مهرجان البحر الأحمر وأصوات صنَّاع السينما العربية الجديدة
4 December، 2023
أمنية عادل
احتفى مهرجان البحر الأحمر بمشاركة وفوز أربعة أفلام مدعومة من قبل صندوق البحر الأحمر خلال مهرجان “كان” السينمائي الدولي في دورته 76، في الوقت الذي تم افتتاح المهرجان بفيلم “Jeanne du Barry” للمخرجة Maïwenn، الذي يعدُّ أول إنتاج دولي مشترك بين مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي وفرنسا. في حين تمرُّ السينما العربية بمرحلة مخاض جديدة تكاد تتقارب بها المضامين المطروحة داخل الأفلام رغم اختلافات القصص والمعالجات، مما يدفع المتابع لملاحظة مساحات التقارب والتلاقي ما بين سينمات العالم العربي المختلفة، وفي ضوء ذلك يتَّضح تشارك المشاريع الفيلمية المختلفة في سِمة أخرى إلى جانب تقارب المضامين، وهو الاندماج في سوق الإنتاج الجديدة وأساليب الإنتاج والتوزيع التي تبتعد عن مفهوم المنتج الواحد، فمن بين صناديق الدعم والمنح تتولَّد تلك التجارب الفيلمية التي تعدُّ للبعض التجربة الأولى في مسيرته السينمائية.
كاميرا عربية
في عام 1987 ناقش المخرج التونسي فريد بوغدير الكثير من القضايا التي تخصُّ السينما العربية في فيلمه الوثائقي “كاميرا عربية”، والذي ألقى به الضوء على التجارب السينمائية العربية التي تتسم- من وجهة نظره- بالتجريب أكثر من الاحتراف، حيث سينما المغرب العربي والشام وغيرها من السينمات، فيما عدا مصر التي اعتبرها، بوغدير في فيلمه، تنتمي إلى ستوديو القاهرة المقارب إلى هوليوود، وإنتاجاتها الأقرب إلى الاحتراف منها إلى الهواية، فيما تتحرر السينما في الدول العربية المختلفة من قيود الاحتراف، رغم مميزاته العديدة، وهو ما أسهم في انخراط صناع السينما في تلك الدول مع عملية الإنتاج الجديدة المعتمدة على أكثر من مصدر تمويل، وهو ما تسلَّل مؤخرًا إلى العديد من التجارب المصرية أيضًا.
منذ عدة أعوام تشهد السينما العربية انفراجة كبرى في عدد الإنتاجات، وكذلك الاحتفاء العالمي بمستوى التقنيات، وسبل طرح موضوعات محلية ذات خصوصية مجتمعية بطريقة عالمية إنسانية، أفلام مثل “حرقة” للمخرج لطفي ناثان، “أشكال” للمخرج التونسي يوسف الشابي، “نزوح” للمخرجة السورية سؤدد كعدان، وكذلك “جنائن معلقة” للمخرج العراقي أحمد ياسين الدراجي، وفيلم “سيئ صعب خطر” للمخرج اللبناني وسام شرف، تتقارب تلك الأفلام في الاعتماد على لغة سرد خاصة، وصوت مغاير عن الأفلام المنتجة داخل دولها، رغم قلتها، كما تتشارك أيضًا في الحصول على دعم من صندوق البحر الأحمر، الذي يتضح من خلال الأفلام التي يدعمها ويمولها في مراحل الإنتاج المختلفة، قيد التطوير، الإنتاج، ما بعد الإنتاج (صندوق البحر الأحمر لتطوير المشاريع، صندوق البحر الأحمر للإنتاج، وصندوق البحر الأحمر للمشاريع قيد الإنجاز)، أنها تتشارك في طروحات متقاربة، وربما صوت واحد يُعبِّر عن المهمشين وأصحاب المعاناة في جغرافيا العالم العربي على مختلفه.
يُوفِّر صندوق دعم البحر الأحمر نافذة لإنجاز عدد من المشاريع التي ربما كانت معلقة لدى أصحابها، لكنه يعكس من خلال مضامين الأفلام سمات السينما العربية الجديدة، ورؤى صنَّاعها للعالم المعاصر المعيش.
يوفر صندوق دعم البحر الأحمر نافذة لإنجاز عدد من المشاريع التي ربما كانت معلقة لدى أصحابها، ويعكس من خلال مضامينها سمات السينما العربية الجديدة.
جنائن ونفوس معلقة
داخل مكبِّ نفايات “جنائن بابل المعلقة” الشهير، تنطلق أحداث الفيلم العراقي “جنائن معلقة” للمخرج أحمد ياسين الدراجي، حيث يعمل طه وأسعد شقيقه الصغير في فرز النفايات، وهو العمل المضني الذي لا يكسبان منه إلا القليل، مع هذا يقنع طه الأخ الكبير بحياته رغم الصعوبات، في حين يحلم أسعد الصغير بتحقيق تغيير في حياته وحياة أخيه.
من خلال “سلوى” تلك الدمية الجنسية التي يعثر عليها أسعد وسط النفايات الباقية من الأمريكيين، يكشف الفيلم عن ملامحه، والقسوة التي تعيشها بغداد وأهلها، بين ركام الحرب والأنفس المحطَّمة، دون إثارة كثير من الضجة، ومن خلال سرد هادئ، يتعاطى الفيلم مع ما حل ببلاد الرافدين، وغلبة اللون الرمادي على كل شيء يحدث، حيث يحصل الجميع على النصف دائمًا، نصف رضا، نصف راحة، نصف لذة، ونصف سعادة، أنصاف لحظية لا تستمر، ولكن ما يبقى حاضرًا هو حالة الكبت والألم المستتر الذي تغلفه المرارة.
خاض فيلم “جنائن معلقة” رحلة طويلة، بدأت من أحداث حقيقية، واستمرت على مدار ما يجاوز خمس سنوات لكتابة الفيلم وصناعته، وحملت صورة الفيلم على مداره وجه بغداد المتعايش مع القسوة والألم، حيث صور المخرج أحمد ياسين الدراجي فيلمه الأول وسط طير أدخنة متصاعدة، تُقارب ما بين عالم الأسطورة والحقيقة، فمن خلال أدوات بسيطة يلعب أسعد دور المنقب عن أشياء باتت تمثل له كلَّ شيء في الحياة، حيث ينتقل وأخوه وصاحبته من سيئ إلى أسوأ، ولا تعينه “سلوى” تلك الدمية التي عثر عليها ووجد بها ونسًا لم يستمر طويلًا، حيث باتت سلوى ملكًا لمن يدفع ولو لدقائق معدودات.
خاض فيلم “جنائن معلَّقة” رحلة طويلة على مدار خمس سنوات من الكتابة حتى صناعة الفيلم، وحمل على مدار عرضه وجه بغداد المتعايش مع القسوة والألم.
احتجاج الأدخنة
في مناخ ليس ببعيد عن أسعد وأخيه طه، يعيش “علي” وسط دوامة من الأزمات التي لا تنتهي، يستوحي المخرج لطفي ناثان من مأساة بوعزيزي التي تفجرت الثورة التونسية في أعقابها، مع نهاية 2010-2011، حيث يعود بعد قرابة 12 عامًا للنظر من جديد في أسباب حدوث ذلك، لا سيَّما مع استمرار الأزمات رغم ثورة اللوتس، “علي” الذي يرى في الموت سبيلًا للخلاص، يترجم بفعلته الحال الذي وصلت إليه تونس بصورة عامة.
اعتمد المخرج لطفي ناثان على سرد حكاية “علي”، من خلال لسان أخته الصغرى التي تصفه بحب لا يراه من حوله، إذ ترى به هذا الجانب الإنساني الذي يتمنَّى أن يحيى بطريقة آدمية، ويفشل في تحقيقها، ربما يعرف المشاهد مصير “علي” منذ لحظات البداية في الفيلم، فهو بوعزيزي الذي آثر حرق نفسه في سبيل التعبير عن غضبه، يمكن قراءة قرار “علي” بين الشجاعة والهروب، لكن يظل السؤال ماذا عاد على هؤلاء المشاركين له في الهمِّ، ربما أنهى “علي” عذاب نفسه، لكن الآلم لم يغب عن الآخرين.
يعود المخرج لطفي ناثان في فيلمه “حرقة” 12 عامًا للوراء كي ينظر في أسباب مأساة بوعزيزي، وما وصلت إليه ثورة اللوتس في تونس.
تنويعات على تيمة الحرق
يشتبك المخرج يوسف الشابي في فيلم “أشكال”، الحاصل على دعم من صندوق البحر الأحمر أيضًا مع جوهر فيلم “حرقة”، وحرق الذات بصورة عامة، تلك الجريمة التي شهدها “حي حدائق قرطاج”، والذي ينتمي إلى نظام بن علي الذي ثار عليه التونسيون، في إطار من الغموض والإثارة يبحث المحققان “فاطمة” و”بطل” في جرائم مشابهة شهدتها حدائق قرطاج التي استعادة العمل بها تدريجيًّا. في إطار بوليسي تشويقي وظَّف الشابي ثورة تونس ومجرياتها وملابساتها التي رافقتها، مثل حرق بوعزيزي وغيره التي استمرت ما بعد ثورة 2010-2011، وباتت سبيل الاحتجاج، حيث تحوَّل فعل الحرق من جرم إلى رفض، وكأن تونس تدور في دائرة لا تنتهي، يتطرق فيلم “أشكال” إلى العديد من المعاني والتأويلات التي تتجاوز المجرم المادي الواحد، وتشير بأصابع الإتهام إلى العديد من المجرمين الذين أوصلوا البلاد لما باتت عليه.
رقع التهميش
تتورَّط الشرطية فاطمة مع حكايات المجني عليهم، هؤلاء المهمشين الذين يفتقدون إلى محقق العدالة في قضاياهم، لا يختلف الأمر كثيرًا بين المجني عليهم في فيلم “أشكال” و “علي” في فيلم “حرقة”، فالجميع لا ينتبه لأحد إلا حينما يصبح لا وجود له، لتصبح المعاناة عنوانًا لأفلام تعبر عن الواقع التونسي، وتحاول طرح أسئلة لا تجد من يجيب عليها. ما بين الخيال والحقيقة يبحث المخرج وسام شرف عن سبيل للعيش بحبٍّ، وسط التهميش الذي يعيشه أبطاله، حيث أحمد لاجئ سوري في الأراضي اللبنانية، “حديد، نحاس، بطاريات” كلمات تعبر عن علاقة أحمد مع المحيط من حوله، إذا لا يحصد إلا القسوة، يعيش أحمد قصة حبٍّ تتأرجح بين الخيال والحقيقة مع مهدية، تلك الفتاة الأثيوبية التي تعمل كخادمة وراعية لأحد العجائز الذي يكان عمل كولونيل في الماضي. يحاول المخرج اللبناني وسام شرف في فيلم “حديد، نحاس، بطاريات” الانتصار على قسوة الواقع من خلال قصة الحب التي يعيشها أحمد ومهدية، تختلف الأزمات داخل لبنان عن غيرها من البلاد، حيث العنصرية والاغتراب والرفض في أحيان كثيرة، من خلال بعدٍ يجمع بين الرومانسية والفانتازيا يعبر عن أزمات لبنان التي لا تنتهي.
البحر الأحمر والتاريخ
من المشروعات التي دعمها صندوق البحر الأحمر، أفلام تنتمي إلى التاريخ أو الدراما التاريخية، مثل فيلم الجزائري “الملكة الأخيرة” من إخراج داميان أونوري وعديلة بن ديمراد، وكذلك الفيلم الأردني “فرحة” للمخرجة دارين سلام في تجربتها الإخراجية الأولى، تلك الأفلام التي حصلت على دعم من جهات داعمة عديدة، قدمت قراءات عن التاريخ، سواء في الجزائر أو فلسطين، تلك القصص التي لعبت بها النساء دور البطولة، وأيضًا العنصر الفاعل المحرك للأحداث، باحثة في دور النساء في عوالم وجغرافيا شهدت تغيرًا واضحًا، في ظل تأثيرات فرضتها الأحداث والصراعات. ما بين القراءات المختلفة من الماضي، وحتى اللحظة الحاضرة، تنوعت المشروعات والمعالجات السينمائية للحكايات، ولعبت المنح وصناديق الدعم دورًا لا يُستهان به، أنعشت بدورها السينما العربية، وكوادرها التي تسعى لتقديم قراءات مختلفة، وصوتًا خاصًّا تعثَّر كثيرًا تحت عقبة الإنتاج، الذي بات متوفرًا؛ ما أسهم في خلق تنافسية واضحة في المشروعات التي تتقدَّم للحصول على الدعم والظهور على شاشة السينما.
دعم صندوق البحر الأحمر أفلامًا تنتمي إلى الدراما التاريخية، مثل “الملكة الأخيرة” لداميان أونوري وعديلة بن ديمراد، و”فرحة” لدارين سلام.