“قَدَر” للتونسية إيمان بن حسين: الاحتفاء بالهامش وعلاقته باللعبة السياسية
13 June، 2023
نور البدوي
في أول أفلامها الروائيَّة الطويلة “قدر” تنسج المخرجة التونسية إيمان بن حسين خيوطًا لحكايات متفرعة، بعيدًا عن مشهدية مستهلكة، معتمدةً على التركيز على الأداء التمثيلي، وتكثيف المناخ الدرامي، عن طريق خيط غير محكم الربط، إذ تضعنا أمام قصة طبيب تشريح يعمل ضمن شبكة سرية في إدارة دواليب الدولة، بهدف تطويع النظام لخدمة قوى خارجية. المخرجة التونسية إيمان بن حسين عُرفت كمخرجة أفلام وثائقية، في رصيدها 12 فيلمًا وثائقيًّا وفيلمان روائيان.
تناقض
بلقطة مفتاحية ينطلق فيلم قدر، حيث نجد شخصية طبيب التشريح “أداء الممثل مهذب الرميلي”، يؤدي واجب القسَم لمهنته، ويؤكد على قول الحقِّ، وتأدية واجبه بكلِّ أمانة وضمير، يرافق القسَم لقطات خاطفة سريعة لتشريحه الموتى مع إضاءة قاتمة “الظلمة”، وبموازاة عزف تصويري، يبدأ ظهور الأسماء والعناوين حتى الكادر الأخير.
يبدأ الفيلم بشهادة الأب “أداء يونس الفارحي”- لمخرجة أفلام وثائقية “أداء رابعة السافي”- حيث يدلي “الفارحي” بشهادته على ابنته التي قتلت من قِبل أيادٍ مجهولة؛ بسبب معرفتها وجمعها لمعلومات تهمُّ وتفضح عصابات فساد مدعومة من منظمات دولية، بلقطة مقربة لتفاصيل وجهه تنقل لنا الكاميرا إيحاءات ودلالات بصرية، تعكس حالة الحزن لفقدان ابنته؛ إذ يقول “بنتي ما قتلتش روحها”، أي لا تقتل نفسها أعرفها جيدًا”، بهذا التناقض تضعنا بن حسين أمام مفارقة بين ما خطَّه الطبيب الشرعي أنها انتحرت، وبين ما يؤكده والدها أنها لا تفعلها، وأنه كان لديها معلومات عن أشخاص، ولذلك قتلت.
تراكمات طفولية
بهذه القصة تتفرَّع باقي الحكايات، وتتجوَّل بنا الكاميرا، فبلقطة كبيرة وثابتة لوجه الطبيب الشرعي وهو يأكل قطعة اللحم، تغوص بنا الكاميرا إلى تصعيد بصري من خلال العودة بذاكرته، ذاكرة مكان ريفي، وهو مكانه الأول الذي يتشكَّل جرحًا أبديًّا في ذاته، في هذا المكان الريفي كانت معاناته، وبمونتاج موازٍ، وعبر تقنية الفلاش باك، نكتشف طفولته من أداء الطفل “يوسف قبلاوي”، حيث علاقته مع والديه الذين أرادا بيعه، وأصدقائه الذين عانى من تنمُّرهم، والمربي الذي طرده من المدرسة بسبب السرقة، حياته كانت صعبة، وكأنها كانت مبنية على فعل وردة فعل لتراكماته الطفولية، وللفقر الذي عاشه، مما جعله يُقدِم بكل برود على حرق والديه، فيتم إيواؤه بمركز للأطفال.
طفولته انعكست على حياته العائلية وعلاقته بابنته، تقول له زوجته: “كي انت ما تحبش بنتك علاش تجيب فيها”، فيجيب “أنا ما نحبهاش ولكن هذا لاستمرار الجنس البشري”، كل ملامحه تشي بأنه وحيد، وأن داخله صراعات لا يعالجها سوى الوحدة مع ذاته، ولقد نجحت الكاميرا في الغوص في الوحدة، فليس هناك أي عمق في عائلته، ولا حتى في طفولته.
تستمرُّ الممثلة “رابعة السافي” في عملها التوثيقي لفيلمها الوثائقي؛ بغية الوصول إلى المنظَّمة التي تغتال كلَّ من يريد أن يجمع عنها معلومات، فتستمرُّ في البحث والحصول على الوثائق، تجتمع بأصدقائها وتقول لهم يجب أن نجري حوارًا مع سياسي عرف بنضاله “أداء محمد الداهش”، لكن وراء الكواليس فهو مليء بالمعاملات المشبوهة والفساد؛ ما يتسبَّب في قتل صديقها.
تتغيَّر مجريات الأحداث وبلقطة خاطفة تنتقل بنا مخرجتنا إلى زوجة طبيب التشريح، وهي تقوم بتصوير أوراق تثبت إدانته، وتأخذ جواز سفرها وتسافر هي وابنتها، وكأن بن حسين تجعلنا في لغةٍ مباشرةٍ والكاميرا وما تنقله لنا من إيحائية السفر والقرار.
في كل مرة تضعنا مخرجتنا أمام لوحة أو تابلو مشهدي يجعلنا نحلل ما لا يقال؛ لنجد أنفسنا في لوحة جديدة، وأداء آخر مرتبط بحكايات متفرعة عن القصة الأساسية للفيلم؛ ما يفسح المجال أمام شظايا جديدة من مسائل واقعية.
في كلِّ مرة تضعنا المخرجة أمام مشهد يجعلنا نُحلِّل ما لا يُقال، لنجد أنفسنا أمام أداء آخر، مرتبط بحكايات متفرِّعة عن القصة الأساسية للفيلم.
الهامش وعلاقاته
تطرح بن حسين مسألة الهامش في علاقة بين ما هو موجود وما هو منشود من تكوين روابط أسرية متوازنة، إلى ترسبات النقص العاطفي، فالتلاعب بمصير الشعوب، إلى الاغتيالات، إلى واجب القسَم المهني، إلى دخول المنظمات السرية للبلاد، وعدم الإبلاغ عنها.. وكأن هناك نقصًا لاكتمال صورة مرجوة من قِبل الكاميرا، صورة الهيئات والإدارات، وكأن كل مجال يحتاج إلى إعادة تأهيل لتصحيح المسار في كلِّ شيء.
تنتقل بنا الكاميرا إلى لوحة جديدة، وهي علاقة مَن يعملون في المنظمة في البلاد، أداء كل من وجيهة الجندوبي وتقلا شمعون لتنفذا طلباتهم الخارجية داخل البلاد، وهي قتل كل يملك معلومات عنهم، إضافة إلى تجنيد لسياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين، لينفِّذوا مُخطَّطاتهم داخل البلاد.
تكتمل المشهدية بكبر ابنة طبيب التشريح، وتصبح مدوَّنة وناشطة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكل مرة تنزل معلومة مناهضة لأعمال المنظمة الأجنبية، إلى أن عادت إلى تونس، وقابلت والدها، مقابلة وحوار جعلنا كمشاهدين لم نفقد التعاطف مع طبيب التشريح، عندما تستمر الكاميرا في وضعنا أمام مفارقة بين ما عاشه في طفولته من حرمان عاطفي، وما كافأ به ابنته من برود وصمت، فالكاميرا لم تفلح في التقاط بسمة له منذ بداية الفيلم، وكأن روحه امتزجت برائحة الموت والتشريح، فهو ليس إلا لعبة بأيديهم.
استطاعت المخرجة بمهارة أن تمنحنا حكايات متنوعة، وشظايا لسرديات واقعية تحصل في الهامش، وفي اللعبة السياسية المخفية، وأن تدخلنا معها من خلال المشاهد وحركات الكاميرا إلى أعماق الشخصيات، وما تعيشه من مشاعر وتناقضات صوب الفعل ورد الفعل، إذ تقتل ابنة الطبيب الشرعي على يد المنظمة، وبلقطة مقربة إلى عينيه، نشاهد وقع الصدمة والحزن عندما يشاهد أن من سيقوم بتشريحها هي ابنته.
تطرح بن حسين الهامش في علاقة بين ما هو موجود، وما هو منشود من تكوين روابط أسرية متوازنة، والتلاعب بمصير الشعوب، ودخول المنظمات السرية للبلاد.
استطاعت المخرجة بمهارة أن تمنحنا حكايات متنوِّعة وشظايا لسرديات واقعية تحصل في الهامش وفي اللعبة السياسية.
ثنائية مكثفة
لا تغادر الإضاءة المظلمة المكان بجدرانه الباهتة الباعثة للوحشية والبرود، ليخرج راكضًا متجهًا إلى مكانه الأول، فتنشأ مع ظلمة المكان حوار مع ظلمة أفكاره المسجونة منذ طفولته، فيقرِّر الانتحار لكنه لا يستطيع.
بهذه الشخصية المركبة يقدِّم لنا الرميلي أداءً تعقبه أسئلة منفتحة، ومشاعر متناقضة لأب يعيش على أنقاض خيط مشدود بين تجنيده من قبل تقلا شمعون العاملة بالمنظمة، وبين زاويته الطفولية المظلمة والمحزنة في آن، لنجدهما في جملة حوارية تقول فيها له “نحن ليس مسموحًا لنا بالحب”.
الحوارات في الفيلم كانت ثنائية مكثفة وغير مطولة، ولكنها تقدم صورة من وقائع مترجمة بلغة السرد السينمائي، والتي تحفِّز المشاهد على البحث عنها في ثنايا ما يعيشه من أحداث، أو ما سمعه من حكايات مسكوت عنها، وكأن بن حسين تعود إلى جلباب المخرجة الوثائقية، حيث إنها أخرجت قرابة اثني عشر فيلمًا وثائقيًّا، بحثت فيها عن الأسرار المكتومة، والخفايا النابضة في قلب الوطن.
من خلال حركة الكاميرا تطرح مخرجتنا خفايا الواقع، وهي من مهام السينما الواقعية التي تغوص في الواقع وفي الهامش المنسي.
تكون نهاية الطبيب الشرعي والمخرجة الوثائقية في مستشفى الأمراض العقلية، خاصة بعد إجراء تسجيل وثائقي عن حياته، وكيف وقع تجنيده من قبل المنظمة الأجنبية، والأيادي التي تتلاعب بالوطن، وكأنه مسكوت عنه.
شخصيات مركبة
لينتهي الفيلم بلقطة مقربة ثابتة لوجه وجيهة الجندوبي، مع ابتسامة ساخرة وهي تصرخ قائلة: “لا شيء تغير”، وكأنه تأكيد أن هذا ما تعيشه المجتمعات العربية، فمثل هذه الأيادي الأجنبية هي التي تجند وتقرِّر مصير الشعوب.
في فيلم “قدَر” كان الأداء التمثيلي مميزًا، حيث امتزج الأداء بشخصيات مركبة، فيها الحنين إلى الإنساني الحميمي، وفيها سيطرة لركن الجريمة والشر، بهذا الانفصام والتمزق على أوتار الوطن تحاك المؤامرات، وبهذا تُعاش آلاف الحكايات في ظلام الهامش ليخلق العنف، هذا العنف الكامن في السواد.