مقالات
أنا مارتن سكورسيزي وهذه هي الخبرة السينمائية الخاصة بي
29 July، 2022
أهلًا ومرحبًا بكم. أبدأ معكم هذا الفصل في مكان يُدعى “قاعة أليس تولي”، داخل مركز لينكولن، الواقع في ركن الشارع (65) مع تقاطع شارع برودواي في مانهاتن. هذا المكان يعني الكثير بالنسبة لي. مكان يتمتع بأهمية كبيرة، وذلك لأنه في خريف كل عام، كان يقام فيه مهرجان نيويورك السينمائي، ولقد اعتدت منذ سنواتي الباكرة، أن آتي إليه كل عام لمشاهدة الأفلام المعروضة من جميع أنحاء العالم.
تمكنت في بعض المناسبات من الدخول إلى قاعة عرض الأفلام الخاصة بالنقّاد والصحافة، ومشاهدة الأفلام قبل اختيارها، وعرضها في المهرجان، وذلك لأن بضعة أفلام قصيرة قد عُرضت لي ضمن مشاركات دورات المهرجان الأولى. رأينا حينها، أعمالًا جديدة من صانعي أفلام رائعين أمثال: المخرج الإسباني لويس بونويل. والفرنسيَيْن فرانسوا تروفو وجان لوك غودار. والياباني ناغيسا أوشيما. شاهدنا الكثير من أفلامهم الرائعة، وتأثرنا جميعًا بها، إضافة إلى الأفلام المشاركة من جميع أنحاء العالم في تلك الأيام.
الأمر الغريب، أنه وبينما كنّا نذهب لنشاهد تلك الأفلام ونستوعبها، كنّا نتلقى التعليم السينمائي بطريقة ما في الوقت ذاته. لم يحدث لنا العكس كالبقية، أي أن نتعلم أولًا ثم نشاهد. لم نكن نخطط لإجراء دراسة عن أي شيء. كنّا فقط مستغرقين في الاستمتاع بمشاهدة روائع الأفلام بافتتان وحماسة بالغة. وبعد تلك المشاهدات، جاءت فترة التعليم، وانخرطنا فيها بطريقة طبيعية.
وهذه هي الطريقة التي تمضي بها عندما يستحوذ عليك هوسٌ بشيء ما؛ أيْ عندما تذهب إلى المكان الذي تنجذب إليه من تلقاء ذاتك، المكان الذي يجب أن تذهب إليه بقناعة، على عكس المكان الذي تعتقد أنه قد يكون من الممتع الذهاب إليه، أو المكان حيث تعتقد أنك يجب أن تذهب.
لذا، ومن البداية، إذا كنتَ مفتونًا بصناعة الأفلام كمهنة، فإن هذا الفصل، لن يكون هو الفصل المناسب لك. ولكن إذا كنت بحاجة إلى صناعة أفلام أو فيلم، وإذا كنت تشعر أنه لا يمكنك الهدوء والراحة حتى تخبر تلك القصة بالذات، أن تحترق شغفا لترويها عبر الصور والأصوات المتحركة، فقد أتحدث إليك حينها. لأن هذا ما كنت عليه عندما بدأت مسيرتي في صناعة الأفلام، هذا ما كنت عليه، عندما صنعت أول أفلامي “شوارع وضيعة” وعرضته هنا، في هذا المسرح لأول مرة، لمشاهدي مهرجان نيويورك السينمائي عام 1973، ولعامة المشاهدين بعد ذلك.
لذا، فكل شيء مرتبط لديَّ بمناسبات وأحداث شخصية، ولذلك سأتحدث بطريقة شخصية، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنني التحدث بها معكم عن صناعة الأفلام.
لن أعطي مخططًا واضحًا. ولا حتى طرقًا مختصرة. لا توجد طرق مختصرة. سأقدم لك عوضًا عن ذلك، بعض النصائح العملية التي سألقيها عليك طوال طريقك معي هنا، ولكن الأمر الأهم، الأمر الذي يمكنني إيصاله إليك بوضوح، هو أنه يجب عليك دائمًا وأبدًا العثور على طريقك الخاص، والمضي فيه.
يمكنني أن أكون مصدرا للإلهام بالنسبة لك. يمكنك التعرف معي على مختلف أنواع الكاميرات، ومعدّات الصوت، وأدوات التحرير والمونتاج، لكن في النهاية، لن تكون سوى أنت. أنت فقط، وأسلوبك الخاص. وهذا هو ما يجب عليك حمايته والمناضلة من أجله. لانه سيكون أثمن ما لديك.
إذن، أنا مارتن سكورسيزي وهذه هي الخبرة السينمائية الخاصة بي.
بينما كنّا نذهب لنشاهد تلك الأفلام ونستوعبها، كنّا نتلقى التعليم السينمائي بطريقة ما في الوقت ذاته. لم يحدث لنا العكس كالبقية، أي أن نتعلم أولًا ثم نشاهد.
البدايات
لطالما سُئلتُ عن العلاقة الوطيدة بين رغبتي الجوهرية في الانضمام إلى العالم الكهنوتي، وعشقي للسينما. بمعنى آخر، الانتقال من مسار، هو تكريس ذاتك لنداء واحد، والانخراط فيه للأبد، نداء واحد –يسمى هكذا نداءً واحدًا، لأنه يأتي مرة واحدة فقط في حياتك- يدعوك للكهنوت. ونداء آخر، نداء يناديك، ويدعوك للالتزام بأسلوب حياة مختلف، وهو نداء صناعة الأفلام.
بالطبع، إنها مسألة شخصية بحتة، شخصية للغاية. لكني سأقول إنها كانت مسألة أن أكون صادقًا مع نفسي بأكبر قدر ممكن، مسألة إدراك أنه يجب عليك اتباع النداء الخاص بك، وأن تقوم بما دُعيتَ لأجله، بما طُلب منك القيام به، ومن خلالك وحدك.
الكنيسة والسينما، كلاهما كان منطقيًا بالنسبة لي. سأشرح لكم. كان هناك كاهن معيّن في حياتي، قديس كان له تأثير عظيم جدًا في تنئشتي وتربيتي من عمر الحادية عشرة إلى السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، لقد صنع لي ذلك الكاهن معنىً ما، وقناعة منطقية في حياتي. كان كاهنًا منطقيًا حقًا، وعلى صواب. كان منطقيًا في حديثه بشأن الأخلاق والفضائل العامة، وبشأن تفاصيل الحياة في العالم الخارجي بعيدًا عن الحي والكنيسة التي كنا نرتادها. وكان ذلك الشخص هو مَن أتوق لأن أكون مثله.
وبالطبع، من أجل أن تكون قديّسًا حقيقيًّا، لا بد أن تشعر بتلك الرغبة بقوة داخلك، ومن خلالك وحدك، وليس عبر شخص آخر.
يجب أن تكون أنت، لأن هناك التزامًا، وهو أنه لا يمكنك أن تنضمّ إلى الكهنوت، لمجرد أنك ترغب في أن تكون مثل شخص آخر. يجب أن تجسد ذاتك. يجب أن تأتي الرغبة منك وحدك دون تأثر بغيرك.
حدث حينها أنني وجدت هذا المعنى الذاتي، الذي بدأ يرشح مني على مهل، حتى انتهى عند رغبتي الصادقة في رواية القصص عبر الصور. لقد سعى هذا الكاهن تحديدًا، لتحقيق التوازن بين المنطق العام في هذا العالم، والحس الأخلاقي. ولكن في العالم الذي كنّا فيه، كان هناك ما يُدعى “باوري” وهو حي في الجزء الجنوبي من مدينة نيويورك في مانهاتن. مكان كان أقرب ما يكون إلى حضيض ذلك العالم، مكان كانوا ينعتونه في ذلك الوقت “القاع”، وهو المكان الذي نشأت فيه.
كانت الجريمة حاضرة بكل أنواعها، جنبًا إلى جنب مع شعب الطبقة العاملة، الذين كانوا يحاولون البقاء على قيد الحياة فحسب. كان هناك الصقليون الأكبر سنًا، والنابوليون، الذين هاجروا من إيطاليا إلى أمريكا، وكانوا لا يتحدثون الإنكليزية. كانت هناك الكثير من تفاصيل الحياة البائسة والمعقدة والمتشابكة، مما كان له التأثير الكبير في سير ذلك الحي، وفي سير حياتي الخاصة داخل ذلك الحي. كان ذلك التأثير متسلطًا ومهيبا للغاية بالنسبة لي.
لقد جاءتني الرغبة الحقيقية، رغبتي في أن أنقل تلك القصص للعالم من خلال السينما، بسبب ذلك الأثر. إضافة إلى الكثير مما اختبرته في الكنيسة بالطبع، على سبيل المثال: قوة التأثير البصري للكنيسة؛ و أشكال التماثيل المهيبة، سواء كانت التماثيل الجصيّة، أو التماثيل الأخرى الجميلة المُشكلة بواسطة أنواع كثيرة من فنون النحت، اللوحات التعبديّة، ومحطات الصليب أو مسيرة الصليب المليئة بالصور التي تصوّر عذابات وأحزان المسيح في يوم صلبه، والصلوات المصاحبة لها، مرأى الضوء في كاتدرائية القديس باتريك القديمة، ضوء النهار، وملاحظة كيف كان يعبر بشفافية إلى الداخل من خلال النوافذ الزجاجية الملونة، رنين وأجواء قاعة البازيليكا نفسها، طبيعة الطقوس والشعائر –كان ذلك قبل فترة المجمع الفاتيكاني الثاني (1962–65)– كل ذلك علّمني، وترك آثاره عليّ بالتأكيد، إلى أن حلّت مرحلة اقترابي من السينما، حين بدأت بصنع الأفلام.
لا وجود لعملية أو طريقة بخطوات محددة لصناعة الفيلم. وعندما يتحدث الناس إليك حول بعض الإجراءات المحددة، فحديثهم لن يختلف عن اتباع مناهج الكتب الدراسية.
أتذكّر اختباري لمفهوم الأخلاق، مفهوم الصواب والخطأ، والخير والشر، وكيف أن الإيمان؛ نعم كيف أن الإيمان عنصر رئيسي وجوهري لقيادة حياة يمكن أن تكون يومًا حياة أخلاقية. ثم، كيف يمكن أن يكون القَدَر شيئًا ينطوي على قَدْر كبير من الشك. وكيف أنه يوجد صراع ونضال مستميت من أجل الوصول إلى الإيمان والتحلي به.
إن ما أخبركم به الآن، عبارة عن بدايات مستعادة من ذلك الزمن، بدايات غُرست في داخلي في ذلك الزمن. إن موضوع وسؤال: كيف يعيش المرء؟ ليس جديدًا، إنه قصة قديمة جدًا، مثل قصة فيلم: “الشوارع الوضيعة”، وقصص عدد من الأفلام الأخرى.
مرحلة التعليم
عندما التحقت بجامعة نيويورك في أوائل الستينيات -عام 1960 على ما أعتقد– وبالتأكيد، لم تكن حينها أبدًا كالجامعة التي نعرفها اليوم، كانت صغيرة جدًا، ولم يكن قسم “مقدمة في السينما” يشبه أي قسم للأفلام في الحقيقة. كانت كلية “واشنطن سكوير” هي التي انضممتُ إليها.
كانت توجد هناك أقسام للأفلام، جنبًا إلى جنب مع أقسام الراديو والتلفاز، ولكن ما حدث، هو أن منهج “مقدمة في السينما” انقسم إلى قسمين يُدرَّسان في أول فصلين دراسيين، وكان يطلق عليهما: “تاريخ الصور المتحركة 1 و2”. كان هذا هو المنهج إلى جانب الكثير من الدورات الأخرى المطلوبة للسنتين الأوليين من المدرسة. كان معلمنا رجلا يدعى هييغ مانوجيان، أمريكي من أصل أرمني. فاجأنا بمجرد بدء محاضرته الأولى لنا، برتم حديثه الذي كان يطلقه علينا بسرعة كبيرة جدًا، كان تقريبًا اشبه بمدرب مجندين، هذا عدا خطواته الكثيرة التي غطى بها أرجاء القاعة بسرعة كبيرة. أتذكر جلوسي هناك، منشغلًا بتدوين الملاحظات تلو الملاحظات التي لم تكن تنتهي أو تصل إلى نقطة محددة. كان أيضًا، يعرض لنا الأفلام، ولكنه كان يبدأ بطرد الطلاب على الفور بمجرد تفكيره بامكانية أن يحضر أحدهم لمجرد التمتع بالمشاهدة وإضاعة الوقت فحسب. ولذلك، كان الكثير من الطلاب يُطردون.
في سنتنا الدراسية الثانية التحقنا بدورة إنتاج تمهيديّة. كانت لدينا كاميرات من نوع (16 ملم)، وكانت تُسمى كاميرا “صوت وصورة”. تعلمنا الأساسيات الضرورية، مثل: أساسيات ومبادئ صناعة الأفلام، والمكونات الأساسية للعدسات، قمنا بتمارين عملية محدودة، ثم بدأنا التصوير باستخدام لفة فيلم أسود وأبيض مقاس (16 مم). وبحلول نهاية الفصل الأخير، من العام الثاني، أعتقد أنه كان بمقدورنا إنتاج فيلم بحجم ثلاث إلى أربع دقائق بناءً على ما تعلمناه حتى تلك اللحظة عن معدات التصوير والإضاءة. وفي تلك الحصص بالذات، الخاصة بصناعة الأفلام، ازداد عدد المطرودين من الطلاب. هذا ما ركز عليه “هييغ” بشدة، أن تُطرد لمجرد عدم جديّتك.
ولكن أكثر ما كان يركز عليه في النهاية -كان متأثرًا بشدة بأفلام الواقعية الإيطالية، وتيار الموجة الجديدة– هو صناعة أفلام الصوت الفردي، والقصص الفردية، التي أَشعَرَنا بأننا مُجبرون على روايتها عبر الصور. ولم يكن يسمح لأي طالب بإخراج فيلم ما، حتى يتأكد أنه كتب السيناريو بنفسه. إن لم تكتب فيلمك بنفسك، فتأكد أنك ستكون مستبعدًا من الصف.
أتذكر أن أحد الطلاب قال له مرة: “أريد أن أُخرج فيلمًا”. فقال له: “حسنًا”، ثم سأله: “أين السيناريو؟”. فرد عليه الطالب: “حسنًا، أنا بحاجة لسيناريو لأخرج الفيلم، أنا مخرج”.
فرد عليه هييغ: “طلبك مرفوض. أذهب لكتابة سيناريو الفيلم الذي تريد إخراجه بنفسك. وعدا ذلك لن يمكنك الإخراج”. كانت تلك طريقته. واصبحنا في ما يشبه المأزق داخل الصف.
ولكم كان يمقت الميلودراما وسينما الأحداث المثيرة المبالغ فيها. قال لنا محذرًا: “لا أريد لأيٍّ منكم، أن يفكر في تصوير لقطة تتضمن شخصًا يحمل مسدسًا”. كان يشجع الجميع على التعبير عن أنفسهم بأسلوبهم الخاص، على المحافظة على الحماسة الشخصية بداخلهم وحمايتها، وعدم التأثر بالأنواع الأخرى من الأفلام. كان يقول إن من يريد ذلك النوع من المشاهد -يقصد الأحداث المثيرة- فليذهب إلى التلفاز حيث المسلسلات، أو لينتقل إلى مكان آخر مثل لوس أنجلوس مثلًا، التي كان الوضع فيها مختلفًا.
كانت مسألة التصوير بعيدًا عن الواقع عصيبة بعض الشيء بالنسبة لي، وذلك لأنني نشأت في بيئة كان الناس فيها أحيانا يحصلون على الأسلحة بسهولة، كان ذلك جزءًا حقيقيًا من الحياة التي عشتها أو هو حقيقة الحياة برّمتها في بعض الأحيان.
لذا، ومن هذا المعنى، فإن الميلودراما -ذات الأحداث المثيرة والمأساوية- قد تكون لدى البعض مجرد دراما إلى حد ما. لقد أدى فهمي للأمر بهذة الطريقة إلى أن انتهي بصنع فيلم “شوارع وضيعة” وبقية الأفلام الأخرى.
اكتشاف العملية السينمائية
لا أعتقد أن هناك ما يمكن اعتباره عملية واضحة الخطوات يمكنها السيطرة على جميع تفاصيل وأسس الصناعة السينمائية. ما أعنيه، هو نعم، هناك عملية ما بالطبع لتسيير الفيلم. فلكي تبدأ بالتصوير، لابد من أن تحدد أين سيكون موضع الكاميرا، مثبتة على جهاز متحرك مثلًا، أو محمولة على كتفك. هنا يمكنك أن تختار ما تريد فعله. لكن ما أريد إيصاله، هو أن هناك بعض المسلمات الأساسية التي يجب القيام بها، والتي تكون بمثابة مهام لوجستية أكثر من كونها أيَّ شيء آخر. مثل معرفة أنواع المعدات، وكيفية أستخدامها، وما يمكن أن تفعله تلك المعدات، وماهي الأداة المحددة التي يجب استخدامها.
لكن العملية الطبيعية والحقيقية الخاصة بك، يمكن أن تُمارس بطرق عديدة ليس بالضرورة أن تكون مفهومة أو أن تكون قادرًا على الاختيار فيها؛ فكما تعلمون، هناك الكثير من الفنانين الذين يعملون كيفما اتفق معهم الأمر. وهناك الكثير من الفنانين الذين يكتبون، ويواصلون الكتابة، أثناء مضيّهم في انتاج العمل. لقد رأيت نص فيلم “رحلة إلى إيطاليا” (1954) للمخرج الإيطالي روبيرتو روسيليني، مؤطرًا على حائط شقة في روما. كان النص، عبارة عن صفحة واحدة فقط، صفحة واحدة، تحتوي على فقرة واحدة. بالتأكيد، لا أقول إن على الجميع فعل ما فعله روسيليني.
سأعطيكم مثلًا آخر. لقد كنت برفقة مجموعة فيللّيني عدة مرات أثناء تصويره لأفلامه، وكان سير العملية السينمائية طبيعيًا معه، ولكن في عام (1980) أثناء تصويره لفيلم “مدينة النساء” كانت لديه خمس مجموعات مختلفة في الموقع نفسه. كان المكان ضاجًا بالأشخاص الذين كانوا يتحدثون ويصرخون باستمرار، في حين كان هو يركض حولهم، يركض بينما هم يضحكون تارةً، ويتجادلون تارة أخرى. في تلك الأثناء الصاخبة بالتحديد كان فيلليني يصوّر. كان يصوّر فيلمه.
ما زلت أتذكر وجوه من حوله وهم يصرخون متسائلين: “ما الذي يحدث؟”. ما كان يحدث، هو أنه كان يصوّر فيلمه ببساطة. ويصوّره بطريقة مختلفة تمامًا عن المتعارف عليه. لقد كانت طريقة فريدة حقّا. وبالطبع في إيطاليا، لم يكونوا يستخدمون تقنية مزامنة الصوت أثناء التصوير، كما تعلمون.
وهكذا، فقد كان كل ممثل معتادًا على التحدث بصوت عالٍ. ثم، وبينما كان التصوير مستمرًا -كنّا ضيوفًا في المجموعة- كان فيلليني يقترب منا، ويتحدث معنا للحظات، ثم يعود إلى متابعة لقطاته. لذا، كانت طريقته في العمل غير اعتيادية، ومعالجته الإخراجية لا مثيل لها.
هناك صانعو أفلام لديهم المحرّر الذي يثقون به، يعرف أسلوبهم، ويعرف طبيعة رؤيتهم كمخرجين، محرّر اكتسب الثقة بسبب تعامله معهم لفترة طويلة، حتى أصبح قادرًا على التحرير أثناء التصوير، تحرير اللقطات والصور في اللحظة ذاتها التي يصورونها فيها. يمكن تجميع الفيلم بعد أسبوعين من انتهاء التصوير. وبالنسبة لي، كما تعلمون، فأنا أفضّل الانتظار حتى أنتهي من التصوير ثم أبدأ العمل المستقل مع محررّي.
ما أريد إيصاله لكم من جديد، هو أنه لا وجود لعملية أو طريقة بخطوات محددة لصناعة الفيلم. وعندما يتحدث الناس إليك حول بعض الإجراءات المحددة، فحديثهم لن يختلف عن اتباع مناهج الكتب الدراسية. لن تمنحك تلك المناهج سوى بعض الحقائق الأساسية، وبعض الأساليب حول كيفية إدارة الخدمات اللوجستية. مجرد بيانات ومعلومات، هذا ما ستحصل عليه.
ولكن سواء كانت طريقة عملك جيدة أو سيئة، فأنها ستظل فنًا. وفي ما يتعلق بجودة طريقتك في العمل، فأنا لا أعرف شيئا بشأن ذلك، فهذا الأمر يعتمد على الفنان المعني بصناعته. الفنان الذي لا يعرف سوى أنه أحس بأنه يجب عليه القيام بتلك الطريقة فحسب. وفقط عند القيام بذلك، ستكون قادرًا على إطلاق الأحكام بشأن عملك. إذ لن تعرف قيمة شيء ما، حتى تقوم به، أي أثناء القيام به، وأثناء إصدارك للأحكام عليه بينما تعمل عليه. وبخصوص سؤال: هل كانت جودة حكمك على عملك حينها صائبة أم لا، وما إذا كانت جودة الحكم حينها أمرًا قد يعيش ليؤثر في المشاهدين بعد خمسين عامًا من انجازك للأمر، فلا أحد يعرف ذلك. من يعرف؟
هل يمكنك معرفة ذلك؟ هل تشعر بالرضا والارتياح حيال ما صنعته؟ عادةً ما يشعر الفنانون بالسوء تجاه ما صنعوه، بينما يكون ما صنعوه جيدًا ومقدّرًا من الجمهور. ولذلك، فلا وجود في الحقيقة، لطريقة محددة للصناعة السينمائية. سيكون من الجيد التحدث إلى مدير الأزياء قبل التصوير.
أعني أنه من المنطقي والمُسلّم به أن تقوم بتلك المهام. سيكون التحضير والاستعداد من الأمور المهمة، خاصة بالنسبة للسينما السردية. هذه بعض الأمور المهمة. عليك التحدث إلى مدير التصوير الخاص بك مثلًا، ومعرفة آرائه وقراراته الفنية والتقنية المتعلقة بالصورة، وإلقاء نظرة على مواقع التصوير.
ولكن في النهاية، يظل كل ذلك، لا علاقة له بالطريقة الخاصة التي تعمل بها.
قيامك بمشاهدة فيلم ما، ودراسته في اللحظة نفسها بينما تشاهده لأول مرة هو أمر غير مجدٍ. عليك أن تعرف أولًا، هل سيترك الفيلم تأثيرًا عليك أم لا.
إيصال تأثيرك
أجد دائمًا أن قيامك بمشاهدة فيلم ما، ودراسته في اللحظة نفسها بينما تشاهده لأول مرة هو أمر غير مجدٍ. عليك أن تعرف أولًا، هل سيترك الفيلم تأثيرًا عليك أم لا. فإن أثَّرَت بك بعض التفاصيل المعينة في الفيلم، ولازمتك تلك التفاصيل بعد انتهائك من أول مشاهدة، ثم عدت مرةً أخرى لمشاهدته، وبدأت تحاول معرفة -بينما تشاهد- ما إذا كنت قد تخيّلت تسلسلًا للقطات أو مشهدًا أو اثنين تم تحريرهما في ذاكرتك بطريقة معينة، حتى تنتهي بنتيجة أن الكاميرا في الفيلم الذي تشاهده للمرة الثانية لم تكن بمثل ذلك القرب الذي رأيته في البداية. ولكنها كانت بهذا القرب في ذاكرتك عندما استعدت ما أثر فيك من مشاهدتك الأولى له.
هذا مثير للاهتمام. لمَ؟ حسنًا، ربما كان ذلك بسبب استخدام المؤثرات الصوتية، أو طريقة تقطيع اللقطات، أو كان بسبب تحركات الكاميرا التي بدت لك غير مُدرَكة في بداية الأمر. لذا، فما حدث كان أشبه بعمل الذاكرة الصورية المليئة بالصور وتقنيات المونتاج وتسلسل المشاهد واللقطات في الفيلم. ولذلك، فأنا أشدد على هذه المسألة.
لا تنسَ بأنه كان من المحال رؤية تلك التفاصيل، إلّا في حالة عرضها على التلفاز مجددًا واكتشفتَها بالصدفة، أو كانت تُعرَض في مسرح ما وصادف أنك كنت هناك. لهذا فعليك تكرار ما رأيتَه بناءً على ما رسخ في ذاكرتك أولًا، سواء كان ما رأيته، شارة القائد على الأرض الطينية بقرب حذاء غاري كوبر في نهاية فيلم “هاي نون”، أو جزءًا من سباق عربات الأحصنة في فيلم “بين-هور”، ثم اذهب لمشاهدة الفيلم من جديد.
يمكنك القيام برسومات صغيرة أيضًا. اعتدت أن أحاول رسم نسختي الخاصة من تلك المشاهد من الذاكرة. فأنا أتذكر مشاهدتي لفيلم “ذا سمول باك روم” (1949) للمخرج بول بريسبيرجر على التلفاز في ظهيرة أحد الأيام، وأظن أن ذلك كان في أوائل أو منتصف الخمسينات. وأتذكر الجو العام للفيلم؛ كان فيلمًا غريبًا للغاية. أتذكر بوضوح تام تسلسل اللقطات الافتتاحية، وعلى وجه الخصوص، كانت هناك لقطة لإشارة مرور يتغير ضوؤها من اللون الأحمر إلى الأخضر. بالطبع، كان الفيلم معروضًا بالأبيض والأسود، ولكنك بالرغم من ذلك، تستطيع الشعور بذلك الانطباع. تستطيع أن ترى ركن إشارة المرور، وتشعر بهطول المطر داخل إطار اللقطة من حولها. كان هناك شيء مميز حول تلك اللقطة، شيء ما منحها الخلود وقوة التأثير. مع العلم أنني شاهدتها لمرة واحدة فحسب، وكانت رؤيتي لها عبر عدسة الكاميرا الموضوعة خلف الزجاج الأمامي بينما كانت السيارة تمضي في اللقطة. كان السائق هو مايكل جوف، على ما أعتقد. وعبر الزجاج الأمامي، تراءت مدينة لندن خلال فترة الحرب في اللقطة الثانية. كان المشهد مظلمًا بالكامل خارج السيارة، في حين كانت مسّاحات الزجاج الأمامي تحاول محو قطرات الأمطار الغزيرة، وأنت تنظر عبرها.
أصبحت هاتان اللقطتان محوريتين في فيلمي “سائق التاكسي” الصادر عام 1976. هناك لقطة أخرى موجودة في فيلم “سائق التاكسي” أيضًا، وهي اللقطة التي يذهب فيها ترافيس بيكل (روبيرت دي نيرو) لشراء الأسلحة -وهذا اقتباس مباشر على سبيل المثال- من “إيزي ساندي” في غرفة الفندق، فيلتقط أحد الأسلحة، ويتحرك نحو النافذة، ثم يصوّب فوّهة مسدسه نحو سيدتين أو ثلاثًا في الخارج، كنّ يحملن المظلات، على ما أعتقد.
كل ذلك كان مرسومًا لدي. وهناك لقطة لطالما أحببتها في فيلم “نورثويست باسيج” الصادر عام 1940 للمخرج كينج فيدور، وهي اللقطة التي يشنُّ فيها الأمريكيون الأصليون الهجوم ضد القلعة. تستمر اللقطة المهاجمة، حتى تأتي اللحظة التي يظهر فيها رجل يحمل بندقية، وتنتهي اللقطة فجأة.
بسبب إمكانيات التقنية المذهلة، أصبح الجميع يتحدثون أن بمقدور أي شخص أن يصنع الأفلام. هذا صحيح. ولكن ما يجب أن تتذكر، أن التقنية تظل مجرد أداة، ولذلك، فلا بد من المرور عبر تلك التجربة غير المحددة. وعندها فقط، سوف تكون مثلنا.
الإخراج والتقنية
تمكنت من الحصول على كاميرا (8 مم) في لحظة ما من حياتي، كانت تلك الكامير تعود لأحد اصدقائي. ثم بدأت بتصوير فيلم قصير على أسطح منازل الحي الشرقي السفلي في عام 1962 تقريبًا. كان فيلمًا ساذجًا، ولكنه كان البداية.
كانت تراودني فكرة صناعة فيلم، فيلم روائي. كنت على وعي ودراية بكل ما كان يدور حولي من حماسة فنية، وربما كان ذلك أيضًا بسبب حماس صناعة السينما الأمريكية المستقلة آنذاك، وأفلام الريادة الأمريكية، والريادة الأوروبية. كل تلك التيارات كانت تتطور، وكانت هناك فكرة أن السينما بمقدورها أن تكون أي شيء. كان يمكن لأي شيء تستطيع تصويره أن يكون سينما. كل ذلك غذى الرغبة لدي في صناعة فيلم روائي. كنت أريد حقًا البدء بصنع فيلمي الروائي الخاص.
وعندما شاهدت فيلم “شادوز” لجون كاسافيتز، أعتقد أنه كان في عام 1959 أو 1960، وأدركت أنه إن كنت تملك الرغبة في رواية قصة ما بالمقدار ذاته الذي امتلكه كاسافيتز، وكنت قادرًا على التحرر من طريقة عمل الأستوديو، أي طريقة صناعة الأفلام بمساعدة طاقم هائل، وبالاستعانة بمعدات ثقيلة للغاية، فسوف تفعلها. إذن، ما أعاد لي رغبتي في النهاية، هو أنه كانت هناك معدات خفيفة للغاية يمكن بها صناعة الأفلام. وهذا ما مكّن صانعي أفلام مثل: كاسافيتز وشيرلي كلارك وغيرهما، من التصوير بحرية وفي أي مكان شاؤوا، تمامًا كما لو قمتَ اليوم بالتصوير باستخدام هاتف آيفون.
وباعتمادهم تلك الطريقة، أصبحت أفلامهم، تجسد المعنى الحقيقي للأفلام المستقلة.
عليك أن تدرك الآن، أنه لم يعد هناك وجود للأعذار أمامك. فإن تمكنوا هم من صناعة فيلم بهذه الطريقة في نيويورك، وبكاميرا 16مم، ودون حامل ثلاثي، وبتلك الإضاءة الخفيفة للغاية، فماذا عنك اليوم؟
يمكنك التعرف معي على مختلف أنواع الكاميرات، ومعدّات الصوت، وأدوات التحرير والمونتاج، لكن في النهاية، لن تكون سوى أنت. أنت فقط، وأسلوبك الخاص. وهذا هو ما يجب عليك حمايته والمناضلة من أجله. لانه سيكون أثمن ما لديك.
لم يعد لديك عذر. أنت قادر على القيام بذلك. التقنية الوحيدة التي ستكون بحاجتها، التقنية الأكثر أهمية، هي حماسك، ورغبتك، وشغفك لنقل قصة ما عبر الصور.
كانت هناك أبعاد متعددة، وأنواع مختلفة من الأفلام التي ألهمتني. كان عمل كاسافيتز يتركز داخل المشاهد ومع الناس، مع الممثلين وغير الممثلين، لقد منح فيلمه إحساسًا بالأصالة والحياة التي تشعر بأنها ستستمر في العيش والوجود خارج الشاشة. هكذا، كما لو أن الشاشة لن تستطيع احتواء حيوية الفيلم بالكامل. كانت موهبته تكمن في استكشاف تفاصيل الحياة ودفعها إلى أقصى الحدود، حتى تتعدى نطاق الفيلم والشاشة.
بالنسبة لي ما زلت أحاول الحفاظ على سرد محدد وخط قصصي معين، ثم أنظر بعد ذلك، إن كان بمقدوري دمج كل ذلك معًا. لم تكن تلك الطريقة مقصودة أو متعمدة، ولكن هذا ما انتهى إليه الأمر.
بسبب إمكانيات التقنية المذهلة من حولنا اليوم، أصبح الجميع يتحدثون عن حقيقة أن بمقدور أي شخص أن يصنع الأفلام. هذا صحيح. إنها الحقيقة. يمكن لأي شخص التعبير عن نفسه من خلال الصور المرئية. ولكن ما يجب أن تتذكره، الأمر الأهم، هو أن التقنية تظل مجرد أداة، مثلها مثل بقية الأدوات، التي تنطبق عليها المبادئ ذاتها، وهي ضرورة وجود الرغبة في رواية القصص عبر السينما، ولذلك، فلا بد من المرور عبر تلك التجربة غير المحددة. وعندها فقط، سوف تكون مثلنا.