• English
  • 14 يناير، 2025
  • 5:32 ص

وجهة نظر في السينما المستقلة

وجهة نظر في السينما المستقلة

30 July، 2022

بقلم إبراهيم العريس

منذ عقدين أو ثلاثة بدأ يتردد في عالم السينما العربية مصطلح لا شك أنه للوهلة الأولى، بدا جديدا عليها وهو مصطلح “السينما المستقلة” وبسرعة اكتسب المصطلح مكانة وقيمة تفضيلية إنما دون أن يبدو أن له في حقيقة أمره أي معنى حقيقي على الإطلاق. ومع ذلك راحت المهرجانات السينمائية المميّزة وغيرها من التظاهرات الثقافية السينمائية وغير السينمائية تتنافس للحصول على عروض خاصة بها لتلك الأفلام التي اتسمت أول ما اتسمت بقدر من التقشف وحُقّقت في معظم الأحيان بحرية حصّلها أصحاب الأفلام لأنفسهم مقابل عدد لا بأس به من التضحيات الإنتاجية.

والحقيقة أن تلك الأفلام لم تستطع في أغلب الأحيان أن ترد ما كان قد أُنفق عليها من أية عروض تجارية بحيث أن معظمها سيكون في نهاية الأمر العمل الوحيد – أو الوحيد “المستقلّ” – لصاحبه. ويبقى أن نعود هنا الى المسألة الأساسية وهي المتعلقة بالمصطلح نفسه. فمصطلح السينما المستقلة هو في نهاية الأمر مصطلح مستورد تماما ومن الصعب أن نرى أنه ينطبق إلا على حالات تشبه الحال في البلد الذي استورد المصطلح منه: الولايات المتحدة الأميركية.

ولنوضح، فأن يكون فيلم ما مستقلا يفترض أنه يجب أن يكون مستقلا عن منظومة معينة، ما يعني أنه لا يمكن للسينما أن تُعتبر مستقلة الا في مواجهة وضعية تكون السينما الأساسية فيها مرتبطة بمنظومة إنتاجية معينة تسود في السوق التي تنتج للإستهلاك فيها أعدادٌ محددة من أفلام تبعا لقواعد انتاجية وتوزيعية محددة، بل حتى تبعا لمنظومة إحتكار تمسك بالعملية السينمائية من ألفها الى يائها.

وفي مثل هذه الحال تكون الكلمة الفصل في العملية برمتها للمموّل الذي هو الشركات والأستديوهات الكبرى التي تنطق هنا باسم مموّل أسمى منها هو الجمهور الذي تتوجه الإفلام اليه. وهذا ما نسميه عادة بالنسبة الى الوضع الأميركي، السينما الهوليوودية التقليدية التي لا تُصنع في نهاية المطاف إلا من أجل استهلاك هذا الجمهور متجاوبة مع تقلباته ومع متطلباته، بما في ذلك حين تُثّوّر بعض الأفلام والتيارات بين حين وآخر تبعا لتطورات ذهنية معينة، مثلا في الستينات والسبعينات حين بدّل من سُموا بأصحاب اللحى (من أمثال سكورسيزي وكوبوبولا وسبيلبرغ….) من مجرى التيار العام للسينما الهوليوودية تحت ضغط جماهير سينمائية غيّرتها ولو إلى حين حرب فيتنام أو فضيحة ووترغيت، لكننا نعرف أن هوليوود سرعان ما استوعبت ذلك كله تاركة في الهامش بعض سينما استقلت عن السياق العام جماليا وانتاجيا وفكريا، ما ولّد مصطلح “السينما المستقلة” الذي سرعان ما ورثته حراكات سينمائية متنوعة، فردية وجماعية، لعل أبرزها مهرجان ساندانس الذي أعلن نفسه مهرجانا للسينما المستقلة. والمراد من هذا بالنسبة الينا هنا هو، بالطبع أنه لولا وجود التيار الهوليوودي السائد لما كان ثمة وجود للسينما المستقلة لأن هذه الأخيرة، تعريفا، إنما هي مستقلة عن ذلك التيار.

لا يمكن للسينما أن تُعتبر مستقلة الا في مواجهة وضعية تكون السينما الأساسية فيها مرتبطة بمنظومة إنتاجية معينة تسود في السوق.

لا وجود لسينما عربية مستقلة

من هنا قد يكون ممكنا أن ينطبق بعض هذه المقولة على ما ينتج في مصر من أفلام تأتي على هامش الإنتاج المصري السائد. ولكن لا يمكن في المقابل الحديث عن سينما عربية “مستقلة” خارج مصر بالتأكيد، حيث لا وجود لإنتاج منتظم يمكن للسينما الجديدة أن تكون مستقلة عنه. بل حتى في مصر، إذا تفحصنا الأمور عن كثب سنجدنا أمام استخدام غير دقيق للمصطلح.

 فحتى الأفلام المصرية التي تصف نفسها عادة بكونها تنتمي الى “سينما مستقلة ما” لا تتوقف عن السعي لأن تنال دعما توزيعيا إن لم يكن انتاجيا بل تمويليا حتى، من جانب المنظومة الإنتاجية السائدة، وفي أحيان كثيرة من جانب هيئات عربية خليجية غالبا ما تكون حكومية وتقدم مساندة مالية لعدد من الأفلام سنويا. ومن هنا وإذ بات استخدام مصطلح سينما مستقلة رائجا دون أن يعني ما يمكنه أن يعنيه حقا، يمكن لنا أن نفترض بأن التعبير بات حكم قيمة بأكثر مما هو توصيف سينمائيّ. بكلمات أخرى: الفيلم المستقل إنما هو وصف موارب للفيلم الجيّد أو الذي يُفترض به أن يكون جيّداً على الأقل.

وهذا الوصف هو الذي يوصل الفيلم عادة الى المهرجانات والمناسبات الثقافية، بصرف النظر عن مرجعه الإنتاجي. ولئن كانت تلك هي الحال في مصر حيث ثمة منظومة إنتاجية/توزيعية راسخة، فكيف الحال في بلدان أخرى لا وجود فيها لمثل هذه المنظومة؟ في المغرب مثلا المركز الوطني للسينما هو الذي يمول معظم الجيد من الأفلام. وفي سوريا لا يمكن فيلما مميّزا أن ينتج إلا بأموال مؤسسة السينما، وفي لبنان ثمة غياب تام لأية منظومة انتاجية، وفي تونس والجزائر وبالنسبة الى فلسطين لا تختلف الحال، فعمّ تكون السينما هناك مستقلة؟ طبعا لا نقول هذا الكلام للتقليل من أهمية وقيمة الأفلام التي توصف بـ”المستقلة” ولكن لتعديل المصطلح نفسه والعودة به الى معناه الأول والأفضل. فالحقيقة أن القسم الأكبر من الأفلام العربية التي تنتمي الى “السينما المستقلة” يتعلق بأفلام جيدة، أفلام ربما تكون من أفضل ما حُقّق في السينما العربية منذ زمن ولا سيما خلال العقدين الأخيرين.

إذا كانت السينما العربية، بما في ذلك المميّز والجيّد منها قد انتمت دائما الى مؤلفين رئيسيين لها هما المخرج وكاتب السيناريو – أو السيناريو والقصة معا -، بحيث أنه كان من النادر أن يكون المؤلف الكاتب هو نفسه المؤلف المخرج، فإن نتاج العقدين الأخيرين من هذه السينما العربية الجيدة، في مصر ولكن خاصة أيضا خارج مصر في عدد لا بأس به من سينمات عربية أخرى، أتى منتميا حقا الى ما كان الفرنسي فرانسوا تروفو عرّفه بمصطلح “سياسة المؤلفين” حيث يكون الكاتب والمخرج نفس المبدع.

المؤلف الشامل

 ففي السينما العربية الجديدة والجيدة، سواء حققها سينمائيون أو سينمائيات، نلاحظ أول ما نلاحظ وجود هذا المؤلف الشامل، والذي غالبا ما يكون أيضا مسؤولا حتى عن إنتاج فيلمه، وربما ممثلا رئيسيا فيه … ففي مثل هذه الحالات وغيرها نرانا أقرب مما نكون الى سينما المؤلف التي لا تحتاج الى وصف “سينما مستقلة” غير الدقيق كي تحوز صدقيتها وجودتها وتصبح جزءا من التاريخ الأجمل للسينما العربية.

موت للبيع لفوزي بنسعيدي

وهذا النوع من السينما لم يعد نادرا في السينما العربية في تقديمه لمواضيع ذاتية أو مواضيع لا علاقة لها بالذات لكنها تفجّر على الشاشة مخزونا من العلاقة الحقيقية، إما بسينما النوع (فوزي بنسعيدي المغربي في مجمل أفلامه من “ألف شهر” الى “موت للبيع”)، أو سينما هاني أبو أسعد الأفضل عن ثنايا القضية الفلسطينية، وصولا مثلا الى هيفاء المنصور التي يكاد فيلمها “وجدة” أن يكون سينما ذاتية) أو سينما الرصد الإجتماعي (كما لدى جلالي فرحاتي من المغرب)، وصولا الى ذلك العدد الكبير الذي ما فتيء يناهض الإرهاب من موقع ثقافي إنساني لا يريد أنه يكون أداة في يد السلطات التي تتصدى للإرهاب (كما لدى محسن البصري في “المغضوب عليهم”، أو نبيل عيوش في “يا جياد الله” أو مرزاق علواش في “التائب”، أو سلسلة أفلام لشريف عرفة في مصر، وغالبا مع عادل إمام، أو، مرة أخرى مع هاني أبو أسعد في فيلمين مميزين له كـ”الجنة الآن” و”عمر”).

فيلم المغضوب عليهم لمحسن البصري

والحقيقة أننا اكتفينا هنا بتعداد نزر يسير من سينما عربية لعل من أهم سماتها تجاوزها للحدود الوطنية الى أبعاد عربية شاملة، بل نجدها تحقق ذلك الدخول المأمول منذ زمن بعيد الى زمن العالم، حيث نرى معظمها يُعرض في صالات ومهرجانات العالم ويحقق نجاحات كبيرة دون أن يتبعها الجمهور باعتبارها “سينما مستقلة”، بل دون أن يعبأ بما إذا كانت أو لم تكن مستقلة.

إنها في الإجمال سينما جميلة وصادقة وقوية بالتالي، سينما يصنعها مبدعون محبون للسينما تغضبهم مجتمعاتهم ويأسفون لفقدان قيم يرصدون زوالها ويحيّرهم ذلك السكوت العام عن التدهور، سينما لا شك أنها تسير بالتوازي مع تلك التطورات السياسية والإجتماعية التي تعيشها مجتمعات أصحابها.

المخرجة السودانية مروى زين

 ولعل في إمكاننا أن نختم هذا الكلام هنا بملاحظة، كيف أن القسم الأكبر من الجيل الأجد من أصحاب هذه الأفلام القوية والجميلة، في تونس أو في مصر، في لبنان أو في فلسطين وسورية وصولا الى السودان، الذي كان بمفاجآته السينمائية الثلاث الكبرى التي فجّرها في السنة الأخيرة من المرحلة التي نرصدها، وبمخرجيه الثلاثة صهيب قاسم الباري وأمجد أبو العلا ومروى زين، آخر العنقود حتى الآن في سلسلة سينمائية مدهشة تضم مبدعين سينمائيين حقيقيين وطموحين، لم يكونوا بأية حال بعيدين عن بدايات الربيع العربي، قبل انحرافاته وحراكاته كل منهم في بلده متطلعين في الوقت نفسه الى ما يحدث خارجه.

فاصل اعلاني