“فرحة” دارين سلَّام.. أن تكون شاهدًا، أن تصنع فيلمًا
5 December، 2023
محمود منير
هناك في أقصى الأرض، ذهبت المخرجة الأردنية دارين سلَّام لتشارك في “مهرجان نيلسون مانديلا السينمائي للأطفال” (NMCFF)، الذي اختتم في مدينة جوهانسبرغ الجنوب أفريقية في الخامس من أغسطس 2023، بفيلمها “فرحة” (2021)؛ للتذكير بجرائم الاحتلال الذي قتل أكثر من أربعين طفلًا في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة منذ بداية العام الجاري، بحسب تقارير منظّمات دولية، وسط احتفاء غامر اختزلته كلمات مديرة المهرجان “فردوز بلبوليا”، التي أشارت في تصريح صحافي بأن عرض الفيلم، وحضور صنّاعه إلى جنوب أفريقيا يمثّل فرصة لتعريف الجمهور بـ”نظام الفصل العنصري في فلسطين، وتاريخ النكبة والتحديات المتعلقة بالرقابة”.
جمهورٌ في قارات العالم الخمس توّجهت أنظاره في العامين الماضيين إلى غرفة تخزين الطعام ـ خلال الفترة التي هاجمت فيها عصابات الهاجاناه مدنًا وقرى فلسطينية، عشية خروج قوات الانتداب البريطاني ـ التي كانت تُحاصَر فيها بطلة الفيلم لأيام وليالٍ مسكونة بالرعب. حيث تنظر من شقّ أسفل الباب إلى العالم؛ شاهدةً على كابوس من كوابيس أُطلق عليها لاحقًا “النكبة”.
البطلة الني اضطر والداها، مختار القرية، أن يحبسها في غرفة، خوفًا عليها في تلك اللحظة العصيبة، تستحوذ مشاهدها حوالي 52 دقيقة (أكثر من نصف مدة الفيلم المكوّن من 92 دقيقة)، يشكّل فيها هذا الفضاء الذي يحاكي السجن عنصرًا أساسيًا في العمل، حيث الضحية تقوم بفعل المراقبة فقط، في اختيار مغاير لأفلامٍ قدّمت مشاهد توثّق الواقع كما حدث عام 1948، مثلما فعَل يسري نصر الله في فيلم “باب الشمس” 2005، المقتبس عن رواية إلياس خوري بالعنوان نفسه، أو إيليا سليمان في فيلم “الزمن المتبقي” 2099، وغيرهما.
كانت بطلة “فرحة” محاصرة لعدة أيام في غرفة تخزين الطعام، حيث كانت تنظر إلى العالم من شقّ أسفل الباب، شاهدةً على كابوس أُطلق عليه “النكبة”.
أحداث حقيقة
ورغم أن القصة مستمدّة من أحداث حقيقية نقلتها المخرجة عن والدتها، واسمها الأصلي رضية، إلا أن بناء الفيلم بالاستناد على واقعة الحبس، منحه فرصة أكبر لتصوير أحداث ترتبط بذاكرة طفلة لم تبلغ الرابعة عشرة آنذاك، عاشت صدمةً يمكن للمتلقي تخيّلها في حاضر ومستقبل فرحة/ رضية لاستكمال بقية حكاية لم تروَ، في ابتعاد عن تجسيد الضحية في فعل المواجهة؛ بهدف عدم استنساخ أفلام سابقة.
بدت “فرحة” منذ بداية الفيلم فتاة مختلفة عن جميع أقرانها، وبيتها الذي تعيش فيه، فهي متوحّدة، تقرأ في كتبٍ وروايات، ولا تجالس سوى إحدى قريباتها التي تأتي من المدينة؛ المكان الذي تحلم بالذهاب إليه لاستكمال دراستها، والاستزادة من معرفة باتت تشكّل حاجزًا بينها وبين مجتمعها، ولم تعد تنظر إليه إلا من زاوية عدم تقبّل أغلب أفراده لتعليم المرأة، ما يكرّس عزلتها عنه.
وقد تشكّل البناء الدرامي لشخصية البطلة على اختلافها عن الآخرين، وخلقت دارين سلَّام صورتها وفق هذه المعادلة، حيث الكاميرا كانت تسير خلف “فرحة”، أو إلى جوارها، في لقطات متوسطة أو ضيفة، تعبّر عن زاوية نظرها فقط تجاه الأحداث، وكأنها شريط سينمائي يمّر أمام عينيها، أو تشاهد فيلمًا في معظم مشاهد الفيلم، في تعميق الصورة التي تكشف دلالاتها عن تطوّر الشخصية، وطبيعة علاقتها بالشخصيات الأخرى، وتأثّرها بكلّ ما يدور حولها، لكنها تظلّ خارجة أو نافرة عن الواقع، وليست جزءًا منه.
النظرة ذاتها تحكم “فرحة” رغم تلاحق الأحداث عشية انسحاب القوات البريطانية بين نوفمبر/ تشرين الأول 1947 ومايو/ أيار/ 1948، كما يرويها الفيلم قبيل اندلاعه بقليل، يكثّفها حوار قصير يدور بين والد فرحة واثنين من المقاومين، يحثّانه على الاستعجال بصدّ هجوم العصابات الصهيونية، الذي دفع إلى تهجير سكّان العديد من البلدات الفلسطينية؛ لاجئين إلى مناطق مختلفة، بينما رأى المختار الذي ظلّ مصيره مجهولًا بحسب نهاية الفيلم، ضرورة انتظار جيش الإنقاذ العربي الذي اقترب موعد وصوله لحمايتهم، وحينها سيقاتل في مقدمة الجيش القادم.
تشاهد الفتاة هذا الحوار من فتحة الباب حتى خروج المقاومين من البيت، يتملَّكهم الغضب حيال ردّ فعل المختار، وعلامات الحياد والجمود تملأ وجهها، ما يضاعف اغترابها عن بيتها، وبنبئ بتغيّر حاد ومنعطف وشيك في حياتها، يخيّل للمشاهد أنه يتعلّق بانفصالها عن نمط حياتها، وانتقالها إلى نمط آخر، خاصة مع موافقة والدها على التحاقها بالمدرسة في المدينة، بإحضاره شهادة تسجيلها، بعد أن أنهت تعلّمها في كُتّاب القرية، في تحدٍّ للأعراف التي تملي على الفتيات في عمرها الزواج.
رغم أن القصة مستمدَّة من أحداث حقيقية نقلتها المخرجة عن والدتها، إلا أن الاستناد إلى واقعة الحبس منحها فرصة لتصوير أحداث ترتبط بذاكرة طفلة لم تبلغ الرابعة عشرة.
تدبير واقعي
ستخالف فرحة كلّ هذه التوقعات حين بدأ الهجوم على القرية، إذ حاول الوالد أن يؤمّنها مع أحد أقاربه الذاهبين بسيارته إلى المدينة، لكن الابنة هربت من السيارة، وعادت إلى حضن أبيها، الأمر الذي لا يتطلب سوى تبرير واقعي بسيط، يمكن حدوثه في أيّة بقعة جغرافية يتعرّض أهلها لصراع غير متكافئ القوى، فتفضّل البقاء في مكانها محتمية بوالدها بحثًا عن الأمان، متجاهلة حلمها بمواصلة تعليمها، والعودة إلى القرية لتنشئ مدرسة للبنات، والذي ظلّ يحرّكها حتى تلك اللحظة.
لم يجد المختار بدًّا سوى إيداع ابنته فرحة في الغرفة، بعد إغلاق بابها من الخارج، ويخرج ومعه سلاحه إلى معركة مجهولة، وهنا تنطلق العدسة إلى الغرفة/ السجن المعتم إلا من كوّة في الجدار، ريثما تفطن لإشعال قنديلٍ تعثر عليه في وقت لاحق، ولن يؤنس وحدتها إلا صوت أزيز الرصاص في الخارج، لعلّ ينبعث منه صوت الأب الذي تنتظر رجوعه بلا جدوى.
النوم المتقطّع على أكياس المؤونة، وتناول ما يمكن أكله منها وشرب ماء الجبن المالح، لتبدأ بعدها محاولات التكيّف مع المكان بتنظيفه من الأتربة والغبار، والتلّهي بحصى تجدها على الأرض، وتغفو بالقرب منها، حتى يسقط المطر الذي يوقظ فيها نداء الحياة برشفات قليلة من قطراته، وإشغال وقتها بالترقّب والانتظار لتحمُّل حالات الهلع والبرد، وبطء مرور الوقت، ووحشة المكان.
بعد توقّف إطلاق النار، حاولت فرحة فتح الباب، باستخدام قوة جسدها تارة، وباستعمال سكين لكسره تارة أخرى، لكن دون طائل، وتستسلم لقدرها من جديد، قبل أن توقظها بعد فترة أصوات الخارج، وتشاهد من شقّ أسفل الباب زوجًا يقوم بإخراج الجنين من بطن زوجته، في إشارة للحياة المرتبطة بفعل الولادة، فتنادي فرحة بصوتها طالبة منه النجدة بإخراجها من الغرفة، غير أنه يفشل في إنقاذها.
باستثناء كلمات معدودة تتبادلها فرحة مع الرجل، فإنها تستعيد الشخصية ذاتها التي تكتفي بالصمت والمراقبة، وترك مسافة بينها وبين الآخر، لكن هذه المرة يختلف الأمر عمَّا عاشته سابقًا، بأن أُخضعت للصمت بحبسها، وفُرضت عليها المسافة كذلك، لتراقب جنود الاحتلال وهم يقبضون على ذاك الرجل وجميع أفراد أسرته، وترديهم قتلى خلال دقائق، الأم والأب وطفلتيه، ودماؤهم تُلطّخ الجدار، ويُترك الرضيع الذي رأى النور منذ قليل، بعد أن حاول الجندي قتله بالدعس برجله فوق رأسه، لكنه يضع بالنهاية منديلًا عليه حتى يقضي.
حاولت فرحة فتح الباب باستعمال سكين؛ قبل أن تشاهد من أسفل شق الباب زوجًا يقوم بإخراج الجنين من بطن زوجته.
النضج
تصل فرحة إلى النضج داخل الغرفة التي شهدت فيها على رواية من مرويات النكبة، مسجونة في مكانها، عاجزة حتى عن إطلاق صرختها، لينتهي الموقف جاثية خلف الباب، غارقة بالبكاء والحزن، تستمع إلى أنّات الرضيع في الخارج قبل أن يموت، تعيد الكرّة من جديد لفتح الباب، يتملّكها غضب عارم، تضربه بحسدها وما تجده من أدوات في المكان. نضجٌ معنوي بإدراك ما حصل والتأثّر به ماديًّا أيضًا، حيث أتاها الطمث للمرة الأولى.
تقوم من وهنها وضعفها لتنتبه فجأة إلى مسدس في كيس العدس، تجد رصاصات بالقرب منه، فتعبئه بالحال، وتصوّب النار، بما يشي بعدم امتلاكها أي خبرة سابقة باتجاه مقبض الباب، ورصاصة تلو رصاصة حتى فُتح كاملًا، لترتبك والضوء يعمّ الأرجاء لثوانٍ، قبل أن تذهب إلى جرّة الفخار في الخارج، وتشرب ثلاث كؤوس كبيرة من الماء، وتمضي بعدها بحثًا عن طريق لها في الحياة.
ورغم أن الفيلم قدّم الفلسطيني شاهدًا غير فاعلٍ بما يحدث حوله عام 1948، نتيجة ظرفٍ اضطره أن يكون حبيسًا، ما يُحسب للمخرجة، إلا أن موجة احتجاج إسرائيلية رسمية رافقت إعلان عرض “فرحة” على شبكة نتفليكس، حيث صدرت بيانات وتصريحات تستنكر عرضه من قبل وزريري المالية والثقافة في الحكومة الإسرائيلية آنذاك، بالإضافة إلى استنكار أعضاء في “الكنيست”.
نحجت المخرجة في تقديم هذا الشاهد بعد أكثر من سبعة عقود على النكبة، وأن تختار وجهًا جديدًا يطلّ على الشاشة لأول مرة، وهي الممثلة كرم طاهر، كما استطاعت أن تعتمد على الصورة التي تمتلك فلسفتها، وتكون منطلق التفكير والوعي بالحدث وليس العكس، ضمن تيار بدأ يجد ممثليه في السينما الأردنية خلال العقد الأخير، في تجارب مثل “الحارة” 2021، لباسل غندور، “ذيب” 2014 لناجي أبو نوار.
رغم أن الفيلم قدَّم الفلسطيني شاهدًا غير فاعلٍ فيما يحدث حوله عام 1948، إلا أن موجة احتجاج إسرائيلية رسمية رافقت إعلان عرضه على شبكة نتفليكس.