الكبار عصب السينما هجرتهم النجومية من الصفوف الأولى إلى مواقع السنيدة
6 June، 2022
نـاهـد صـلاح
في فيلم “لحن الوفاء” (1955) إخراج إبراهيم عمارة، وبعد أن أضنته كل سبل العمل الجادّ وفشل في أن يحذو حذو أيّ نجاح، قرر الموسيقار علّام (حسين رياض) أن يصنع فرصته بنفسه بمثابرة ودأب، معتمدًا على فناني الصفّ الثاني كي يصنع مشروعه المغوي، ويرتقي بهم سلم المجد والوجاهة. كانت نظريته هي مواجهة أساطين الاحتكار والاستئثار والهزلية في عالم الموسيقى والفن. ربما تعاطت السينما المصرية مع هذه النظرية بشكل أو آخر؛ إذ نلمسها أحيانًا مع طلوع نجوم الصف الثاني أو نجوم خط الوسط إلى القمة، بما يشكل ظاهرة قد تتعلَّق بالزمن أو بتتابع الأجيال، إضافة إلى التغيرات الاجتماعية، وتبدل المزاج الجماهيري الذي يؤثّر بدوره في السينما واختياراتها، لكنّ ما يثير الانتباه فعلًا هو ما يتعلّق بفتيان السينما الأوائل؛ النجوم الكبار الذين تحوّلوا من الصفوف الأولى إلى الخلفية بقابلية لافتة، نلحظها بوضوح في كل موسم سينمائي؛ إذ يتوارى الكبار ويتراجعون خطوة أو خطوات ليفسحوا مجالًا للأسماء الجديدة.
الظاهرة ليست جديدة أو مفتعلة، إنها متجددة على مدار التاريخ الفني، كما أنّ صورها متعددة وفق الزمن وتغير الأنساق الفكرية والثقافية، بل أزعم أنها تؤدي إلى نتائج ملموسة على صعيد التعددية من ناحية والاختلاف من ناحية أخرى، حتى إنْ تخلَّت أدوار البطولة عن الكبار وأصبحوا في خانة السنيدة؛ فنجد نجمًا مثل محسن سرحان تتبدّل به الحال من أدوار البطولة المطلقة إلى الأدوار الثالثة والرابعة، بينما يحاول كمال الشناوي الحفاظ على مكانته بقدر كبير؛ حتى قيل إنَّ أفلامًا كُتبت له خصيصًا لتناسب عمره الكبير، كما في “الجبلاوي” (1991) إخراج عادل الأعصر، و”الصاغة” (1994) إخراج أحمد السبعاوي. أمّا عماد حمدي فإنه تعرَّض لتحول دراماتيكي جلل؛ من بطل واقعي له روح شفافة وصلبة في الوقت نفسه، إلى مهزوم يعاني الخذلان كما في آخر أفلامه “سواق الأتوبيس” (1982) إخراج عاطف الطيب.
في رأيي أن هذا التحول لم يقلل من صورة عماد حمدي على الشاشة، فكان تجليه مثلًا في فيلم “الخطايا” (1962) إخراج حسن الإمام، إشارة إلى ثباته ومنزلته كممثل قدير، ولولا حضوره الفطن والمتيقظ لخسر الفيلم كثيرًا، حتى إنه لهذه اللحظة ما زالت الصفعة التي ضربها لعبدالحليم حافظ (ابنه في الفيلم)، يُضرَب بها المثل كأشهر صفعة في السينما المصرية.
إذن، كان هذا مصير فتيان السينما الأوائل في سنوات النشوء والمجد والازدهار، هؤلاء الذين رسّخوا بهاء نجوميةٍ هجرتهم، ليتعّلقوا بآخر قشة في التمثيل عبر الأدوار الثانية أو حتى كضيوف شرف و”سنّيدة” للأبطال الجدد، بل إن هناك نجمًا آخرَ مثل محمود ياسين، الذي كان له في العام 1976 ثلاثة عشر فيلمًا من مجموع 90 فيلمًا وصل إليها إنتاج السينما المصرية في ذلك العام؛ أي بواقع فيلم كل أسبوعين تقريبًا، هو الآن غير موجود بسبب المرض، منذ آخر أفلامه “جدّو حبيبي” (2012) إخراج علي إدريس.
هذا مصير فتيان السينما الأوائل في سنوات المجد والازدهار، هؤلاء الذين رسَّخوا بهاء نجومية هجرتهم، ليتعلَّقوا بآخر قشة في التمثيل عبر الأدوار الثانية أو حتى كضيوف شرف.
أين يذهب “الجراندات”؟
هذا لا يعني خفوتهم أو أفولهم أو التقليل من أدوارهم؛ فهم عصب السينما وطوقها، لكن يُطرَح السؤال: أين يذهب الـ”جراندات”؟ السؤال المصاحب لبداية كل موسم سينمائي؛ والـ”جراندات” مصطلح دارج عربيًّا ومصريًّا عن الإنجليزية ينوب عن توصيف “الكبار” ويخصّهم، من هنا نذهب إلى أن “الجراندات” موجودون، حاضرون بسطوع في الواقع؛ لكنْ على الشاشة تتقلّص مساحتهم لأسباب عدة أبرزها أن الكتابة في الأغلب لا تكون لهم وإنما للنجوم الشباب، كما أن ذوق الجمهور متغيِّر وغير متوقع، فيراوغنا تفاوت الخط البياني للنجوم صعودًا وهبوطًا، من عادل إمام إلى هنيدي ومن أحمد زكي إلى محمد رمضان، كما يطالعنا حمو بيكا في عالم الأغنية كصاحب “تريند” أكبر من عمرو دياب على سبيل المثال. والسينما من هذا المنطلق شأنها شأن الحياة تيارٌ متدفق، متَّصل الظواهر، لا يمكن فصل لحظته الراهنة عن ماضيه أو مستقبله؛ لذلك فإنّ ظاهرة تواري الكبار ليست جديدة، غير أنها تتفاعل مع مجمل العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية المحيطة، لتصوغ نفسها ببطء يصعب الانتباه إليه أو إدراكه في لحظة التشكّل والتغيّر.
الأفلام الأخيرة شهدت تباينًا في هذه الظاهرة، ما بين غياب محمود ياسين، صلاح السعدني، نجلاء فتحي لأسباب مرضية خارجة عن ظروف الصناعة، بينما تغيب ميرفت أمين وليلى علوي؛ فبحسب تصريحات الأخيرة يبدو أنها لا تجد الدور المناسب الذي يليق بها. في حين يظهر عزت العلايلي في “تراب الماس” (2018) إخراج مروان حامد، ومؤخرًا يتساءل: “هل هناك فرمان بتغييب الكبار عن الشاشة؟”؛ كنوع من التضامن مع شكوى زملائه من جيل الكبار بعدم الاستعانة بهم. كما ظهر حسين فهمي في “الكويسين” (2018) إخراج أحمد الجندي، ومحمود حميدة يبدو كحصان الكبار الرابح، المتنقّل من فيلم لآخر؛ من “فوتوكوبي” (2017) إخراج تامر عشري، إلى “يوم من الأيام” (2017) إخراج محمد مصطفى، “الغسالة” (2020) إخراج عصام عبدالحميد، “البعض لا يذهب للمأذون مرتين” إخراج أحمد الجندي، “العارف” إخراج أحمد علاء الديب، والفيلمان الأخيران لم يُعرضا بعد، بينما عادت يسرا بعد غياب 8 سنوات منذ “جيم أوفر” (2012) إخراج أحمد البدري، من خلال “صاحب المقام” (2020) إخراج محمد جمال العدل، الذي تم عرضه مؤخرًا على إحدى المنصات الإلكترونية، البديل الجديد للعرض السينمائي في ظل أزمة فيروس كورونا.
الأفيش السينمائي إذن يشهد نوعًا من المقاومة، تسعى فيها الأسماء “الجراند” لامتلاك مساحتها في ظلّ امتداد الأسماء الحديثة، إنه قانون الأفيش الذي لم يُستثنَ منه في أحوال مغايرة سوى الملك فريد شوقي، فقد ظلَّ اسمه يتصدر الأفيش متحدّيًا كل موجات التغيير، لا يضاهيه في ذلك سوى عادل إمام، والأفيش هو بوصلة النجم؛ يحدد مكانته المادية الملموسة بحسب القاعدة التي أرساها نور الشريف: “اللي أجره أعلى، اسمه يتكتب الأول”، حتى إنه عندما شارك أحمد عز في “مسجون ترانزيت” (2008) إخراج ساندرا نشأت، أصرَّ أنْ يسبقه اسم أحمد عز، وقبلها في فيلم “جري الوحوش” (1987) إخراج علي عبدالخالق؛ سبقه اسم محمود عبدالعزيز.
ظاهرة تواري الكبار ليست جديدة، غير أنها تتفاعل مع مجمل العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية المحيطة، لتصوغ نفسها ببطء يصعب إدراكه في لحظة التشكل والتغير.
قانون العرض والطلب
هناك صعود لأسماء جديدة يفرضها قانون العرض والطلب الذي على أساسه تتحدد قاعدة الأفيش، فنشهد حضور مكثّف لممثلة مثل دينا الشربيني في “ثانية واحدة” إخراج أكرم فريد، “البعض لا يذهب للمأذون مرتين” مع كريم عبدالعزيز ﺇﺧﺮاﺝ أحمد الجندي، “يوم 13” إخراج وائل عبدالله، كما تُواصل تصوير فيلم “30 مارس” مع أحمد الفيشاوي، ﺇﺧﺮاﺝ أحمد خالد موسى، وتستعد للظهور ضيفةَ شرف في فيلم “قمر 14” للمخرج هادي الباجوري، بينما ينشط تامر حسني أكثر بعد فيلمه “الفلوس” إخراج سعيد الماروق، ويثابر بفيلمه الجديد “مش أنا” إخراج سارة توفيق، في حين نجد كريم عبدالعزيز من الأكثر تضررًا بتأجيل عروض الأفلام بسبب كورونا؛ فلديه فيلمان: “البعض لا يذهب للمأذون مرتين” ﺇﺧﺮاﺝ أحمد الجندي، والثاني “كيرة والجن” إخراج مروان حامد. ويشارك أحمد عز كريم عبدالعزيز بطولة “كيرة”، ويشاركه أيضًا شظف الحرمان من الخروج إلى النور بسبب إغلاق موسم العرض مرتين، كانت الثانية بفيلم “العارف… عودة يونس” إخراج أحمد علاء الديب، بينما أحبط الغلق أيضًا إصرار أحمد السقا على مواصلة الآكشن بفيلمه “العنكبوت” إخراج أحمد نادر جلال.
ذات مرة أخبرني نور الشريف أنه أحيانًا كان يتساءل: لماذا لم يكن عبدالفتاح القصري أو زينات صدقي أو عبدالعزيز مخيون أو نبيل الحلفاوي في صفوف النجوم رغم امتلاكهم لموهبة كبيرة؟ هذا يحيلنا إلى نجوم الصف الثاني وتأثيرهم وطلوع بعضهم إلى القمة، وإن قالوا أحيانًا إنه الحظ على طريقة المثل الشعبي “قيراط حظ ولا فدان شطارة”، لكنّ الشيء الأكيد أن النجومية ليست دليلًا على موهبة الممثل، فالنجم صناعة والتمثيل الحقيقي يحتاج إلى موهبة حقيقية؛ لذا فإنّ تمكُّنَ بعض نجوم خط الوسط الذين أثبتوا قدرة تمثيلية عظيمة من اختراق حاجز النجومية، مثل هنيدي، محمد سعد، أحمد حلمي، أحمد عز و.. عبلة كامل، الغائبة حاليًّا ومحاطة بغيمة العزلة، يرجع لدخولهم بشكل ما دائرة صناعة النجم، بينما توقَّف كثيرون في الحديقة الواسعة ولم يدخلوا البرج العاجي في قصر الفن حيث تلمع النجوم وتتحدد خطة الانتاج والتوزيع وقيمة الأجور، على الرغم من حصولهم على جوائز في التمثيل وتقديرات من مهرجانات محلية ودولية مثل شريف دسوقي (جائزة أفضل ممثل في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي التاسع والثلاثين عام 2018)، أو حسن حسني أو عبدالله محمود، أو ماجدة زكي، أو حتى نجاح الموجي (“أيام الغضب” مهرجان دمشق)، وعشرات غيرهم ربما حقَّقوا بعض البطولات المطلقة لكنهم أبدًا لم يصلوا إلى عرش النجومية. ليس بالضرورة أن البطل هو من يخبرنا رسالة الفيلم؛ إنما قد يفعلها أصحاب الدور الثاني، وهنا لا يمكن أن ننسى توفيق الدقن حين قال الكلمة الأخيرة في “الشيطان يعظ” (1981) إخراج أشرف فهمي، ردًّا على طلب حنفي الأبيض (سعيد صالح) أن يدخل عالم الفتوات: “هو جرى إيه للدنيا، الناس كلها بقت فتوات أومال مين اللي هينضرب؟”.
النجومية ليست دليلًا على موهبة الممثل؛ فالنجم صناعة، والتمثيل الحقيقي يحتاج إلى موهبة حقيقية.
مرحلة البرزخ
على أيّ حال، فإن التحول في خريطة الممثلين؛ سواء من نجوم الصفوف الأولى الذين تراجعوا أو العكس من أصحاب الدور الثاني الذين صعدوا، كان على أشدّه في النصف الثاني من التسعينيات، في مرحلة صعبة من تاريخنا، أحبّ أن أسميها مرحلة “البرزخ”؛ إنها المرحلة التي تعتبر جسرًا بين قرنين، والتي تضمُّ السنواتِ الخمس الأخيرة من القرن العشرين؛ أكثر القرون زخمًا وإثارة في تاريخ البشرية، قبل أن تدخل القرن الحادي والعشرين الذي بدأ بأعنف موجة من التبدلات القيمية والتغيرات السياسية والاقتصادية العاصفة، إذ يمكن القول إن هذه السنوات هي الجسر الفاصل بين عالمين مختلفين، وليس بين قرنين وفقط. حينها وصل الجميع إلى تقييمات مستقرة لما نسمية “موجة أفلام الشباب”، أو “الكوميديا الشبابية الجديدة”، أو “المضحكون الجدد”. ومن البديهيات السهلة التي يركن إليها الجميع اعتبار أن فيلم “إسماعيلية رايح جاي”، هو كلمة السر في انطلاق موجة الأفلام الكوميدية الجديدة، ولم يقل لنا هؤلاء المروّجون للأحكام السهلة: لماذا كان هذا الفيلم بالذات هو كلمة “افتح ياسمسم” التي فتحت المغارة أمام جيل من صغار الممثلين المحبطين، كما فتحت شهية المنتجين لضخ أموالهم في تقديم العديد من الأسماء الصغيرة، وأدَّت إلى جرأة تجاهل النجوم لصالح الوافدين الجدد، وهي ظاهرة ربما تحدث بهذا العنف للمرة الأولى في تاريخنا السينمائي الذي سار منذ نشأته على أسلوب “سيطرة النجم” كما تعلّمناه من هوليوود؟
“إسماعيلية رايح جاي” إخراج كريم ضياء الدين، ظهر رسميًّا في عام 1997 بعد فترة من التعثر الإنتاجي، أدَّت إلى تنفيذه بشكل تجاري بطريقة “تقفيل الفيلم” بأرخص التكاليف تجنبًا للخسائر، لكن الفيلم سيئ الإعداد والحظ، تحوَّل إلى “تميمة حظ” للمشاركين فيه، ثم لأعداد كبيرة من المنبوذين سينمائيًّا بحكم الطبخة التقليدية السائدة في الإنتاج والتوزيع، وكذلك الذوق السينمائي السائد حينذاك. كان مجرد ذريعة أكثر منه إنجازًا سينمائيًّا، وسواء ظهر هذا الفيلم أو لم يظهر فإن السينما المصرية كانت في طريقها إلى ماهي فيه الآن، لأن شيئًا لا يأتي من الفراغ ولا يذهب إليه، أو بحسب تعبير الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل: “ليس هناك أقوى من فكرة آن أوانها”.
ومن الواضح أن الأوان كان قد آن لانتقال السينما المصرية لمرحلة جديدة وبداية تشكل خلطة سينمائية على غرار “الكومبو” أو “الفخفخينا”؛ أي أنها تجمع عددًا من الأنواع السينمائية في فيلم واحد؛ فهناك الكوميديا والآكشن والغناء والاستعراضات مع خيط عاطفي، ولا بأس في موعظة أخلاقية أو وطنية على طريقة حرق العلم الإسرائيلي في حرم الجامعة الأمريكية، كما أن الأوان وقتذاك كان قد آن لبروز النجوم الجدد وفي مقدمتهم محمد هنيدي دائبًا ومواظبًا حتى هذه اللحظة التي يصوّر فيها فيلمه الجديد “النمس والإنس” مع المخرج شريف عرفة.