلم “الشجرة النائمة” (2014) للمخرج محمد راشد بوعلي، الذي استند فيه على حكاية من تأليف السينمائي فريد رمضان. ما يميز هذا العمل تحديدًا، ليس فقط كونه فيلمًا روائيًا طويلًا، وإنما كونه مفتوحًا على التأويل، ولديه قابلية القراءة عبر مستويات عديدة وطبقات مختلفة، تمكننا من اكتشاف أعماقه وأبعاده الفلسفية والسياسية والغرائبية أيضًا، فهو يذهب في حكايته نحو تناول موضوع الحياة والموت، واليقظة والنوم، وانتظار المعجزة أمام حالة مرضية يعاني منها زوجان تتجسد في وجود بنت مصابة بمرض يوصف طبيًا بأنه الشلل الدماغي، بينما يذهب بنا نحو حالة صوفية قادرة على استدعاء المكان والزمان، وفق المعطيات الثقافية العربية والخليجية على حد سواء.
ما يميز فيلم “الشجرة النائمة” للبحريني محمد راشد بوعلي، ليس فقط كونه فيلمًا روائيًا طويلًا، وإنما كونه مفتوحًا على التأويل، ولديه قابلية القراءة عبر مستويات عديدة وطبقات مختلفة.
قد تكون هذه الأفلام، مجرد أعمال قليلة، لكنها قادرة بلا شك على أن تمنحنا نظرة خاصة على طبيعة المجتمعات الخليجية، وطرق التفكير فيها، وطبيعة الحكايات التي يمكن أن تخرج من رحم مجتمعات لا تزال ثرية بتفاصيل القصص والحكايات الملهمة.