• English
  • 8 ديسمبر، 2024
  • 2:13 ص

ستان لوريل: الكوميديان الذي كان يطارد أقواس قزح

ستان لوريل: الكوميديان الذي كان يطارد أقواس قزح

4 January، 2023

محمد عبد الهادي   

يدور فيلم «أضواء المسرح» الذي أنتجه شارلي شابلن عام 1952، حول الفصل الأخير في حياة “كالفيرو” مهرج قاعة الموسيقى في مسرح الإمباير بلندن، حوالي عام 1914، حيث يُنقذ “كالفيرو” حياة الراقصة الاستعراضية “تيريزا” من الانتحار. وقاعة الموسيقى هي نوع من العروض المسرحية البريطانية التي كانت شائعة منذ العصر الفيكتوري، عام 1850، والتي تطورت بعد عام 1918 لتحتوي عروض الموسيقى الشعبية، والكوميديا، وعروضا ترفيهية متنوعة.

ومن قاعة الموسيقى، بدأت رحلة ستان لوريل ببعض عروض البانتومايم، إلى جانب انضمامه لفرقة الكوميديان البريطاني الشهير في ذلك الوقت، فريد كارنو، فقد التقى لوريل بشارلي شابلن، قبل أن يسافرا سويًّا مع الفرقة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. لكن، وفي ربيع عام 1914، انحلّت فرقة كارنو، لينضم لوريل إلى إدغار هيرلي وزوجته إيثيل، زميليه السابقين في الفرقة، ليكوّنوا ثلاثيا كوميديا، أسموه “ثلاثي كيستون” بناءً على نصيحة وكيلهم چوردون بوستوك، الذي استغل نجاح شابلن في استوديوهات كيستون في العام نفسه، وهي الاستوديوهات التي انطلقت منها شهرته كالصاروخ، بعد أن ابتكر شخصية المتشرد الشهيرة.

والحقيقة أن لوريل كان يقوم بتقليد شابلن بشكل ناجح، ما أدّى إلى استمرار الفرقة بين فبراير وأكتوبر من عام 1915، حين قرر لوريل وهيرلي الانفصال، قبل أن يلتقي لوريل بصديقيه، أليس وبالدوين كوك، ويؤسسوا معا “ثلاثي ستان چيفرسون” (وهو الاسم الحقيقي لستان لوريل).

ثلاثي ستان جيفرسون

وبين الكثير من العروض التي بدأ لوريل في تقديمها، التقى بأوليفر هاردي، في فيلم «الكلب المحظوظ» عام 1921، قبل أن يكوّن الاثنان فريقًا ناجحًا من العام 1927، وحتى وفاة هاردي في أغسطس عام 1957. كان الجميع يصف هاردي بالثقيل، نظرًا لحجمه الضخم، وكاد هذا يُفسد مستقبل هاردي مبكرًا؛ وهكذا لم يكن أفضل حظًا من لوريل، الذي كان يتم تجهيزه للنجومية بشكلٍ جيد، لكنها كانت تهرب دائمًا من يديه، ربما لأنه على العكس من متشرد شابلن، أو رجل هارولد لويد ذي القبعة والنظّارات؛ لم تكن له شخصيّةٌ سينمائيةٌ محدّدة، حتى ربطه المنتج الأمريكي الشهير هال روتش بهاردي؛ فوجد لوريل ضالته أخيرًا، وبدأت الشراكة في النمو، وتحوّلت إلى صداقةٍ دامت حتى بعد وفاة هاردي؛ إذ رفض لوريل الكثير من العروض التي قُدّمت له، على مدار ثماني سنواتٍ كاملة، السنوات التي عاشها لوريل يكتب، بشكلٍ مفجع، عروضًا للثنائي الشهير، وهو يعرف أنها لن ترى النور أبدًا، حتى لحق بتوأم روحه في فبراير من عام 1965.

صورة تجمع بين أوليفر هاردي وستان لوريل

كان لوريل وهاردي رجلين مختلفين تمامًا؛ ولد لوريل في يونيه عام 1890 في أوليفر ستون، لانكشاير لأبٍ يعمل مديرًا للمسرح، وأمٍ ممثلة، ومارس التمثيل في سن السادسة عشرة قبل أن يحلّ به المطاف في هوليوود، بينما أتى هاردي من هارلم، چورچيا، لأبٍ مراقبٍ للعبيد، توفّي في العام الذي ولد فيه ابنه، 1892.

ولوريل هو المحرّك الإبداعي لتلك الشراكة الناجحة؛ كان يبتكر خيوط القصّة، وينسج النكات والمواقف الطريفة، بل كان يزجّ بنفسه في إخراج الأفلام أيضًا، عكس هاردي الذي كان الممثل الأفضل، إذ أتاح له العمل يومًا كمشرف على عرض الأفلام أن يشاهد قدرًا كبيرًا من الصناعة، وعرف أن أصغر الإيماءات –رفعة حاجبٍ أو نظرة سريعة في اتجاه الجمهور– تجذب الانتباه، وتكتب النجاح. لوريل المعجون في المسرح، الذي تدرّب كثيرًا على العمل في الصفوف الخلفيّة، أدرك هذا، وكتب نصوصه بناءً على نقاط القوّة في شريكه.

أوليفر هاردي وستان لوريل

القدر كتب السطر الأخير في حكاية لوريل وهاردي، اللذين لم يتجادلا إطلاقًا طوال فترة عملهما أو صداقتهما؛ كتبها بقسوة، حين مات هاردي بجلطةٍ دماغيّةٍ، في أثناء مرض لوريل الذي لم يستطع حضور جنازة صديقه الأقرب، الأمر الذي ترك جرحًا كبيرًا في نفسه، فانعزل عن العالم، إلا من الخطابات!

القدر كتب السطر الأخير في حكاية لوريل وهاردي، اللذين لم يتجادلا إطلاقًا؛ كتبها بقسوة، حين مات هاردي بجلطةٍ دماغيّةٍ، في أثناء مرض لوريل، الذي لم يستطع حضور جنازة صديقه الأقرب، الأمر الذي ترك جرحًا كبيرًا في نفسه، فانعزل عن العالم، إلا من الخطابات!

كتابة من أجل المتعة

لقد قضى لوريل جزءًا كبيرًا من تقاعده في التواصل مع الأصدقاء والمعجبين بالبريد؛ ساعده في ذلك شغفه الدائم بالأدوات المكتبية، حتى إنه في إحدى المقابلات العديدة مع كاتب السير الذاتيّة، چون مكابي، كشف عن رغبته في امتلاك متجر للأدوات المكتبية؛ ربما لم يكن متأكدًا من السبب، لكنّه اعترف برضاه التام عن قضاء فترة الظهيرة كاملة، في فحص نوعيات ورق الكتابة وفرزه!

ورغم أن الرسائل كانت مصدر الاتصال بالعالم في هذه الفترة، إلا أن الكثير منها كان عاديًّا للغاية؛ يردُّ على الاستفسارات المتكررة عن صحته، ويضع بعض الملاحظات عن الفنانين الذين رحلوا، لكنه كان يجيب بشكلٍ أساسيّ عن الأسئلة حول شريكه الراحل وأفلامهما معا.. كان يكتب ببساطة من أجل متعة الكتابة.

ربما كان لوريل رجلا معقّدًا، والرجال المعقدون يعيشون حياةً معقّدة. وفي حالة لوريل، كانت تتعلّق الكثير من هذه التعقيدات بالنساء؛ غالبًا ما أخفت أدواره الكوميدية وسامته، وأخفت أفلام الأبيض والأسود لون عينيه الأزرق؛ لقد سقطت النساء في حبه، سقطن بشدّة، حتى إن لوريل تزوّج ثلاث مرّاتٍ، اثنتين منهما كانتا من نصيب روث، وكانت له أكثر من عشيقةٍ سريّة! في عام 1917 التقى لوريل بالممثلة الأسترالية ماي داهلبرغ التي ادّعت أنها أرملة، رغم أن زوجها يعيش في مكانٍ ما بصحةٍ جيّدة. عمل لوريل وماي معا، وتشاركا السرير أيضًا، لكن ماي التي افتقرت إلى الموهبة الكافية لتحقيق طموحاتها، اختفت في النهاية؛ الأمر الذي عجّل زواج لوريل من لويس نيلسون، الممثلة الجميلة التي تصغره أيضًا، لضمان تعزيز حياته المهنيّة.

لويس نيلسون لوريل

زواج لوريل بلويس لم يدم طويلا قبل أن ينخرط في علاقةٍ عاطفيّةٍ مع الممثلة الفرنسيّة أليس أرديل؛ العلاقة التي استمرت عقدين من الزمان، وثلاث زيجاتٍ كاملة للوريل. كانت أرديل سلاحًا ذا حديّن؛ كلما انهار زواجٌ بعد زواجٍ للوريل كان يلجأ إليها، على الرغم من عدم استطاعته الربط بين علاقته بها في الأساس وانهيار علاقاته الأسريّة!

خيانة لوريل للويس، لم تكن هي السبب الوحيد في طلاقهما؛ وفاة ستانلي، ابنهما، بعد تسعة أيام فقط من ولادته، كانت الضربة القاتلة، لعلاقة متوترة، سادتها المشكلات. ورغم ذلك، ندم لوريل على الطلاق من لويس. كتب إلى روث في عيد الميلاد عام 1936: “لا أعتقد أنني يمكن أن أحبّ مرةً أخرى مثلما أحببت لويس. لقد حاولت التغلب على ذلك، لكنني لم أستطع. أنا غير سعيدٍ، حتى بعد كل ما قمتِ أنتِ به من محاولاتٍ لإسعادي! لماذا أطارد أقواس قزح؟”.

مطاردة أقواس قزح، كانت الوضع الافتراضي لستان لوريل الذي، وبعد أن تزوّج من روث للمرّة الأولى، كتب إلى لويس يطلب مصالحتها. بل إنه اعترف لروث في خطابٍ بعد طلاقهما الأول عام 1937 أن زواجه منها كان على أمل استعادة لويس: “عزيزي روث، لم يكن طلاقي من لويس عقلانيًّا؛ وقرّرت ساعتها أنني لن أصبح سعيدًا أبدًا. التقيت بكِ وتزوّجتكِ في إطار هذه الفكرة، وكلما مرّ الوقت، أصبحتْ الفكرة أقوى. لهذا تركتكِ من أجل فكرةٍ مجنونة؛ أن لويس ستعيدني إليها. بعد أن تركتكِ، اكتشفتُ بالتأكيد أنها لن تفعل ذلك. ثم أدركتُ الخطأ الفادح الذي ارتكبتُه، وأنا فخورٌ جدًا بالاعتراف به، لذلك حاولتُ أن أجد اهتمامًا جديدًا لنسيان كل شيء، وبصدقٍ لم أجده أبدًا. لقد شربتُ فقط لرفع معنوياتي، وأنا أعلم أنني لن أستطيع أن أفعل ذلك.

لقد ابتلعتِ كل هذا بقوّة، باستثناء بعض التصرفات المتهورة. أنا لا ألومكِ لأنك لا تحبينني، لكن حالتي الذهنية أثّرتْ على شعوري الحقيقيّ. إذا استطعتُ القيام بذلك مرةً أخرى، فستكون الأمور مختلفةً كثيرًا، ولكن ليس في هذه المدينة أو هذا العمل. سعادتي الزوجية تعني أكثر من الملايين”.

نمط ثابت للحياة

 لكن شيئًا لم يمنع طلاق لوريل من روث للمرّة الثانية، وقد قالت أمام المحكمة عام 1946 أن لوريل عندما يملك شيئًا يفقد رغبته فيه؛ لكن تلك الرغبة تشتعل حين يفقد ذلك الشيء! بدا وكأن لوريل يسير في نمط ثابت لحياته؛ الزواج، ثم يذهب به عدم الرضا إلى أحضان أرديل، فالطلاق، ثم الزواج مرة أخرى، وهكذا. تخلّل ذلك علاقة مع فيرا إيفانوفا الروسيّة سيئة السمعة، العلاقة التي انتهت بعد عام حين حفر لوريل قبرًا في حديقة منزله، وتحت تأثير الكحول، قرّر أن يدفن فيرا فيه. وأخيرا، اكتفى لوريل بعلاقة مع أرملة روسيّة أخرى تُدعى إدا، واستمرّ ذلك حتى وفاته.

في حديثٍ له، عام 2017، عن روايته «هو» التي تحكي عن حياة ستان لوريل، قال الروائي الأيرلندي چون كونولي: “إن نقطة ضعف لوريل كانت النساء، لكنّه لم يكن فاسقًا؛ كان يبحث دائما عن كيان لوجوده، ويعتقد أن الزواج قد يوفّره، رغم أن الكوميديا التي صنعها، كانت تستند إلى قناعة أن كل الأشياء تميل نحو الفوضى، في الفن كما في الحياة!”.

يزعم كونولي أن لوريل –وبفضل نصفه الآخر أوليفر هاردي– هو أعظم ممثل كوميدي في جيله، أعظم حتى من شارلي شابلن؛ لأن الأخير كان يريد أن يتم الاعتراف به كفنان عظيم، ونجح في ذلك، لكنّه ترك الممثل الكوميدي خلفه، بينما كان همّ ستان لوريل هو فقط رسم الابتسامة على وجوه الجماهير، ومن هذا الطموح ابتكر فنّه. في الثاني عشر من أغسطس، عام 1957، وبعد خمسة أيام فقط، على موت أوليفر هاردي، كتب ستان لوريل خطابًا لبوب وماري هاتفيلد، قال فيه: “أفتقده أكثر مما سيعرف أي شخصٍ معنىً للفقد. أشعر بالضياع تمامًا، بعد ثلاثين عامًا من الصداقة الوثيقة والترابط. لكني سأحتفظ إلى الأبد بالذكريات الرائعة التي ربطتني به، والأوقات السعيدة التي تشاركناها معًا في الماضي”.

ستان لوريل كبيرًا في السن

وفي الثالث والعشرين من فبراير عام 1965، كان يرقد ستان لوريل، البالغ من العمر أربعة وسبعين عامًا في المستشفى، بعد أربعة أيامٍ من إصابته بأزمة قلبية في التاسع عشر من نفس الشهر، إذ أخبر ممرضته أنه لا يمانع في الذهاب إلى التزلج، فأجابت أنها لا تعلم أنه متزلج. قال لوريل: “أنا لست متزلجًا، لكنني أفضل أن أفعل ذلك بدلًا من الموت”! وبعد دقائقٍ قليلةٍ، مات بهدوءٍ على كرسيه.

لوريل هو أعظم ممثل كوميدي في جيله، أعظم حتى من شارلي شابلن؛ لأن الأخير كان يريد أن يتم الاعتراف به كفنان عظيم، ونجح في ذلك، لكنّه ترك الممثل الكوميدي خلفه، بينما كان همّ ستان لوريل هو فقط رسم الابتسامة على وجوه الجماهير، ومن هذا الطموح ابتكر فنّه.

فاصل اعلاني