محنة السينما.. فقراء الخيال يمارسون رقابة مزدوجة
4 December، 2023
سعد القرش
يكاد تاريخ السينما يكون تاريخًا للرقابة. منذ البدء، اقترن الخيال بالخيال المضاد. الرقابة مرض مزمن، تتفاوت أنصبته تبعًا لإدراك أهمية السينما. ولا يقل الاستبداد المجتمعي عن الرسمي. أحيانًا تكون الرقابة الحكومية أكثر مرونة من الانغلاق العمومي المرتبط بمنسوب الوعي الاجتماعي، ومدى رؤيته للسينما كحكايات، أو كاستعارات جمالية بريئة، وأحيانًا سامّة. كما توجد رقابة دينية تحيل إليها الرقابة الحكومية ما تراه شائكًا؛ لإخلاء مسؤوليتها.
في كثير من المناسبات الدينية تعرض الفضائيات فيلم “الرسالة”. لا تجد أفضل منه، وقد نجا من انغلاق فقهي لو استجاب له مصطفى العقاد ما أخرج الفيلم.
في كثير من المناسبات الدينية تعرض الفضائيات فيلم “الرسالة”، وقد نجا من انغلاق فقهي لو استجاب له مصطفى العقاد ما أخرج الفيلم.
مجمع البحوث الإسلامية
ففي عام 1977 أصدر شيخ الأزهر عبد الحليم محمود، باسمه وباسم الأزهر وباسم مجمع البحوث الإسلامية، بيانًا يرفض الموافقة على إنتاج فيلم “الرسالة”، أو أي فيلم آخر “يتناول بالتمثيل، على أي وضع كان، شخصية الرسول أو الصحابة رضوان الله عليهم؛ ذلك لأن ظهور هذه الشخصيات على الشاشة السينمائية ـ تصريحًا أو تلميحًا، أو بأية صورة من الصور الخفية أو المعلنة ـ ينقص من قيمتها ويحطُّ من منزلتها في وجدان المسلم”، وأنه “لا يجوز من الناحية الإسلامية السماح بإنتاج” هذا الفيلم، “كما لا يجوز السماح بعرضه. وندعو حكام المسلمين وأولياء أمورهم، كما ندعو الأمة الإسلامية كلها، إلى إيقاف العمل في هذا الفيلم”.
في السنوات الأخيرة أنتجت مسلسلات: “يوسف الصديق” الإيراني، و”الحسن والحسين”، و”عمر” الذي ظهر فيه الصحابة وأولهم أبو بكر. ولم يتأثر وجدان المسلم، كما خشي شيخ الأزهر.
التعلل بالخوف على وجدان المسلم يشبه الخوف على وجدان المصري. في عام 1977 رفضت الرقابة المصرية الفيلم التسجيلي “لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء” الذي أخرجه اللبناني برهان علوية عن المهندس المصري حسن فتحي صاحب مشروع عمارة الفقراء. التهمة هي “الإساءة إلى سمعة مصر”. والزمن أنصف الفيلم (74 دقيقة)، ففي مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة (2019)، عرض الفيلم، ضمن تكريم برهان علوية، تضمن إصدار كتاب عنه للبناني نديم جرجورة.
جمال أمريكي
معارك الرقابة يربحها المبدعون، ولو بعد حين. في نهاية عام 1976 عرض فيلم “المذنبون”، وخضع لوصاية مصريين في الخارج، احتجوا بأن الفيلم “يشوّه سمعة مصر”. وعوقب الرقباء الذين سمحوا بعرضه. مقصّ الرقيب أرحم من رقابة يفرضها النفاق الاجتماعي. في عام 2000 كنت شاهدًا على حالة غير مسبوقة من الرقابة. شاهدت فيلم “جمال أمريكي”، في دار عرض بمدينة نصر، وكانت تجمُّعا لعائلات من محدثي الثراء، ربما من سلالة مشمأنطين، آذاهم فيلم “المذنبون”. كنت عضو هيئة تحرير مجلة “سطور” الشهرية، وسألني زميلي: هل الأب (الذي يمثل شخصيته كيفن سبيسي) نام مع زميلة بنته؟ أمْ أنها أخبرته مثلًا بإصابتها بالإيدز؛ فأصابه الرعب وابتعد؟
كان الزميل يجمع المواد المخطوطة على الكمبيوتر صباحًا، وفي المساء يعمل سائق تاكسي. ليس جمِّيعًا حرفيًّا، بل محترفًا ذكيًّا ينبهنا إلى ارتباك هنا، أو خلل أسلوبي يحتاج إلى إيضاح هناك. وشاهد فيلم “جمال أمريكي”، واحتار في تفسير ردّ فعل الأب؛ فسألني وأجبته، وسألت بدوري عما جرى.
أستعيد المشهد، اعتمادًا على الذاكرة بعد هذه السنين. في غرفة النوم سأل الأب زميلة ابنته، وهي متأهبة على السرير، عما إذا كانت تجربتها الأولى؟ أجابت: “نعم”، فأحسّ بالمسؤولية تجاه بنت صغيرة، وتغيرت نظرته إليها وشعوره نحوها، واحتضنها كابنته، وانتهى الأمر.
المشهد الإنساني استفزَّ عائلة مصرية، فحذفه صاحب دار العرض. وبحذفه فهم زميلي أن الأب استجاب لإغراء الفتاة المراهقة. الخطورة، دراميًّا واجتماعيًّا، أن حذف المشهد سلوك غير أخلاقي، أوحى للمشاهد بأن علاقة تمت بين فتاة صغيرة ورجل قام بالتغرير بها. أما ترك المشهد فهو رسالة أخلاقية وسلوك سويّ يحسبه الممسوسون بالنفاق العمومي إثارة جنسية.
هتلر
للخوف من الخيال تاريخ. بعد اجتياحات هتلر لجيرانه، وقرار الحلفاء التصدي له، تمثّل خيال شارلي شابلن جنون “الدكتاتور”. كان “الدكتاتور العظيم” فكرة، مشروع فيلم أخاف الألمان أكثر من طائرات الحلفاء. سارع كل من السفير الألماني وجورج كيسلنح قنصل ألمانيا النازية في هوليوود إلى مقابلة مسؤولين أمريكيين، ورجال المال الحاكمين لصناعة السينما. هدّد الرجلان بمقاطعة ألمانيا للأفلام الأمريكية، إذا أصرّ شابلن على إنتاج الفيلم. جرت مفاوضات لمقايضة الفنان وتعويضه، وإغرائه ماديا؛ لينصرف عن المشروع. ولكنه راهن على ما يبقى، مهما تكن المكاسب السريعة للمعارك، فهي مؤقتة، أما الحرية فسوف تنتصر، ويصير “الدكتاتور العظيم” ذكرى لا تشرّف الألمان أنفسهم. لم تكن الصحافة الأمريكية الاحتكارية الرأسمالية تعترض على التوجهات النازية، حين أنتج الفيلم وعرض عام 1940. شابلن قال إنه، بهذا الفيلم، يشارك في الحرب من أجل الحرية.
كما كان الزعيم الفاشي بينيتو موسوليني سباقًا إلى ترويض السينما، واستثمارها في التعبئة والحشد الجماهيري، فأسس مهرجان فينيسيا السينمائي عام 1932، وفي عام 1935 أنشأ معهد السينما، وبعد عامين أقام في روما مدينة السينما (Cinecittà)، أكبر مؤسسة إنتاج سينمائي في أوروبا لكي تنافس هوليوود، وعيَّن ابنه فيتوريو محافظًا للمدينة، ومسؤولًا عن ملف السينما. ولكن المدينة التي أراد موسوليني أن تنتج أعمالًا دعائية أو تمجد الدولة، في عظمتها الإمبراطورية الغابرة أو في حاضرها الموسوليني، استهدفتها قوات الحلفاء. انتهت الفاشية بسقوط الزعيم، وعادت السينما كما حلُم بها أنطونيو جرامشي «أداة أرخص وأكثر شعبوية من أي أداة فنية أخرى، أكثر من المسرح نفسه».
حين فكر شارل شابلن في إنتاج فيلم “الدكتاتور العظيم” سارع السفير الألماني لمقابلة مسؤولين أمريكيين، وجرت مفاوضات لمقايضته وتعويضه، لكن شابلن راهن على ما يبقى.
أداة للهيمنة
وخارج أوروبا، حضرت السينما كأداة للهيمنة في يد الرجل الأبيض. تُشيد الناقدة الهندية أنجلي برابو، في كتابها “السينما الإفريقية المعاصرة وسينما الشتات”، بالمخرجين الأفارقة الذين يكافحون من أجل “أفرقة عمليات التفكير”، في أفلام تحقق نوعًا من التأمل المعرفي والجمالي والنقدي للذات الإفريقية وللعالم.
أنجلي هندية تقيم في أمريكا، وتعمل أستاذة دراسات السينما والإعلام والأدب المقارن والدراسات الفرنسية والفرانكفونية في كلية ويلسلي بالولايات المتحدة، ونشرت كتابها عام 2014، وترجمه كل من سهام عبد السلام ومحمد مراد، وأصدره مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية عام 2020. في هذا الكتاب ترصد المؤلفة التمثيل العرقي للأفارقة في الأفلام التي صنعها الأوروبيون، لإرساء دعائم التحكم في الأفارقة، إذ منعت بلجيكا مواطني الكونجو من دخول السينما في بلدهم، ثم سمحت لهم بمشاهدة أفلام ينتجها البلجيكيون. كما حظر القانون البريطاني الاستعماري على الأفارقة مشاهدة الأفلام الأوروبية والأمريكية، بما فيها ما صوُّر جزئيًّا في إفريقيا، وكان الوجود الإفريقي في هذه الأفلام مشوّها، ويناسب التصور الكولونيالي للسود عمومًا. وأصدر بيير لافال (1883 ـ 1945) وزير المستعمرات الفرنسي “مرسوم لافال” الذي يمنع الأفارقة من صنع الأفلام، وظل القانون ساريًا حتى عام 1960.
ترتبط السينما بالخوف والمصادرات. يُجهدني دائمًا إثبات نسبة المقولات الشائعة إلى أصحابها، أتعب ولا أصل إلى يقين. ولا أستطيع فضّ نزاع بين برنارد شو وهيجل، أيهما القائل: “الشيء الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ هو أننا لا نتعلم شيئًا من التاريخ”؟ وأميل إلى أنها لهيجل. وأيّا كان قائلها، فهي تثبت أن الحكمة أطول عمرًا من صاحبها، وتؤكد أن العقول منزوعة الخيال، والسلطات المستأسدة بالقوة وحدها لا تريد أن تتعلَّم من التاريخ حقيقة عابرة للثقافات، ألا جدوى من مصادرة الفكر والإبداع؛ فقانون التاريخ ينتصر للمستضعفين ولو بعد حين.
البريء
في عام 1986، وفي ما يشبه النبوءة بتمرد جنود الشرطة (قوات الأمن المركزي)، اجتمع في القاهرة وزراء الدفاع والداخلية والثقافة، لممارسة مهمة الرقابة على فيلم “البريء”، وفيه يُغرَّر بالجندي البائس أحمد سبع الليل (أحمد زكي)، ويشحن نفسيًّا لتعذيب “أعداء الوطن”، إلى أن يفاجأ بصديق طفولته الطالب الجامعي بينهم؛ فيؤلمه جُرح الخديعة، ويحاول حمايته، فيتعرضان معا للتعذيب والإهانة. ثم ينتهي الفيلم بسبع الليل في برج المراقبة، يطلق النار على جنود المعسكر وضباطه وقائده الساديِّ، وتأتيه رصاصة من أسفل فتقتله. كان الفيلم أكثر جرأة من قدرة الرقابة على التصريح بعرضه، فرأى الوزراء الثلاثة حذف عدة مشاهد، أهمها المشهد الأخير، وطوله أربع دقائق وبضع ثوان. وعرض الفيلم منقوصًا مشهد التصفية الجسدية. ثم أنصفه الزمن وعرض كاملًا، عام 2005 في افتتاح المهرجان القومي للسينما المصرية، في دار الأوبرا بالقاهرة، ويتوالى عرضه كاملًا في الفضائيات، من دون أن تتأثر الدولة، أو ترمش عين لأجهزتها بسبب الفيلم.
كان فيلم “البريء” محظوظًا، فلم يتأخر الزمن في مصالحته على المشاهدين. وفي سجل السينما المصرية رصيد من أعمال واجهت أقدارًا متفاوتة من التعنُّت، وأغلبها لأسباب سياسية. في عام 1938 منع عرض فيلم “لاشين” بحجة تضمّنه مساسًا بالذات الملكية ونظام الحكم. ربما تسبَّبت مكايدة وزارة الداخلية في منع الفيلم يوم عرضه جماهيريًّا، فأعلن ستوديو مصر، منتج الفيلم، تأجيل العرض “مراعاة للمصلحة العامة”، واضطر إلى تغيير النهاية التي تفرض فيها إرادة الجماهير حاكمًا مختارًا، بعد قتل سلفه. ولم يعرض الفيلم إلا بعد فرض نهاية تمكّن الحاكم، “مولانا العزيز”، من القضاء على ثورة الجياع التي وصفت بالمؤامرة.
اجتمع في القاهرة وزراء الدفاع والداخلية والثقافة في عام 1986، لممارسة مهمة الرقابة على فيلم “البريء”، وأمروا بحذف مشهده الأخير.
ليلى بنت الصحراء
في ذاكرة المصادرات أيضًا منع فيلم “ليلى بنت الصحراء” لبهيجة حافظ؛ لتزامنه مع ترتيبات زواج محمد رضا بهلوي ولي عهد إيران من الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق. وقد رأت الخارجية الإيرانية الفيلم مسيئًا إلى العرش الشاهنشاهي. وانتهى حكم الشاه وعائلته، وبقي الفيلم الذي عرض بعد سنوات، “معدَّلًا” بعنوان “ليلى البدوية”.
كان منع الفيلم صدمة، وكارثة اقتصادية أدت إلى إفلاس شركة الإنتاج وتوقفها؛ لأن الفيلم يتعارض مع المصالح العليا للسلطة، ويشوّش مستقبل علاقة يعوّل عليها رجال الدولة العميقة في مصر. ولا تذكر المصادر السينمائية مشاركة بهيجة حافظ بالتمثيل خلال السنوات السبع التالية، حتى السماح بعرض الفيلم عام 1944، بعد تغيير عنوانه إلى “ليلى البدوية”، وفي النسخة الجديدة تغير أيضا اسم الملك من “كسرى أنوشروان” إلى “كنجا”. كل ما تذكره المصادر أن الحكومة المصرية دفعت إلى السيدة بهيجة 3403 جنيهات، تعويضًا عن خسارتها بسبب منع عرض الفيلم طوال سبع سنين. تعويض مادي لا يفيد، بعد كسر الروح.
التحرُّش بالأفلام داء كوني. في عام 1932 عرض «أولاد الذوات»، أول فيلم مصري ناطق، ونشرت جريدة “لابورص” مقالًا يطالب بمنعه. يورد مخرج الفيلم محمد كريم في مذكراته ترجمة للمقال نشرتها جريدة “المقطم”. وجاء فيها: “إذا تركنا جانبًا الوجهة الفنية التي عليها الفيلم، وهي تعد مضحكة، فنحن نجد أن هذا الفيلم هو على مثال أفلام روسيا الشيوعية التي تترك الفن للفن وتقصد الدعاية. فقد أرادوا به أن يروجوا الدعوة لدى المصريين لكراهية المرأة الأوروبية”. واختتم المقال بسؤال: “كيف يخرجون في مصر فيلمًا كهذا مبنيًّا على التعصُّب، دون أن يكون حتى على شيء من الفن؟”.
ويسجل كريم أن بعض الأجانب قدموا إلى وزارة الداخلية شكوى ضد الفيلم، فندبت الوزارة لجنة لمشاهدته، وحكمت “بأن ليس فيه ما يستحق الاعتراض أو المؤاخذة على المرأة الفرنسية. وأكدت اللجنة إجازة الاستمرار في عرضه”. المنع المؤقت للفيلم أنعشه جماهيريًّا، “وحدثت في البلاد هزة كبيرة لهذا المنع أفادت الفيلم فائدة عظيمة”.