• English
  • 15 فبراير، 2025
  • 7:14 ص

مقالات

سينما الشعر

سينما الشعر

حمادي غيروم

4 January، 2023

“الشعراء ينتمون دائمًا إلى حضارة أخرى”

بيير باولو بازوليني

 

إن الحديث عن سينما الشعر، هو حديث عن التمفصل بين السينما والشعر. ويحدث هذا التمفصل على مستوى الصورة. ولفهم كيف يقع هذا التمفصل، وما الآليات التي تشغله، لابد من الإشارة إلى المتخيل الشعري، الذي يمتح منه المبدع.

إذا كان المتخيل الشعري يتيح رؤية شعرية فنية عميقة للكتابة، مفادها أن اللغة ليست شكلًا يلبس للمعاني، بل هي مادة المعنى، إذ الكتابة الشعرية لا تحدث بالكلام، بل في الكلام، فإن الرؤية الشعرية للمبدع السينمائي تجعل الصورة ليست مجرد شكل لعرض الأحداث، وإيصال المعاني، بل تصبح الصورة هي مادة المعنى، إذ الكتابة السينمائية لا تحدث بالصورة بل في الصورة، وبهذا توفر البناءات البصرية المطابقة بين الماهية والتعبير.

الكتابة السينمائية لا تحدث بالصورة بل في الصورة.. وبهذا توفر البناءات البصرية المطابقة بين الماهية والتعبير.

انعكاس شاعري للحياة

إن الصورة هي انعكاس شاعري للحياة نفسها. وبما أننا لا يمكن أن نلمس هذا الغنى وهذه الرحابة الفسيحة للحياة، فإن الصورة السينمائية تصبح صورة-استعارة. وهذه الصورة-الاستعارة وحدها قادرة على التعبير عن الحياة وتدفقها.

إن جوهر السينما الشعري يكمن في اعتقادي، في كونها، قدرات فنية هائلة للنظر بعمق في جوهر الحياة، كما أن شاعرية المبدع التي تشكلها مرجعياته والواقع المحيط به، قادرة على الارتقاء فوق هذا الواقع وطرح أسئلة مهمة حوله. ولا يحدث هذا مع الواقع الخارجي فقط، لكن مع ما هو موجود في أعماق الإنسان. وهكذا اكتشف بازوليني الهاويات السحيقة في أعماقه، التي رأى فيها القديسين والأشرار، على حد سواء.

وإذا كنا نعرف جميعًا أن السينما ظهرت مع فيلم “وصول القطار إلى المحطة” للأخوين لوميير، فإن أندري تاركوفسكي، شاعر السينما وفيلسوفها، يعتبر أن ولادة الفن السينمائي تمت في تلك اللحظة بالذات، حيث إن الأمر لا يتعلق فقط بوجود تقنية سينمائية وأسلوب جديد لإعادة خلق العالم. وإنما يتعلق الأمر، بحسب تاركوفسكي، بولادة “مبدأ جمالي جديد”.

ويتلخص هذا المبدأ في  تمكن الإنسان، للمرة الأولى في تاريخ الثقافة والفن، من العثور على أسلوب يمكنه، وبشكل مباشر، من تسجيل الزمن المرئي وتخزينه، مع إمكانية عرض تدفقه لمرات عديدة. وبهذا أصبحت الكفاءة الإبداعية للفنان السينمائي تكمن في قدرته على “نحت الزمن”، أي خلق سيولة زمنية شخصية، مؤلفة من ديناميكية المقاطع والأجزاء المسجلة من الواقع.

إن عمل السينمائي، بحسب تاركوفسكي، شبيه بعمل النحات، الذي يخلق من أكوام الطين، ومن كتل الصخر، إبداعه الحجمي ذا الأبعاد الثلاثة. وبناء على هذا المبدأ الجمالي، فإن شعرية تاركوفسكي تكمن في اكتشافه سر تسجيل الزمن داخل الكادر. حيث انزاح عما أسسه معلمه آزنشتاين على مستوى شعرية المونتاج. فنحت من الزمن سيرورة أخرى  تتجلى من خلال مفهوم اللقطة-المتوالية وعمق المجال، الذي غير به طريقة النظر، من خلال تغيير الإيقاع الزمني، الذي تجاوز الكرونولوجيا (علم التسلسل الزمني)، إلى لحظة الديمومة، أي لحظة المكاشفة، التي يمتلئ فيها البصر، ويطفح فيها الوجدان.

ونعطي كمثال على هذا الإنجاز فيلم “القربان”، الذي استطاع فيه تاركوفسكي أن يمزج بين الفكر والوجدان لخلق ما سماه هيجل بـ”استتيقا الفكر الجميل”. حيث يتغذى هذا الفيلم وأمثاله، كما يقول جمال الدين بن الشيخ عن فيلم “طوق الحمامة المفقود” لناصر الخمير، من رؤية شعرية تتحول فيها الأشياء والأشخاص إلى أشكال متوهجة للمعنى الذي ينكشف كل لحظة، في التواءات الضوء، أو في حركة الريح على وجه الكائنات، أو في دعوة للعيش على شطآن الذاكرة البلورية، من أجل استرجاع القنيطرة في” ليل” محمد ملص، أو من أجل إنقاذ الأندلس، في كل أفلام ناصر الخمير، أو من أجل تعزية مصر في موت عبد الحليم حافظ في فيلم “نسيم الروح” لعبد اللطيف عبد الحميد، وفي كل الصور التي أبدعها حكيم بلعباس: في الوجوه والأيدي، في الزمن المعلق في صلاة أب ينتظر، وأم هجرت المرآة، إلى أن يعود ابنها المختطف. 

وقد استطاع بونويل ودالي ولوركا أن يحققوا  بفيلم “الكلب الأندلسي” ما لم تستطعه السوريالية في عصرها الذهبي. إن السينما مكنت كوكتو أن يبدع بالصورة السينمائية ما لم يستطعه بالكلمات، وهو إمكانية تشخيص اللامرئي الذي كان يسكنه. لقد حاول كوكتو، في شريط “أورفي”، تحديث الميثولوجيا القديمة من خلال مجموعة من الانزياحات. فقد اعتمد ثيمة المرايا، وأظهر وظيفتها الأولى كأبواب تفتح على الماوراء. وقد استطاع بذلك أن يعبر المرآة، ويرافق أورفي في هبوطه إلى الجحيم، نحو العالم السفلي. كما استطاع أن يصور الروح ويتصل بها في “المنطقة” الوسيطة، التي ينتظر فيها البشر، قبل أن يفقدوا عاداتهم كأحياء.

تركيب الواقع والحلم

إن قدرة الصورة السينمائية على تركيب الواقع والحلم يجعلها، بحسب كوكتو، قادرة على تشخيص حدود الواقع وحدود الحلم، والتداخل فيما بينهما. إن هذا “المابين”، حيث تنتمي الأشياء والكائنات، إلى نظام العالمين معًا؛ عالم الحياة وعالم الموت، هو ما يعتبره العقل “شيئا متنافرًا”. فالاشتغال على هذه الحافة، كموضوع، وبهذه الطريقة، وكل ما يستتبع ذلك من رهبة وتهيب، هو جوهر الشعر وجوهر السينما وجوهر الإبداع بشكل عام.

وإذا كان لابد من أن نخرج بخلاصة لهذه المحاولة، فيمكن أن نقول إن العلاقة بين الشعر والسينما مبنية على فعل وجود وتجاوز وخلق. فالشعر بالمفهوم الذي قدمناه، ينتشل الصورة من  تغريبتها الحدثية، ويحررها من وضوحها المرجعي، ويعطيها قوة ذلك الطائر “الألباطروس”، الذي يهوي الكون بجناحيه، فيخلق الريح التي تحرك السفن وترسم الأمواج. وما الأمواج إلا تشكيل بصري للريح. وما السينما إلا دفع باللغة وبالصورة إلى حدودها القصوى، لتتجاوز المنطق الخطي للغة وللحياة، لتفجر صلصال الزمن وتمظهر الواقع، لخلق الرؤية البلورية، حيث يتحول الزمن إلى ديمومة، وتتحول الذاكرة إلى خلود.

إن الرؤية الشعرية للسينما تزيل عن الواقع “واقعيته”. وإزالة “الواقعية” عن العالم معناها إزالة مظهره للعودة به إلى جوهره. إن المنطق الشعري البصري، يستثمر الطاقة الاستبصارية الكائنة في عمودية اللقطات والمشاهد، من أجل استدراج الرؤية الجمالية، التي تهدم وتمحو وتبني وتعوض بالنور والألوان والأحجام، هارمونيا العالم الممكن والمحتمل، حيث ينعدم التمييز بين الواقعي والتخييلي والحلمي، ليحقق الانفتاح على الجميل والسامي والمطلق. 

فاصل اعلاني