في البَـــدْءِ كانت “الــسّينمَا العَرَبِيّة”، ولَمْ تكُنْ إلّا مِصْريَّةً…
5 December، 2023
للباحثة الفرنسية صولونج بوليه
ترجمة: أمل بو بكر ـ باحثة ومترجمة تونسية
-1-
في الواقع، بدأ إخراجُ الأفلامِ وإنتاجُهَا باللُّغة العربيّة في مِصْر منذُ عِشْرينات القَرْنِ الماضي وكانتْ مزيجًا عجيبًا بينَ الثّقافتين الهوليوودية والمحليّة وهو ما سيُنتجُ فيما بعد الثّقافةَ السِّينمائيّةَ لأغلبِ المُشاهدين العرب سواءَ كانوا من الشّرق الأدنى أو مِنَ المغرب العربيّ. وقد شكَّل هذا المَزِيجُ نفسه رصيدًا ثقافيًّا للمُخرجين العرب الّذينَ شاهدوا ويُشَاهدون إلى اليوم الأفلام المِصْريّة مع العائلة أو في السِّينما أو في شاشات التّلفزيون في الوقت الحاليِّ.
-2-
غَابَ تاريخُ السِّينمَا في البُلْدَانِ العَربيّةِ -شأنه في ذلك شأن المجالات الثقافيّة الأخرى-عن الجماهير الغربيّة لفترة طويلة، لأنَّ الأفلام الّتي تُتنَجُ فِي هَذِهِ البُلْدَان لا تهمّ -إلا نادرًا- سُوقَ صِنَاعَةِ الأفلام وتوزيعها في أوروبا.
من ناحية أخرى، كانت قاعات السينما منتشرة بكثرة في جميع البلدانِ العربيّة، أينَ أصبحَ الجُمهور شغوفًا، في وقتٍ باكر، بالفنّ السابع. من خلال الأفلام المصريّة ونجومها، إلى جانب الأفلام القادمة من أوروبا وآسيا والولايات المتحدة الأمريكيّة.
غَابَ تاريخُ السِّينمَا في البُلْدَانِ العَربيّةِ عن الجماهير الغربيّة ؛ لأنَّ الأفلام الّتي تُتنَجُ فِي هَذِهِ البُلْدَان لا تهمُّ سُوقَ الأفلام وتوزيعها في أوروبا.
-3-
انتهتْ الهيمنةُ الاستعماريَّةُ من الفَتْرَةِ المُمْتدّةِ بين الأربعينات حتّى فَجْرِ الستّينيات.وتزامُنًا معَ حركاتِ الاستقلالِ أصبحَ قطاع السينما الحكومي والخاصّ، وما كان مزيجًا بين هذين النمطين في إدارةِ هذا القطاع الثقافي الاقتصادي، أكثر تنظيمًا. وذلك ما عزّزَ مكانة السينما في كل بلد عربيّ، وفي هذه المرحلة بالذاتِ انتقلنا من الحديث من “السينما العربية الواحِدة”، التي تهيمنُ عليها السِّينما المصريّة، إلى أشكال تعبيريّةٍ سينيمائيّةٍ خاصّةٍ بكلِّ بلدٍ على حدة.
-4-
وعليهِ فإنَّ تاريخ السينما العربية، باستثناءِ مصرَ، يبدو قصيرًا نسبيًّا (حوالي خمسين عامًا)، رغم أن السينميائيين أنفسهم كُثر ومختلفون جدًّا من بلد إلى آخر. ثمّ إنّ فرص مشاهدة أفلامهم نادرةٌ. وظلت الأعْمَالِ الفَنّية على وفرتها والحركاتُ السينمائية الّتي كانت موجودة في البلدان العربية غير معروفة للجمهور، بل حتّى لعُشاق السينما أنفسهم. وعلاوةً على ذلك -وهو خطأ السينيمائيين في أغلب البلدان- فإنَّ هَذِهِ الأفْلَام التي تشهد علَى هذا التاريخ أصبحتْ في خطرٍ. وخطرُ النِّسيانِ هذا أثّر في السينمائيينَ المنتمين للجيل الأوسط، أي جيل الستّينات. وقد نجح أبناءُ هذا الجيلُ بصعوبةٍ في إيجاد مكانتهم بتعبيرات سينمائية أقلّ قيودًا، وهي تعبيراتٌ خرجت من الماضي النضالي للجيل السّابقِ ومعاركه. وسنخوض في الحديث عن هذين الجيلينِ من السينمائيين.
مصر والجزائر: قطبان لظهور السينما الوطنيّة
نسَبَ الجمهور الأوروبيّ -لفترة طويلةٍ- السينما العربية للمصريِّ يوسف شاهين وأعماله الغزيرة والمبتكرة ابتكارًا فذًّا. لكن من الّذي يعرفُ على سبيل المثال أفلام هنري بركات، أو حسين كمال، أو صلاح أبو سيف؟
منذ بداية الحركة الناصريّة، كان هؤلاء السينمائيّون يحملونَ نظرةً واضِحةً لا غُبَارَ عليها عن مجتمعهِمْ وعن الثَّوْرة الناصريّة، وبدا ذلك جليًّا من خلال أفلام كـ”الحرام” لهنري بركات 1965، و”البوسطجي” لحسين كمال 1968، و”القاهرة 30″ لصلاح أبو سيف 1966. وسيكون لمؤسِّسي التّيَّار الواقعيّ المذكورونَ ورثةٌ مثل عاطف الطيب ومحمَّد خان في الثّمانينات، ويسري نصر الله؛ لاعتبار الرّابط المباشر له بيوسف شاهين.
نسَبَ الجمهور الأوروبيّ السينما العربية للمصريِّ يوسف شاهين، دون أن يتوقفوا أمام أعمال هنري بركات، أو حسين كمال، أو صلاح أبو سيف.
-5-
في الجزائر سيكون الإنتاج السينمائي مقتصرًا لوقت طويل على موضوع وحيد، وهو الاستعمار والنضال من أجل التحرير، وثمة تفصيل مميز وهو أن كثيرًا من السينمائيين الغربيين كانوا ملتزمين إلى جانب الجزائريين خلال المقاومة، وأسهموا بذلك في ولادة السينما في هذا البلد كـ “جيل بونتيكورفو” مع فيلم “معركة الجزائر” 1965، الذي حاز على جائزة “الأسد الذهبي” في البندقيّة، و”رينيه فوتييه” في فيلم “أن تكون في العشرين في جبال الأوراس” 1972، على سبيل المثالِ.
ويعتبرُ فيلم “ريح الأوراس” للمخرج محمد الأخضر حمينة الصادر سنة 1966، حتمًا الفيلمَ الأفضلَ لهذا المخرج، ولكن يَبْقَى فيِلْمُ “وَقَائِعُ سِنِينِ الجمْرٍ”، الحَائِزُ على السَّعفة الذهبيّة بمهرجان “كــَانْ” سنة 1975، رمزَ دخولِ السينمائيين العرب للسّاحة العالميّة. ومع فيلم “عمر قتلتو الرُّجلة” للمخرجِ “مرزاق علّوش” فإنَّ هذا الأخيرَ ابتَعَدَ عن المواضيع المهيمنة على السّينما الجزائريّة في ذلك الوقت، واضعًا مكتسباتِ الثّورة في متناول نقد الشباب الجزائري. ثمة مخرجون آخرون أقلّ شهرةً قدموا مثلهُ أعمالا قليلة فتحت المجال للسينما الجزائرية المستقلة. فقد تجرَّأ “محمد زينات” مع فلمه “تحيا يا ديدو” الصادر في 1971 على معالجة الثورة الجزائرية من زاوية نقدية، بعد مرور عشر سنوات على انتهائها. وقد تحدث في الفلم عن لقاءٍ بين سجين جزائري قديم وجلاده الفرنسيّ في جولة عادية سياحية في الجزائر.
كما صوّر عز الدين مدور بفيلمه “كم أحبك” الصادر سنة 1985 صورة لامعة عن الوعي بفرنسا الاستعمارية مجدِّدًا بذلك سينما النضال والوثائقيات المعتمدة على الأرشيف.
وفي النهاية يبقى فاروق بلوفة المخرج الكبير للعمل الوحيد “نهلة”، الصّادر سنة 1978، وهو فيلم منسيّ، انتشر منذ سنوات قليلة في المهرجانات مثيرا اهتمام الجمهور، خاصة السينمائيين الشبان. وكان تصوير الفيلم في لبنان من طرف جزائريّ مع ممثلين لبنانيين ومصريين، وهو الفلم الأول الذي كان مكتوبا كتابة عصرية جدًّا، ومتقنة جدًّا، ويتحدَّثُ عن طموحات الشّبَاب اليساريّ العربي في السبعينيات، وقد انقسمت بين أحلام التّحريرِ السّياسيّ (متمثلة في فلسطين)، والفوضى (بداية الحرب الأهلية في لبنان). وباعتباره فليما يتموْضَعُ بين المَغْرِبِ والشَّرْق الأدْنَى فإنَّ هَذَا الفيِلْم المُذْهل ينتمي في الوقت نفسه إلى تاريخ السّينِمَا الجزائريّ واللبنانيّ.
يعتبرُ فيِلْمُ “وَقَائِعُ سِنِينِ الجمْرٍ” لمحمد الأخضر حمينة، وفيلم “عمر قتلتو الرُّجلة” لمرزاق علّوش، رمزَ دخولِ السينمائيين العرب للسّاحة العالميّة.
السينمائيون التّونسيون والمغاربة: شيءٌ مِنْ حُرّية تعبير
في المغرب ثمّة فيلمان يُعْتَبَران أصْلَ السّينمَا المعاصِرة، وهُمَا: “وشـْمـــــَــة” لحميد بنَّانِي الصّادر سنة 1970، و”الشّرقي” لمؤمن السميحي سنة 1957، وذلك بمواضِيعهما (وضعيّة المرأة وتعليم الأطفال في مجتمع تقليدي متشدّد)، وبجذريَّتهمَا في الكتابةِ السّينمائيّة. وقد سَارَ الجيلالٍي فرحاتي على منهجهما بفلمه “عرائس القصب” الصّادر سنة 1981 و “شاطئ الأطفال الضائعين” في سنة 1991. وممّن همْ أقلّ شهرة نذكرُ “عبد القادر لقطع “وهو وجه مهم في السينما المغربية، عالج قضايا أخلاقية واجتماعية في البرجوازية الصّغيرة، وتطرَّقَ بِشكل ضمنيّ لسنوات الرّصاص تحت حُكْمِ المَلك “حسن الثاني”، وكان ذلك في أفلامه “حبّ في الدّار البيضاء” سنة 1991 و”بيضاوة” سنة 1998.
-6-
في تونس، حيث كانت الرقابة أكثرَ مُرُونةً مِنْ بقيّة البُلدَان العربية، تطرّق النوري بوزيد باكرًا جدًّا لسؤال المثلية الجنسية في فيلمه “ريــــــــحْ السِدّ” الصَّادر سنة 1986، وفريد بوغدير، الذي أدخل مراهقًا لعالم النساء في حمام في الحلفاوين، في فيلمه “عصفور السطح” سنة 1990. علاوة على ذلكَ فإنَّ مخرجات مثل مفيدة تلاتلي في” صمت القصور” سنة 1994، أو “موسم الرجال” سنة 2000، ورجاء العماري في “الستار الأحمر” في 2002، عالجنَ بحُرية بالغةٍ وبدقَّة كبيرةٍ الرَّغبة الأنثوية.
فلسطين، موضوعٌ محوريٌّ في أفلام الشّرق الأدنى
-7-
في 1971 صوَّرَ المـُخرجُ المصريُّ توفيق صالح فيِلْم “المخدوعون” المـُقْتَبَسُ من رواية غسان كنفاني “رجال في الشمس”، وهي روايةٌ قَاتِمَة رمزية تدورُ حول الطّوافِ دون أملٍ، وهُوَ أمر أصبح محكومًا على الفَلسْطِينيّينَ.
وكانت الإهانةُ جرّاء الهزائم المتتابعة للجيوش العربية أمام الإسرائيلين وتداعيتها العميقة على الحياة السياسية والفردية حاضرةً في فيلم “العُصْفُور” ليوسف شاهين سنة 1972، كما كانت السخرية اللاذعة من الرقابة الناصرية خلال حرب 67 واضحة في فيلم “اللَّيْـــــل” للمخرج السوري “محمّد ملص”، بالإضافة إلى الوثائقيّ الّذي صوّره مخرج سوري آخر وهو “عمر أميرلاي” مع الكاتب المسرحي الكبير “سعد الله ونُّوس” تحت عنوان “هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدّث عنها المرء” سنة 1997.
وقد نُفي”عمر أميرلاي” لسنوات لأنه تجرأ على نقد الإجراءاتِ المفروضةَ على المواطنين السوريّين من النظام البعثي في فيلم “الحياة اليومية في قرية سورية” الصّادر سنة 1974 وفيلم “الدّجاج” سنة 1977، وهو وثائقيّ اعتبر سابقةً في تاريخ هذا النوع السينمائيّ في الشرق الأدنى. وقد صادرت الرقابة السورية هذه الأفلام، ولم تر الضوء إلا بعد حوالي عشر سنوات.
أما في لبنان فقد امتزجت المأساة الفلسطينية والغزوات الإسرائلية المتكرّرة بالصّراعات العقائديّة والحرب الأهلية. وكان أول فيلم طويل لمارون البغدادي تحت عنوان “بيروت يا بيروت” سنة 1957 تدور أحداثهُ من ديسمبر 1968، تاريخ أول غارة إسرائيلية على بيروت إلى 1970، وهو تاريخ وفاة جمال عبد الناصر. ويروي المسار الإيديولوجيّ لأربعة شباب لبنانيين في الوقت الذي تقع فيه لبنان تحت وطأة الحرب الأهلية. وتنتمي “جوسلين صعب” للجيل نفسه مع فيلمها “لبنان في الفتنة” الصّادر سنة 1975، وفيلم “حياة معلقة أو غزل البنات “سنة 1984، ورندة شهال صبّاغ بفيلمها “حروبنا الطّائشة” سنة 1995، وكذلك غسان سلهب بفيلمه “أشباح بيروت” سنة 1998، وقد أنجزوا جميعًا أفلامًا تفاعل فيها الخياليّ بالوثائقيّ في وقت باكر جدًّا في تاريخ السينما، ليتحدثوا عن واقع البلد الذي أصبح مواطنوه رغمًا عنهم مُشاركينَ في حرب أهلية لا تنتهي أبدًا.
كانت السينما الفلسطينية أداة للدّعايةِ؛ خدمةً للقضية الفلسطينيّة، وستكون أولى أفلام الخيال عن فلسطين منتَجَةً في العالم العربي، كفيلم “المخدوعون” لتوفيق صالح الذي ذكرناه سلفًا، أو” كفر قاسم” للّبناني” برهان علوية” الصادر سنة 1974، وقد أصبح عدد السينيمائيين الفلسطينيين سواء كانوا أصيلي غزّة أو الضّفّة الغربيّة، وسواء أكانوا فلسطينيّي الدّاخل أو فلسطينيّي الشّتات، ملاحظًا على السّاحة الثقافيّة السينمائيّة، إلا أنها تظلّ ظاهرة حديثة.
كان ميشيْل خليفي أوّل من قدَّم فلسطين في المهرجانات بفيلمه “الذّاكرة الخصبة” الصّادر في 1980، وحُتّمَ على السّينما الفلسطينيّة أن تنتظر اتفاقيّة أوسلو في 1993 حتى تفرض نفسها، ففي هذه السّنة ذاتها انتخب رشيد مشهرواي أصيل غزة بفيلمه “حتى إشعار آخر” لأسبوع النقاد بمهرجان “كان”، ثم إيليا سليمان الفلسطينيّ الذي عاد إلى الناصرة بعد إقامته عشر سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية، وحاز على الجائزة الأولى بمهرجان فينيسيا للأفلام بفيلمه “سجل اختفاء”. وقد اقترح هؤلاء السينمائيون الفلسطينيون رؤية جديدة للوضع الفلسطينيّ، ونضيف أن إيليا سليمان كان له كتابة ثاقبة وغير مسبوقة، عارضًا الأحداث اليومية لفلسطينيي الدّاخل أو الضفة الغربية وتاريخ الاحتلال منذ 1948، وهذا الأسلوب نجده كذلك في أفلامه الأخرى مثل” يدٌ إلهيّة” سنة 2002، وحول عالم أكثر سوءًا ويأسًا نجد فيلمه “الزمن الباقي” سنة 2009.
كانَ هَدَفُ هذهِ المـَسَارَاتِ لهؤلاءِ السّينمائيّين إِعْطَاء مَرجِعيّات تاريخيّة مُوجزة نِسْبيّا، ولكنّها تحدث صَدًى واسعًا للسّينمَا الوطنيّة، وذلك من أجل تحديد الرّوابط بين التّيارات الرّئيسية السّينمائيّة للبُلدان العربيّة وسينمائيّ اليوم الحاضر.
في 2012، في أوج العولمةِ، وفي عصرِ الصّور الرقمية، وبعد حرب الخليجِ وصدمةِ أحداث 11 سبتمبر، وأخيرًا الربيع العربيّ، أصبحت خارطة السينمائيين العرب تُقرأ بطريقة مختلفةٍ، وبدت الانتماءات الوطنيّة تتلاشى لتحلّ محلهّا هويات ثقافية موسّعة أثرتها الرحلات والهجرات. وقَدْ واجهَ السّينمائيون العرب آراء الجمهور الغربيّ محدود الاطلاع، والخلط المتكرّر من الإعلامِ بين جِراح حروب الاستقلال التي لم تلتئم بعدُ وهاجس صعود الوصوليين، بإظهار انتماءاتهم الثقافية وحرية آرائهم من خلال أعمالهم الفنيّة.
كان ميشيْل خليفي أوّل من قدَّم فلسطين في المهرجانات بفيلمه “الذّاكرة الخصبة” 1980، وكان عليها أن تنتظر اتفاقيّة أوسلو كي تفرض نفسها من جديد.