من جوسلين صعب ورندة الشهال إلى نادين لبكي …. سينما المرأة اللبنانية والتحوّلات بين زمنين
4 December، 2023
فيكي حبيب
رسمت سينما المرأة اللبنانية محطات بارزة في تاريخ لبنان الحديث، من زمن النضالات الإيديولوجية الكبيرة في سبعينيات القرن العشرين، إلى زمن “السلم” النسبي خلال الألفية الجديدة.
ولم يكن غريبًا حضور المرأة اللافت في المرحلتين الفاصلتين بين الخروج الجزئي من “سينما الحرب”، والدخول النسبي إلى “سينما الإنسان”… بكل ما حمله هذا “الانتقال” من تخبُّطات وخيبات، خصوصًا أن إرثًا كبيرًا من زمن الحرب ظلَّ الجيل السينمائي الجديد يرزح تحت وطأته: إرث يدور في دوَّامة من العنف والجرائم والكراهية، فكان لزامًا تجاوزه، خلال السنوات التي أعقبت توقُّف الاقتتال مطلع التسعينيات، بعدما استُهلكت مواضيعه كثيرًا، وراح المنتجون الأوروبيون الذين شرّعوا أبوابهم أمام مؤسسي “السينما اللبنانية الجديدة” (من أمثال مارون بغدادي، وبرهان علوية، وجوسلين صعب، ورندة الشهال)، يصدّونها في وجه الجيل الشاب، متّهمينه بالاستسهال في ظلِّ غياب الأفكار والدوران في حلقة مفرغة.
أمام هذا الواقع الجديد حينها، وجد السينمائيون الشباب أنفسهم مجبرين- إن أرادوا لمشاريعهم أن تبصر النور- أن يخرجوا من عباءة الحرب إلى “تيمات” مختلفة، تفتح لهم آفاق الإنتاج الأوروبي المشترك الذي شكّل- على مدى سنوات طويلة- الداعم الأول لهم-إن لم يكن الوحيد- في ظلِّ غياب الدعم الرسمي، في بلد تقبع الثقافة فيه في ذيل قائمة اهتمامات المسؤولين ورجال السلطة.
وسرعان ما بدأت تترسَّخ قناعة في عقول هؤلاء السينمائيين الشباب، مفادها ضرورة الابتعاد عن “سينما الحرب”، بعدما باتت عملة خاسرة في الزمن الراهن، خلافًا لما كانت عليه في فترة سابقة، حين كانت المهرجانات الأوروبية تغدق عليها الجوائز؛ لمجرد أن الفيلم ينتمي إلى تلك النوعية. وشيئًا فشيئًا، بدأت تتراكم المحاولات الفردية التي تفاوتت في جودتها وخروجها عن السائد، ليسجِّل العام 2007، نقطة تحوّل لم يعد ممكنًا تجاوزها.
حقق ذلك فيلمٌ، هو الروائي الطويل الأول لمخرجته نادين لبكي. الفيلم هو “سكر بنات” (كاراميل) الذي بدا، بعد مشاركته المميزة في مهرجان “كان” السينمائي، الأكثر اكتمالًا ونضوجًا وفنية بين أفلام سينما ما بعد الحرب.
يومها، تألقت السينما اللبنانية، وتنفَّس محبوها الصعداء، معتبرين أن هذا الفيلم وضع اسم لبنان من جديد على خريطة السينما العالمية. ولم يكن ثمة مبالغة بالقول إن سينما ما بعد الحرب وجدت مع هذا العمل “فيلمها” الذي سيشكّل انعطافة كبيرة في رحلة السينما اللبنانية.
والمفارقة أن هذه القفزة خطّتها يدا شابة لبنانية حسناء، وافدة من عالم الفيديو كليب، بعدما سجّلت نجاحات كبيرة، لم تقبل بأقل منها خلال مسيرتها في عالم السينما… بل تخطتها لتكون السينمائية اللبنانية الحاصلة على أرفع الجوائز العالمية، خصوصًا بعد النجاحات الكبيرة التي كانت تحققها مع كل فيلم، وإن أحدث الفيلمان الروائيان التاليان لها انقسامًا بين النقاد، خصوصًا فيلمها الأخير “كفر ناحوم” الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان الدولي بين جوائز أخرى. وبالتالي، مرة جديدة، تمّكنت سيدة من أن تسبق الرجال في عالم الفن السابع، ما يعيدنا إلى عبارة الاقتصادي المصري طلعت حرب الشهيرة، التي قالها يومًا للمخرجة والمنتجة عزيزة أمير، إبان عرض فيلمها “ليلى” عام 1927: “لقد تمكنتِ أنتِ ياسيدتي من تحقيق ما عجز عنه الرجال”.
نادين لبكي شابة لبنانية حسناء، حصلت على أرفع الجوائز العالمية وأصبحت السيدة التي تمكنت أن تسبق الرجال في عالم الفن السابع.
حروب نسوية
في سينما نادين لبكي، وتحديدًا مع فيلمها الروائي الطويل الأول “سكر بنات”، لم يكن ثمة شكٌّ بأن الزمن تبدّل. بيروت، مطلع الألفية الجديدة، لا تشبه بيروت السبعينيات ولا الثمانينيات أو التسعينيات. وسينما الألفية الجديدة لا بدَّ من أن تحذو حذوها. في المرحلة الأولى، كان طبيعيًّا أن تلعب المدينة (بيروت) دور البطولة، بعد تحوّلها بين ليلة وضحاها من “سويسرا الشرق” إلى “هانوي العرب”. وفي المرحلة الثانية، كان لا بدَّ من أن ينتزع إنسان هذه المدينة، البطولة، لكل ما أصابه من أزمات وأضرار وأذى نفسي وجسدي على امتداد عقود من الدمار والتمزُّقات والفوضى.
في “سكر بنات”، الفرد هو البطل، ولا مكان لسينما القبضات المرفوعة، أو النضالات الكبيرة والحروب الواهية، كما اعتادت سينما الحرب تصويرها… بل ثمة توق إلى حروبنا “الصغيرة”- الكبيرة. حروب المرأة اليومية، وتوقها للبوح والتمرُّد، ومجابهة المجتمع الذكوري بلغة سينمائية لا تقلُّ جمالًا وتعبيرًا وفنًّا عن أفلام غربية كبيرة.
“سكر بنات” فيلم نسوي بامتياز. مخرجته امرأة، وبطلاته نساء، وحبكته تدور في عالم المرأة ومشكلاتها اليومية في العلاقات والحب والجنس ومشاعر الخوف من الشيخوخة ونظرة المجتمع.
توليفة مميزة، بدت منسجمة كل الانسجام مع المرحلة التي أبصرت النور فيها، فنجحت في دغدغة مشاعر المنتجين الأجانب، والأهم عرفت كيف تستقطب في وقت واحد جمهورين لا يلتقيان في العادة: جمهور المهرجانات السينمائية، وجمهور الصالات التجارية، فنالت تصفيقهما معًا ليسجّل هذا العمل سابقة لم تشهدها السينما اللبنانية من قبل.
لكنّ هذه الـ “حروب” النسوية لم تأتِ من عدم، كما لم تكن وليدة الصدفة، بل مهّدت لها شرائط سينمائية مميزة، وتحديدًا سينما المؤسسات، من أمثال جوسلين صعب. وهنا يطلُّ فيلمها “دنيا” (إنتاج عام 2005) الذي يمكن اعتباره الأكثر نسوية وجرأة بين أعمالها السينمائية الكثيرة. فهو يدور حول قضية ختان المرأة في مصر، ليطرح أسئلة مفتوحة حول التزمُّت والعصبيّات وحقوق النساء في مجتمعات ذكورية لا ترحم… تمامًا مثلما لم ترحم هذا الفيلم عند خروجه في الصالات، فرُجمت صاحبته، وتعرضت لأبشع الانتقادات. ولا تزال ماثلة أمام أعيننا، رغم مرور نحو 18 عامًا، مشاهد العراك والهرج والمرج التي صاحبت العرض الأول للفيلم في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
مخرجة رحّالة
مع هذا الشريط السينمائي، بدا وكأن جوسلين صعب التي وجدت نفسها من حيث لا تدري، واحدة من أبناء جيل “السينما البديلة”، أو ما اصطلح على تسميته في لبنان جيل “السينما اللبنانية الجديدة”، لم تستطع أن تفكّ ارتباطها الكليّ بسينما الحرب، بعدما رفدتها بمجموعة كبيرة من الأعمال التي أتت انعكاسًا لتجربتها الخاصة مع هذه الحرب، فشكّلت شهادة مصوّرة على حقبة زمنية موجعة من تاريخ لبنان الحديث. وتبدَّى ذلك منذ فيلمها الأول “لبنان في الدوامة” (1975)، مرورًا بـ “أطفال الحرب” (1976) و”رسالة من بيروت” (1978) و”بيروت مدينتي” (1982) و”غزل البنات” (1985) و”كان يا ما كان بيروت” (1994) وسواها. ولهذا حين أرادت جوسلين صعب أن تدنو من واقع المرأة في المجتمع، كان أن اتجهت إلى مصر، لتعمل على سجيتها، فلا تجد نفسها، محاصرة مجددًا في ذلك المربع الضيق (الحرب) أو مأخوذة بسطوة المدينة (بيروت)، كما كانت حالها دائمًا. وهكذا، منحت البطولة هذه المرة في فيلمها المصري “دنيا” للمرأة، بعد سنوات طويلة من التزامها قضايا سينما سياسية-إنسانية، شكّلت بيروت، المحور الأبرز فيها، فغاصت إلى أبعد الحدود في وحولها الشائكة، واعتبرت واحدة من الأكثر غزارة وإنتاجًا بين أبناء جيلها.
ولعلَّ نظرة إلى فيلمها “شو عم بصير؟” يعزز هذا الواقع. فالفيلم الذي حققته صعب عام 2009 في بيروت، أي بعد فيلم “دنيا” بأربع سنوات، تسند فيه دور البطولة مجددًا إلى بيروت/المدينة، وإنْ من خلال حبكة تدور في شكل فانتازي، حول قصة حب تجمع بين مثقف يقع في حب امرأة (ليليت)، ما هي إلا تجسيد للمدينة (بيروت) في شكل رمزي، عبّرت عنه المخرجة الراحلة صراحة في حواراتها الصحافية.
ولا غرابة في ذلك، إن نظرنا إلى مسيرة جوسلين صعب، المخرجة-الرحالة، كما كان يحلو لها أن تصف نفسها. فهي بدأت مسيرتها المهنية مراسلة حربية تتنقل بين مصر وجنوب لبنان وليبيا؛ لترصد الأحداث الساخنة هناك، وتقابل الشخصيات السياسية المحرّكة لتلك الأحداث، فكانت شاهدة على تحوّلات سياسية تخطّت العالم العربي، لتصل إلى إيران وفيتنام وسواهما.
ولم تكن صعب تدري أن حياتها ستتغير رأسًا على عقب عام 1975، حين كانت تستعد للسفر إلى فيتنام لتغطية التطورات لصالح التلفزيون الفرنسي. يومها وقعت حادثة عين الرمانة التي شكّلت شرارة الحرب اللبنانية، وبدلًا من أن تسافر المخرجة إلى هانوي لإتمام واجبها الصحافي، وجدت نفسها تغيّر وجهة سفرها، لتبقى في مسقط رأسها، الذي سرعان ما رأى بعضهم أنه تحوّل إلى هانوي جديدة. ومن دون أدنى تفكير، مدفوعة بحسِّها الصحافي، اشترت الفتاة الشابة كاميرا، ودارت بها في أزقة المدينة؛ لتكون سلاحها في تلك الحرب العبثية. ومنذ تلك اللحظة، لم تتوقف عن عمل الأفلام حتى رحيلها، مثلها مثل سينمائيين آخرين سيشكّلون معًا، في تلك الفترة، تيارًا سينمائيًّا جديدًا، سينجح في المزاوجة بين الشكل والمضمون؛ ليقول موقفه من الحرب من خلال إدانة قبح الواقع، بالاعتماد على جماليات الصورة. ولعل هنا مكمن القوة الرئيس. وتحديدًا، في هذا التناقض الخلَّاق الذي وسم مسيرة جيل “السينما البديلة”.
حين أرادت جوسلين صعب أن تدنو من واقع المرأة في المجتمع، اتجهت إلى مصر؛ كي لا تكون محاصرة بمربع الحرب، ولا مأخوذة بسطوة مدينتها بيروت.
غربة المرأة
إذًا، تبدو الخلفية السياسية المحرّك الأبرز في مسيرة جوسلين صعب المهنية، والأمر نفسه يمكن أن يُقال بالنسبة إلى السينمائية اللبنانية الراحلة نهلة الشهال. فهي ترعرعت في كنف أسرة شيوعية مثقفة، مكوّنة من أب طبيب لبناني، وأم عراقية عُرفت بنضالها السياسي. ولن يكون تأثير الوالدة بالأمر الهين في مسيرة الشهال التي طُبعت بصبغة نضالية-إنسانية-نسوية، فكانت المرأة في صلب اهتماماتها، هي التي نما وعيها الفكري والثقافي على نضالات أنثوية وأفكار ثورية.
انطلاقًا من هذه الخلفية، يصبح مفهومًا أن تختار الشهال نمطًا ثوريًّا نسويًّا كإطار عام لأعمالها الروائية، على الرغم من قلة عددها. فهي، وبعدما بدأت مسيرتها عام 1978 من خلال الفيلم الوثائقي “خطوة بخطوة”، الذي يحاول أن يلتقط اللحظة التاريخية التي رسمت سنوات من الحرب في وطنها، وجدت نفسها في تجربة سينمائية جديدة تتراوح بين العام والخاص في “حروبنا الطائشة” (1995)، حين صوّرت الحرب من خلال أفراد من أسرتها.
لكنّ سطوة سينما الحرب، لم تقف حائلًا دون مواصلة التزامها قضايا المرأة، منذ فيلمها الروائي الطويل الأول “شاشات الرمل” (1991) الذي تناولت فيه غربة المرأة العربية في مجتمعاتها، من خلال قصة صداقة بين امرأتين. وفي فيلم “متحضرات” (1998)، دنت الشهّال بجرأة لافتة من عالم الخادمات المنبوذات في لبنان، خلال فترة اشتعال الحرب. وعلى رغم تصنيف “طيارة من ورق” (نالت عنه الجائزة الفضية في مهرجان البندقية السينمائي عام 2003)، كفيلم سياسي يروي فصلًا إنسانيًّا من فصول الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، فإنه يبقى محمّلًا بقضايا المرأة وتوقها للحرية، ونبذ التقاليد والأعراف البالية، من خلال بطلته “لمياء” التي تقرر عائلتها أن الوقت حان لتتزوَّج من ابن عمها، دون أدنى اعتبار لمشاعرها ورغباتها. ولو قُيض لسيناريو فيلمها “شيء سيء لهم” أن يبصر النور، لكان من شأنه أن يحدث نقلة، على الأقل في مسيرة صاحبته، خصوصًا أنه لا يسير إطلاقًا في الاتجاه الذي سارت عليه أفلام الشهال الأخرى، بل كان عبارة عن كوميديا موسيقية من بطولة المغنية اللبنانية هيفاء وهبي، والنجمة الإسبانية فيكتوريا أبريل… وهو أيضًا يحمل الكثير من قضايا المرأة التي شغلت الشهال على امتداد مسيرتها… فشكّلت أعمالها مع أعمال جوسلين صعب ركائز متينة لسينما المرأة التي أثرت الحركة الإبداعية في تاريخ السينما اللبنانية، وعرفت نجاحات لا بأس بها مع مخرجات سرعان ما برزت أسماؤهن في المهرجانات الدولية، مثل دنيال عربيد، ونادين لبكي، ولارا سابا، وديما الحر، ومونيا عقل.
ولا شكَّ أن الحركة السينمائية اللبنانية، عرفت خلال السنوات العشر الماضية، تقدُّمًا كبيرًا بفعل جهود سينمائيات تفوقنّ في أحيانٍ كثيرة على سينما الرجال. سينمائيات، وإن اختلفت أساليبهنَّ وطروحاتهنَّ، فإن “سينما الإنسان” شكّلت القاسم المشترك بينهنَّ، بكل ما حملته من جرأة وجمالية وتمرُّد. وهل يصبح مبالغًا بعد هذا كله الحديث عن ثورة سينمائية نسوية؟
نشأت الراحلة نهلة الشهال في أسرة شيوعية مكونة من أب لبناني وأم عراقية عُرفت بنضالها السياسي، مما جعلها تختار نمطًا ثوريًّا نسويًّا كإطار عام لأعمالها.
عرفت الحركة السينمائية اللبنانية خلال السنوات العشر الماضية، تقدُّمًا كبيرًا بفضل جهود سينمائيات تفوقنَ على الرجال.