ألفريد هيتشكوك بداية كمأساة وأخرى كمهزلة
13 August، 2024
محمد كرم
ماثَل المفكر السلوفيني “سلافوي جيجك” في كتاب “كيف نقرأ لاكان” بين مهمة اللاهوت المسيحي البروتستانتي ومهمة المفتش كولومبو، في المسلسل الأمريكي الشهير “كولومبو”؛ حيث يكون الجاني معروفًا منذ بداية الحلقة. الترتيب الطبيعي للّغز يتمثل في جريمة يحاول المشاهد مع المحقق حلها للتوصل لمعرفة الجاني في النهاية، لكن مسلسل “كولومبو” عَكَس هذا الترتيب؛ إذ لا تكون مهمة المفتش هي الإجابة عن سؤال “من الجاني؟” بل يكمن التحدي في الطرق التي سيدفع بها الجاني للاعتراف بذنبه. وكذلك يتمثل الترتيب المنطقي لمسألة الإيمان بالله الإتيان بدلائل أولًا تثبت وجود الإله ثم الإيمان به؛ لكن اللاهوت المسيحي البروتستانتي عَكس هذا الترتيب؛ فعلى المتدينين الإيمان بالله أولًا ثم- على أساس هذا الإيمان- يصبح المؤمن مستعدًّا لتلقي الأدلة التي تدعم إيمانه. بالمثل نرى هذا العكس للترتيب الطبيعي للجريمة في أفلام المخرج الإنجليزي “ألفريد هيتشكوك”؛ إذ لا يتناول الجريمة في أفلامه بأسلوب “اللغز” الذي استخدمته الكاتبة الإنجليزية “أجاثا كريستي” في رواياتها، حيث ينكشف الجاني غير المتوقَّع في الصفحات الأخيرة للرواية؛ لكنه تناول الجريمة بمنطق “التشويق” الذي يعتمد على إعطاء أكبر قدر من المعلومات للمتلقي؛ فينكشف الجاني للمشاهِد في المشاهَد الأولى من الفيلم، ويخوض مع البطل رحلة يشاركه فيها مشاعره وردود أفعاله على الظلم الواقع عليه، ويتتبع بفضول خط سير الجاني.
محتوى الفيلم
على الرغم من تصريح “هيتشكوك” بأنه لا يهمه محتوى الفيلم، وأن ما يهمه هو كيفية معالجة المادة للتأثير في الجمهور؛ فإننا نجد تلك الكيفية غير منفصلة عن المحتوى، كما أن الشكل غير منفصل عن المضمون، فأفلام “هيتشكوك” تحتوي على رؤيته للعالم التي تتحكم في اختياره للمادة وتنسرب- ربما رغمًا عنه- إلى طريقة معالجته لها، حيث تتكرر في أفلامه عناصر بعينها تترابط بنيويًّا، مثل: العلاقة الأوديبية بين الابن والأم التي تولد جرائم يرتكبها الابن، وتكشف طبيعة بشرية شريرة تفرز رؤية متشائمة لمصير الإنسان والعالم، مرتكزة على القدر والتكرار. نجد تلك الرؤية منعكسة في الأسلوب السينمائي لـ “هيتشكوك”؛ وعلى هذا الأساس نرى ملحوظته بأن “قوة الفيلم تتناسب طرديًا مع قوة الشرير” لا تقتصر على الأسلوب فحسب؛ بل تمتد أيضًا لرؤيته للإنسان باعتباره كائنًا شريرًا؛ تلك الرؤية التي نلمسها في استخدامه للكاميرا، حيث يضع المشاهدين في موضع الشرير، ويجعلهم ينظرون بعينيه؛ ففي فيلم “الطيور” ننظر إلى الأرض من السماء، من موقع الطيور التي قررت فجأة الهجوم على الإنسان، وفي فيلم “المسحور” ننظر من موقع الطبيب القاتل وهو يوجه سلاحه للطبيبة التي تكتشف جريمته، وعندما يقرر الانتحار بعد انكشاف أمره لا تتحرك الكاميرا؛ فنرى يده تعكس السلاح إلى رأسه / الشاشة، ثم يطلق رصاصة على نفسه / المشاهدين.
أفلام “هيتشكوك” تحتوي على رؤيته للعالم التي تتحكم في اختياره للمادة، وتنسرب إلى طريقة معالجته لها، مرتكزة على القدر والتكرار.
الجريمة بشكل تشويقي
تبدو التقنية الأبرز لألفريد هيتشكوك، وهي تناول الجريمة بشكل تشويقي، يكشف الجاني في بداية الفيلم للتأثير في انفعالات المشاهدين، غير منفصلة عن رؤيته اللاهوتية. ففي فيلم “إني أعترف” 1953نرى القاتل يذهب لكاهن الاعتراف “لوجان” الذي قام بدوره الممثل “مونتجمري كليفت”، لكي يعترف بارتكابه جريمة قتل بدافع السرقة. يتناسى “لوجان” هذا الاعتراف ويضمره، بعدما يوصي القاتل بإعادة الأموال مكانها. لكن المفارقة أنَّ الكاهن “لوجان” نفسه سيصبح هو المتهم بجريمة القتل، والأكثر من هذا أنَّ هناك أسبابًا منطقية ودوافع قوية تقنع المحكمة بأن “لوجان” هو القاتل، لكنه رغم ذلك لن يفصح عن القاتل الحقيقي، ملتزمًا بالتقاليد الكنسية؛ فمن غير المسموح للكاهن أن يكشف ذنوب المعترفين مهما كانت وتحت أي ظرف. يعبر هذا الفيلم عن قمة الإيمان الديني الجبري بالقدر؛ فلو لم يكن “لوجان” مؤمنًا ما كان ليصمت عن القاتل؛ حتى لو كان الثمن هو اتهامه ظلمًا بجريمة قتل جزاؤها الإعدام. فلو كان مكتوبًا في القدر أن موته سيكون بسبب الإعدام؛ لن يجدي إفصاحه للمحكمة بالحقيقة. وجزاء التزام “لوجان” الإيماني الصارم هو إثبات براءته أمام الجميع، بعدما تبلغ زوجة القاتل الشرطة بالحقيقة، ويؤكد زوجها التهمة على نفسه بقتله لها أثناء اعترافها. القاتل في بداية فيلم “إني أعترف” معروف مسبقًا لدى الكاهن الذي يعلم أيضًا أن القدر محدَّد مسبقًا؛ لذلك لم يكن موقفه إيجابيًّا، إذ لم يلجأ للكلام لكي يفصح عن القاتل الحقيقي، لكن موقفه كان سلبيًّا؛ إذ لاذ بالصمت التزامًا بالعرف الكنسي، وتفويضًا للقدر لكي يكشف عن القاتل ويثبت براءته.
في الفرق بين “اللغز” و”التشويق” قال “هيتشكوك” في حديث تليفزيوني “إنَّ اللغز موجَّه إلى العقل، أما التشويق فهو موجَّه إلى المشاعر”؛ فمشاركة المشاهدين للمحقق التي تستهدف الكشف عن الجاني في الأفلام البوليسية هي مشاركة عقلية قائمة على الفعل، أما مشاركة المشاهدين للبطل بعد معرفة الجاني فهي مشاركة شعورية قائمة على الانفعال، فاللغز يعتمد على الفعل، والتشويق يعتمد على الانفعال. اللغز عقلاني والتشويق ديني. تتكشف الرؤية الدينية القدرية لألفريد هيتشكوك في هذا المقطع من فيلم “معضلة هاري”، حيث يظنُّ الكابتن “وايلز” (إدموند جوين) أنه قتل شخصًا يُدعى “هاري” بالخطأ أثناء صيده للأرانب، يرى الجثة رسام يُدعى “سام” (جون فورسيذي)، ويعترف له الكابتن “وايلز” أنه قتله بالخطأ؛ فيقول “سام”: “ربما هي إرادة الرب، لا بدَّ أن تكون ممتنًا لأنك قمت بدورك بإنجاز قدر كائن آخر؛ افترض – على سبيل المثال – أنه كان مكتوبًا في كتاب القدر أن هذا الرجل سيموت في هذا الوقت وهذا المكان بالتحديد، وافترض للحظة أن السبب الحقيقي لعملية رحيله قد تعطل لخطأ ما؛ ربما كان السبب المـُقدَّر هو صاعقة رعدية، وقل إن الرعد لم يكن موجودًا حينها، ثم أتيت أنت وأطلقت النار عليه، وإرادة الرب تمت وتحقق القدر. ضميرك نقي تمامًا، وليس لديك ما تقلق حياله”.
يبدو أن تقنية ألفريد هيتشكوك في تناول الجريمة، بالكشف عن الجاني في بداية الفيلم، غير منفصلة عن رؤيته اللاهوتية.
بين المأساة والمهزلة
يرتبط القدر بالتكرار في أفلام هيتشكوك ارتباطًا وثيقًا، فأحيانًا يكون التكرار على هامش القدر؛ فيشاهد البطل أثناء مسيرته أمورًا تتكرر فقط، وأحيانًا يكون قدر الإنسان هو التكرار؛ فتكون مسيرة الأبطال تكرارية.
في فيلمي “المسحور”.. 1945، و”غريبان في قطار” 1951، كان التكرار هامشًا لمتن القدر؛ إذ واجهه الأبطال أثناء مسيرتهم في ثوان معدودة أكبر قليلًا من المشاهد الخاطفة التي ظهر فيها هيتشكوك في أفلامه. ففي مشهد من فيلم “المسحور” يُقبّل “جريجوري بيك” “إنجريد بيرجمان” أمام عامل قطع التذاكر، في محطة قطارات يُقبّل فيها رجال حبيباتهم قبلة وداع قبل ركوب القطار، لكن “إنجريد” و”جريجوري” يركبان القطار معًا؛ فيتعجَّب العامل، وفي نهاية الفيلم يتكرر المشهد نفسه بشكل هزلي، فيتعجَّب العامل من ركوبهما معًا، ومن تكرار المشهد في الوقت نفسه.
وفي بداية فيلم “غريبان في قطار” تصطدم قدم “جاي هاينز” لاعب التنس الشهير بقدم “برونو أنطوني” دون قصد فيعتذر له؛ لتكون تلك شرارة الأحداث؛ إذ يتعرف “برونو” على وجه “جاي” ويخبره بإعجابه به، وبأنه يتابع أخباره في الصحف، ويعرف أنه في ورطة؛ فهو يريد تطليق زوجته “ميريام” بعدما اكتشف خيانتها لكي يتزوج حبيبته “آن مورتون”، لكن “ميريام” تعرقل إجراءات الطلاق. ولأن “برونو” يكره أباه ويريد قتله؛ يعرض على “جاي” صفقة تبادلية تتحقق فيها الجريمة الكاملة: يقتل له “ميريام” ليحرره منها مقابل أن يقتل “جاي” والده، يرفض “جاي” ويغادر العربة وينسى ولاعته المنقوش عليها أول حرف من اسمه واسم حبيبته “آن”؛ فيدسها “برونو” في جيبه. يقتل برونو ميريام دون أن يترك الولاعة في مسرح الجريمة، ويخبر جاي أنه خلصه من “ميريام” مطالبًا له بقتل والده في المقابل، فيرفض جاي. يقرر “برونو” أن يعود لمسرح الجريمة ليترك الولاعة؛ كي يضغط على “جاي” ليقتل والده، يعرف “جاي” ويسرع لمسرح الجريمة لكي يمنع “برونو” من ترك الولاعة هناك، وفي طريقه لمسرح الجريمة ركب قطارًا شاهد فيه شرارة معرفته بـ “برونو” تتكرر أمامه؛ إذ رأى غريبين تصطدم قدم أحدهما بالآخر فيعتذر له ويبدأ معه حديثًا كما حدث بينه وبين “برونو”. يلحق “جاي” بـ “برونو” بمعاونة الشرطة قبل أن يترك الولاعة، وتُحل المشكلة بموت “برونو” ويتزوج “جاي” و”آن”. يظهر التكرار مرة أخرى في المشهد الأخير لكن بشكل هزلي، إذ يركب “جاي” القطار مع “آن”، ويرى غريبًا يتعرف عليه كما تعرف عليه “برونو” في المشهد الأول؛ فلا يرد عليه ويغادر العربة مصطحبًا “آن”. وكأننا هنا نشاهد مقولة الفيلسوف الإنجليزي “ديفيد هيوم”: “لا يغير التكرار شيئًا في موضوعه؛ لكنه يغير شيئًا في الروح التي تتأمله”.
وفي فيلم “الدوار” 1958 كان قدر الإنسان هو التكرار، فرغم أن هناك قصة زائفة ادعت فيها البطلة “كيم نوفاك” أن القدر يقودها لتكرر مصير والدة جدتها التي انتحرت بإلقاء نفسها من أعلى برج كاتدرائية؛ نجد الزيف يتحول إلى حقيقة، وتموت البطلة بالطريقة نفسها. يظهر التكرار في فيلم “الدوار” كمأساة انتقلت من الزيف إلى الحقيقة.
وفي فيلم “معضلة هاري” 1955 يظهر التكرار كملهاة؛ حيث يغلب عليه طابع الكوميديا السوداء الإنجليزية الباردة، التي تتخذ من عناصر مأساوية في الحياة، كالموت والقدر، مادة للضحك. تظهر جثة رجل في أول الفيلم يتورط جميع الأبطال فيها؛ يظن البعض أنهم تسببوا في مقتله بالخطأ، والبعض الآخر يتورط بالتستر على من يظنون أنهم قتلوا “هاري”، يتكرر دفن الجثة وإخراجها بشكل هزلي على مدار يوم كامل، هو زمن أحداث الفيلم، ثم يضطر الأبطال في النهاية لإعادة الجثة في المكان الأول الذي وجدوها فيه، ويزيلون آثار تكرار دفن الجثة وإخراجها بغسل ملابس هاري لتعود كحالتها الأولى، وتُحَل المعضلة عن طريق طفل يدعى “آرني”، يدفعه الأبطال لرؤية الجثة بعدما يعيدونها لمكانها الأول، هذا الطفل له رؤية مغايرة للزمن؛ فهو يرى أن الأمس هو الغد، فإذا سأله شرطي في اليوم التالي: متى رأيت الجثة؟ لن يقول رأيتها بالأمس، بل سيقول رأيتها في الغد، وبذلك ينفي التكرار- الذي يجعل الأمس هو الغد بشكل هزلي- الشبهةَ عن أبطال الفيلم.
يرتبط القدر بالتكرار في أفلام هيتشكوك، فأحيانًا يكون التكرار على هامش القدر؛ وأحيانًا يكون قدر الإنسان هو التكرار؛ فتكون مسيرة الأبطال تكرارية.
على خلاف الترتيب
رأى الفيلسوف الألماني “كارل ماركس” في كتاب “الثامن عشر من بروميير (لويس بونابرت) أنه لو تكرر حدث مرتين في التاريخ سيحدث ذلك في المرة الأولى كمأساة وفي المرة الثانية كمهزلة، وعلى خلاف ترتيب ماركس للتكرار؛ تناول “هيتشكوك” التكرار – كعنصر أساس في أفلامه – في المرة الأولى بشكل هزلي في فيلم “معضلة هاري” 1955، وفي المرة الثانية بشكل مأساوي في فيلم “الدوار” 1958. وإذا سايرنا منطق الطفل “آرني” في فيلم “معضلة هاري”، على اعتبار أن الغد هو الأمس؛ سيغدو التكرار عند “هيتشكوك” بوصفه مأساة في فيلم “الدوار”، سابقًا على التكرار بوصفه مهزلة في فيلم “معضلة هاري”، على خلاف الترتيب الزمني الطبيعي. وستتفق رؤية “هيتشكوك” للتكرار مع رؤية “ماركس”!
على خلاف ترتيب ماركس تناول “هيتشكوك” التكرار كعنصر أساسي في أفلامه، في المرة الأولى بشكل هزلي، وفي الثانية بشكل مأساوي.