• English
  • 20 يناير، 2025
  • 5:26 ص

“تحت الشجرة” لأريج السحيري: أصوات الصمت والأنين

“تحت الشجرة” لأريج السحيري: أصوات الصمت والأنين

5 December، 2023

نورة البدوي

في فيلم “تحت الشجرة” للمخرجة التونسية أريج السحيري، ترصد الكاميرا حياة العاملين والعاملات بمجال الزراعة، في ريف مدينة “كسرة” التابعة لولاية “سليانة” وسط تونس. فمنذ اللقطة الافتتاحية نجد المشاهد التي تنقل الكثير من المعاني بصمت شديد، حيث لقطات لا تعبر إلا عن روح المكان وطبيعته الصعبة. فقد جعلت المخرجة، منذ الوهلة الأولى، عين الكاميرا أمام خيارات متنوعة في نقل لقطات تحمل الكثير في علاقتها بتيمة المكان، فنجد بزوغ الشمس بأشعته الذهبية، كما نجد نباح الكلاب وصياح الديكة، والفتاة الريفية التي تحمل بيدٍ مخطافًا للعمل الزراعي، وبالأخرى قوتَ يومها. تجمعات، من أعمار مختلفة، لرجال ونساء ينتظرن نقلهم إلى مكان العمل، لقطات مقربة من الوجوه تنقل نظرات تشي بالتعب وتجاعيد السنين وملامح قسوة الحياة.

المخرجة اريج السحيري

بدت المخرجة مهتمة برسم مشهدية واضحة للمكان وهويته الجغرافية، فضلًا عن نقلها ملامح الشخصيات التي جعلتها السحيري تجتمع في شاحنة تنقلهم إلى عملهم المتمثل في جمع التين.

منذ اللقطة الافتتاحية نجد المشاهد التي تنقل الكثير من المعاني بصمت شديد، حيث لقطات لا تعبر إلا عن روح المكان وطبيعته الصعبة.

بدت المخرجة مهتمة برسم مشهدية واضحة للمكان وهويته الجغرافية، فضلًا عن نقل ملامح الشخصيات المكدسة في شاحنة تنقلهم إلى عملهم في جمع التين.

أحداث حقيقية

لقطة من فيلم اريج السحيري 01

ذكرت السحيري في أحد لقاءاتها بالإذاعة الثقافية أن الفيلم مستوحًى من أحداث حقيقية حدثتها عنها العاملات في المزارع اللاتي يعملن بها طوال العام، ومن حكايات بعض فتيات المدارس الثانوية اللائي يأتين خلال العطلة الصيفية”، وأضافت “إن الممثلين في هذا العمل هواة، وينحدرون من هذه منطقة كسرى، ومعتادون على العمل في المجال الزراعي”.

بهذه الواقعية اختارت السحيري شخصيات فيلمها، وهم أناس يعملون في المجال الزراعي، ومن أبناء المنطقة، وكأنها تمزج بين شخوص تؤدي أدوارها في الفيلم وبين ما يمكن أن تؤسس له من علاقات حميمية سنراها في المكان تحت أشجار التين.

ينطلق العمل بجمع ثمار التين، هذه الشجرة التي لها الكثير من الرمزية والحضور والدلالة، كما أن لها خصوصية في كيفية التعامل، إذ يتطلب جمع ثمارها إنزال الغصن بالمخطاف لقطف الناضج والهشّ، تقول ليلى (أداء ليلى أهابي) التي تجاوزت الستين من عمرها؛ معلمة الشاب عبده (أداء الشاب عبد الحق المرابطي) كيفية قطف التين “ريت هذي، ما زالت تزيد نهارات، المسها، والكعبة اللي تلقاها طرية وكحلة بين ايديك اقطفها، وسايس ولدي الكرمة وحده وحده، عندما تجدها ابتعدت عنك، اجبدها بالمخطاف وحده وحده، وراهي كي تتكسر الكرمة، تحس أنت حاجة نقصتلك من بدنك”.

بهذه الكلمات كانت الخالة “ليلى” كما يلقبونها تهتم بتعليم الشباب الجديد كيفية قطف التين، هذه الشجرة الصلبة الهشة التي تتطلب معاملة خاصة، وكأنها مرآة عاكسة لهشاشة وصلابة أبناء المكان، خاصة فيما يتعلق بالمرأة الريفية وكيفية التعامل معها في بيئتها ( العائلة والعمل …).

حكايات متفرعة

لقطة من فيلم اريج السحيري

هنا تنطلق حكايات متفرعة للشباب العاملين في الحقول، مشكلة نصًّا كاملًا لحياتهم المعلنة، وأحلامهم المسكوت عنها، وآمالهم المعلقة في ظرف اقتصادي هش، فهذا “عبدو” يطالب عمه بحقهم عن أبيهم في الأرض، فيجيبه بعدم وجود أي حق لهم. أما “غيث” فإنه يحاول إخفاء الغصن الذي كسره خوفًا من أن يطرده “الشاف” أو رئيسهم في العمل، في حين يقوم “فراس” بسرقة صناديق التين، بحجة أن “الشاف” يستغل جهدهم، ولا يعطيهم حقوقهم، وهذا رئيس العمل يحاول التحرش “بملاك” فتصده، أما الخالة “ليلى” فتعود بها الذكريات إلى حبها الأول والحقيقي، وتترافق هذه الذكريات مع أغنية بدوية تتنفس حنينًا، وتفسر مكانة المرأة واختياراتها العاطفية المحرومة منها في بيئتها.

تندمج كل هذه الحكايات في نسق درامي متصاعد، وبحوارات مختزلة، وإعطاء مساحات كبيرة للصمت، كي تأخذ الكاميرا دورها في إبراز الحالات النفسية للشخصيات، من خلال تعبيرات الجسد ولغة العيون.

لقطة من فيلم اريج السحيري 02

بين فعل ورد فعل، وذكريات ممتدة بين ماض وحاضر، وصمت وحوارات مقتضبة، ولقطات عامة تنقل تيمات المكان وحركة أشجار التين وتسلقها، وبين لقطات قريبة لتعبيرات الوجوه، جعلت السحيري الكاميرا والشخوص في حالة ألفة قوامها الحريّة والبساطة والصدق والعفوية.

جعلت عفوية الأداء كلَّ المشاهد تأتي بانسيابية خالصة، كما لو أنها قصص حقيقية في الواقع، وحملت العديد من الرسائل التي تضمنت وضعية المرأة الريفية العاملة، بالإضافة إلى كل العاملين في الحقل الزراعي. رسائل دعمها هذا التجمع المتعدد بين الأجيال، حتى وإن اختلفت الحكايات فإن وضعية الشخصيات وبؤسها لم يتغير. فرغم كل هذا ما زالت مستمرة في مواجهة معاناتها اليومية، التي تبدأ مع بزوغ شمس كل صباح، وتستمر حتى ينتهي اليوم بالأغاني والزغاريد والتصفيق، في شاحنة محفوفة بالمخاطر تنقلهم إلى بيوتهم. إنه الأنين الذي يختفي وراء دروب الحياة.

هناك العديد من حكايات المتفرعة للشباب العاملين في الحقول، والتي تشكل نصًّا كاملًا لحياتهم المعلنة، وأحلامهم المسكوت عنها.

بين فعل ورد فعل، وذكريات ممتدة بين ماضٍ وحاضر، وصمت وحوارات مقتضبة، جعلت أريج السحيري شخوصها في ألفة قوامها الحريّة والبساطة والصدق

فاصل اعلاني