مقالات
الترجمة إلى السينما والسمعي بصري بين النظرية والتقنيات الحديثة
13 June، 2023
عبد الله صرداوي
يسوقنا الحديث عن الترجمة السمعي بصري إلى الوقوف على إطار نظري محدد. خصوصًا فيما يتعلق بتحليل صلاحية ووظائف مجموعة من المفاهيم التي يتم التوسل بها في تحليل هذا الموضوع. وهي مفاهيم مستقاة من حقل دراسات الترجمة الوصفية، التي تم تنزيلها وتطبيقها على مجال ترجمة السمعي البصري في السنوات الأخيرة. وبالرغم من نجاح هذه المفاهيم، وتوافقها، بشكل يضمن مواءمتها مع تصور حامل جديد مختلف كليًّا عما هو معتمد في الترجمة بشكل عام، إلا أنها ما زالت مقيدة وغير ناجعة في جوانب كثيرة. خصوصًا وأن تصورها مبني على ما تمخض عن الأدب والترجمة الأدبية؛ كونهما الأساس النظري الذي اتكأت عليه الترجمة الرقمية/ السمعي بصري.
وبالنظر إلى جدة موضوع الترجمة السمع – بصري، ما زال هناك عدم توافق في الكثير من الأشياء التي تهم كيفية الاستغلال والممارسة، إذ يبدو أن مساحة الاختلاف قد طالت حتى وصلت إلى عدم الاتفاق حول التسمية، وقد أفرز هذا الوضع تسميات توزعت بين الترجمة الرقمية، أو ترجمة الشاشة، ثم الترجمة السينمائية، أو الترجمة السمع – بصرية، ويظهر أن حدود تسمية هذا الحقل المعرفي ما يزال يتفرع عنه تسميات جديدة. يبقى أبرزها الآن هي الترجمة المتعددة الوسائط.
من هذا المنطلق، يبدو أن وطأة التسميات الأجنبية ما زال بعيدًا عن كل توافق، ولعل من بين أكثر الأمثلة على هذا الاختلاف هي كلمة Subtitles، فمنهم من يسميها العنونة التحتية، وهي الترجمة الحرفية من الإنجليزية، ومنهم من فضل تسميتها بترجمة الحاشية أو ترجمة الهوامش، لتبقى تسمية الترجمة المرئية الأفضل والأقرب إلى حقل السينما والسمعي بصري.
يبدو أن تسارع الإقبال على الترجمة الرقمية تحديدًا، أو السمع بصري بشكل عام، يضع حقل الترجمة أمام محك النزول لتقصي الجوانب التقنية واللغوية، وخصوصًا الثقافية التي تختص بها اللغة الهدف. وكذا المجتمعات باختلافها وتعددها، ويكاد الأمر يصبح ضروريًّا وبشكل ملحٍّ، خصوصًا وأن الترجمة الرقمية أو السمعي البصري تجاوزت الآن اعتبارها وسيطًا ثقافيًّا في ظل التطورات المهولة للوسائط البصرية والسمعية والرقمية المتعددة.
خصوصية اللغات
في خضم هذا، يبقى الأمر أكثر إلحاحًا حينما يتعلق بخصوصية اللغات وتفرعاتها، ولعل ما يزيد من صعوبة هذا الإجراء في اللغة العربية على العموم، واللهجات المتفرعة عنها على وجه الخصوص، هو ترجمة مكونات الشريط المرئي والصوتي حسب الحاجة والغاية، ناهيك عن الصعوبات التي تتعلق بالمقابلات اللغوية والعناصر الثقافية، ومدى تحقق المواءمة والملاءمة في نقل المعنى، وأيضًا حدود نجاح الترجمة في توطين لغة الأصل، وتطويعها حسب خصوصية اللغة الهدف. والحال أن هذا كله يحتاج بالضرورة إلى نوع خاص من الكفاءة والخبرة والفهم الجيد لخصوصية هذا النوع من الترجمة، حتى نضمن نقل النص بشكل يلبي الحاجة والغاية منه، ويستجيب لمعايير الترجمة الحرفية التي تضمن الجودة، وتحقق التطابق، وتحافظ على المعنى.
ولأجل تحقيق عملية الترجمة السمع بصري؛ لا بدَّ من الحرص على تكليف مترجم كفء له دراية بخصوصية الترجمة السمع بصري، هذا النوع من المترجمين يكتسب درايته وكفاءته من انخراطه التام في فهم كيفية صناعة فيلم سينمائي كيفما كان نوعه، وأيضًا اتصاله الفني بمجال السينما والسمعي البصري، عبر كثرة المران والممارسة، وتحيين معرفته النظرية والتقنية، كل هذا يمنحه القدرة على التعامل مع تعقيداتها التقنية، وتعدد مجال استغلالها المتسارع، خصوصًا في ظل الطفرة المهولة للوسائط السمعي بصرية، وإلا سيجد المترجم نفسه أمام مجال يفوق قدرته الثقافية والمعرفية، مجال يتطلب تحيينات متواصلة، ليس فقط فيما هو نظري، بل أيضًا فيما هو تطبيقي تقني بالخصوص.
أنوع الترجمة
تتمخض عن الترجمة السمع بصري العديد من أنواع الترجمة، والتي تختلف على حسب القصد والغاية وطريقة الاشتغال والاستغلال، منها:
الترجمة المرئية Subtitles: هي انتقال نص شفهي إلى نص مكتوب، يكون ظاهرًا على شاشة العرض، ويتم نقل هذا النص من لغة إلى أخرى، وأحيانًا يتم إعادة كتابة النص الشفهي إلى نفس اللغة بالنسبة للصم وضعاف السمع. تبقى الترجمة المرئية هي الأقرب سينمائيًّا كإجراء عملي غير مكلف، وأقرب إلى تصور السينما الفني، حيث يحافظ هذا الإجراء على خصوصية الشريط الصوتي في لغته الأصل. دون تغييرات أو نواقص…
الترجمة السمعية Audio Translation: وهي تقديم وصف منطوق لما يقدم من صور على الشاشة، ويتم اللجوء إلى هذا النوع من الترجمة لصالح ضعاف البصر أو فاقديه، وهو إجراء محدود ما زال العمل به يقتصر على برامج معلوماتية خاصة، وأحيانًا يتم تخصيص عروض موازية للأفلام على هامش المهرجانات الكبرى التي تتمتع بالدعم المالي الكبير.
الدبلجة dubbing: وهي ترجمة الشريط الصوتي، ومواءمته كبديل للحوار الأصلي بما يتماشى مع الشريط المرئي، مع مراعاة مجموعة من الضوابط. لعل أهمها بشكل ظاهري هو مواءمة النص مع حركة شفاه الممثلين، وتبقى الدبلجة خيارًا ثابتًا وفعالًا في الكثير من المناحي، فهي تعفي المشاهد من متاعب الترجمة الرقمية، خصوصًا ظهور عنصر زائد على الشاشة، كما أنها تبقى الإجراء التقني العملي بالنسبة لأفلام الأطفال والأشخاص غير القادرين على القراءة أو الأميين.
الصوت المضاف Voice Over: هي ترجمة شفهية للنص/ الصوت الأصلي دون التخلي عنه، حيث يتم إضافة النص المترجم/ الصوت المضاف فوق الصوت الأصلي، ويتم التأشير للصوت المضاف ليكون مسموعًا، بينما النص الأصلي يكون حاضرًا لكن لا يصل إلى الأذن إلا كصوت خافت، وهذا النوع من الترجمة تعتمده كثيرًا البرامج التلفزيونية أو الأفلام الوثائقية.
الترجمة الرقمية لضعاف وفاقدي السمع (HOH subtitles stands for ‘Hard of Hearing’): هي ترجمة رقمية تظهر على الشاشة. تتضمنها الأفلام بغرض معين، وهو مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة من ضعاف وفاقدي السمع؛ من أجل متابعة الأفلام في ظروف تمكنهم من الفهم والاستيعاب، وهي ترجمة مغايرة للترجمة الرقمية المعتمدة، بحيث تعتمد أساسًا على الوصف أكثر من الترجمة.
تقنية الوصف الصوتي (Audio Description): هي تعليق صوتي يتم من خلاله توصيف لغة وتعابير وحركات الجسد، وأحيانًا وصف الديكور وكل مكونات الديكور لفائدة ضعاف وفاقدي البصر، بالتالي يكون المشاهد من هاته الفئة أمام معلومات وتوصيفات من داخل الفيلم. عبر وسيط وحيد وهو الصوت فقط.
الترجمة المرئية إجراء عملي غير مكلف، وأقرب إلى تصور السينما الفني، وتحافظ على خصوصية الشريط الصوتي في لغته الأصلية.
الدبلجة تعفي المشاهد من متاعب الترجمة الرقمية، وتظل الإجراء التقني العملي لأفلام الأطفال والأشخاص غير القادرين على القراءة.
الإستراتيجيات
ولتحقيق كل هذا، على مترجم السمع بصري أن يكون منفتحًا بشكل صريح مع ما تنتجه النظرية من حلول، حتى يتمكن من انتقاء الإستراتيجيات المناسبة التي تساعده على التوفيق بين عوامل الاختلاف، وخصوصية البيئة الثقافية. بالنظر إلى خصوصية تقنية الإنجاز والإخراج. كيفما كان القصد والغاية ونوعية العرض. إن المترجم المتخصص في هذا النوع من الترجمة، عادة يشتغل على مادتين، الفيلم في المقام الأول. ثم السيناريو على حسب نوع الترجمة إلى اللغة الهدف والغرض منها، فمع تطور تكنولوجيا السمع بصري والسينما. وكثرة الحوامل المعلوماتية، أصبح تعامل شركات الإنتاج والأستوديوهات ومنصات العرض سريع التأقلم، مع وضع متجدد تحكمه حاجات الزبون بالدرجة الأولى.
تتكئ أغلب هاته الإستراتيجيات على نقطتين أساسيتين، هما: الترجمة الأولية: حيث تتم ترجمة الحوارات/الأغاني/العنوانين قبل إعداد ملف الترجمة الرقمية. التهيؤ/التكييف: فصل وتعديل نص الترجمة الأولية، ونقله لملف الترجمة الرقمية على برنامج رقمي خاص بالترجمة الرقمية، أو على برنامج التوضيب …. واعتماد إستراتيجيةٍ ما يمر عبر أنماط متبعة في الترجمة الرقمية أو السمع بصرية، لعل أهمها: الترجمة الأولية – الملاءمة – المواءمة.
وبغض النظر عن الطريقة أو نمط الاشتغال، فكل عمل يعتمد على طريقتين في عملية التحقق والتثبيت: – الطريقة الأولى يتم فيها الاعتماد على متحدث للغة الأصل بدون مشاهدة الفيديو، هذا يساعد في تفادي أخطاء النطق ومشكلات اتساق الكلمات، وأيضًا الوقوف على صحة علامات الوقف والإيقاع وبنية الجمل…، وهي طريقة يرجى منها تحقيق أكبر قدر من الاتساق بين الجمل، وتفادي أكبر قدر من التشويش في الترجمة، هذه الطريقة برغم أهميتها إلا أنها غير متاحة في جميع الأعمال، خصوصًا في شركات الإنتاج الصغيرة التي لا تهتم فقط بالشكل النهائي، حتى وإن شابهُ شيء من عدم الاتساق أو أخطاء.
الطريقة الثانية في عملية التدقيق والتحقق هي عملية المحاكاة، حيث يتم تثبيت الترجمة على الشاشة في محاولة أخيرة للوقوف على أخطاء، قد تم تجاهلها في المراحل السابقة. تسمح برامج الترجمة الرقمية بعرض الترجمة على الشاشة، والتحقق من وضعيتها النهائية ومواءمتها للشريط المرئي، حيث تتيح إمكانية الوقوف على المزالق التي لا يمكن التغاضي عنها في النسخة النهائية، خصوصًا في المرحلة التي تنتقل الترجمة إلى نظام آلي تقني يعمل وفق قواعد لا بدَّ من التقيد بها؛ لكي تصل الترجمة السمع بصري إلى المتلقي بلا عيوب ومشكلات.
نعرض لجانب من هذه القواعد. والذي يهم نوعًا من الترجمة السمع بصري وهي الترجمة الرقمية، ولكي يصل شكل الترجمة الرقمية مناسبًا. يجب على الموضب أو التقني المكلف بتثبت الترجمة الرقمية أن يكون على دراية بكل القواعد الممكنة لتأمين هاته العملية التقنية النهائية المهمة. ومن أهم هاته القواعد نجد:
مع تطور تكنولوجيا السمع بصري، أصبح تعامل شركات الإنتاج والأستوديوهات ومنصات العرض تحكمه حاجات الزبون بالدرجة الأولى
قواعد تقنية
الفضاء Space: في الغالب لا قاعدة ثابتة لاستغلال فضاء الشاشة، لكن حتى مع وجود هذا الاختلاف. يبقى من الأفضل أن لا يتخطى عدد الجمل على الشاشة خطان أفقيان، أما بخصوص عدد الكلمات في كلِّ خط/جملة، فيبقى الأمر رهينًا بسعة الشاشة. ونوع برنامج التوضيب. وشكل وحجم الحروف.
المدة Time: مدة عرض الترجمة الرقمية على الشاشة مرهون بتقييده بمدة النص المنطوق، في توازٍ مع وقت يسمح بقراءة الترجمة على الشاشة، بطريقة مريحة وواضحة.
طريقة التقديم Presentation: يشغل حضور الترجمة على الشاشة 20 في المائة من حجمها العام، ويتحكم في هذه النسبة حجم الحروف، وعدد الكلمات، وموضع الجمل على الشاشة، وأحيانًا تتغير طريقة التقديم على حسب نوعية برامج التوضيب وتفاصيل تقنية أخرى.
من الواضح أن الترجمة المرئية- كتقنية- تنزاح أكثر إلى جانب يحضر فيه التدقيق والالتزام المعرفي بما هو نظري وتقني، حيث ينظر إليها كإجراء نخبوي متعالٍ، يتم اعتماده في الأفلام التي تتبنى تصور السينما الحقيقي القائم على التفكير الفني، في حين أن الدبلجة تقدم نفسها كفعل تحرر وانزلاق يحتمل التحكم في النص والتلاعب به، بغرض قد يخرج العمل من معناه وتصوره…، وبالرغم من هذا الاختلاف يبدو أن الدبلجة تحظى باهتمام متزايد، كإجراء يعزز من توطين النص في اللغة الهدف، حتى إن شابت الترجمة عيوب تتعلق بما هو ثقافي وفني، فمترجم النص/المدبلج غالبًا ما يتاح له مساحة أكبر لممارسة رقابته وتفعيل رؤيته الذاتية، إذ يتدخل في النص بمبررات أغلبها يتمخض عن ما هو ثقافي ديني مجتمعي … هذا التدخل يقزِّم النص، ويحد من إبداعيته بلا شك.
في الغالب لا قاعدة ثابتة لاستغلال فضاء الشاشة، لكن من الأفضل أن لا يتخطى عدد الجمل عليها أكثر من خطين أفقيين.