الحياة غير السرية لـ تيرينس ماليك
إيريك بنسون
إيريك بنسون
ترجمة: محمد علام
المخرج المشهور بسرية حياته، ويحرص على حمايتها بنفس قدر شهرته الفنية؛ لم يُجرِ أية مقابلة مدونة منذ عام 1978م الذي أصدر فيه فيلمه الثاني “أيام الجنة”. ومضى نحو عشرين عامًا حتى أصدر فيلمه الثالث “الخط الأحمر الرفيع”، ذلك الذي تناول فيه الحرب العالمية الثانية، ورغم نجاحه إلا أنه اختفى في لحظة غامضة، ولم يعد أحد يعرف أين يعيش… إنه المخرج الأمريكي واسع الصيت تيرينس ماليك.
شائعات في هوليود
انتشرت الشائعات في هوليوود عن اختفاء تيرينس ماليك في نهايات التسعينيات، وقيل إنه يعيش في مرآب، أو يعمل مصفِّف شعر، أو أنه انتقل لدراسة الفلسفة في السوربون. وحتى عندما عاد إلى صناعة الأفلام مجددًا، وتم ترشيحه لجوائز الأوسكار، وفاز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي؛ ظلَّ “ماليك” محتفظًا بصمته عن التحدث في الإعلام.
في آخر مقابلة نُشرت له في عام 1979، أعطى ماليك فكرة عن كيف رأى مدينته في ذلك الوقت، وكيف استوحى منها فكرة فيلمه “أيام الجنة” «وجدت نفسي وحيدًا طوال الصيف في المدينة التي تركتها كطالب في المدرسة الثانوية. كانت هناك تلال خضراء متموجة، ونهر جميل جدًّا، نهر كولورادو.. كم كان المكان موحيًا وملهمًا».
تقع مدرسة سانت ستيفنز الإبيسكوبالية، التي وصل إليها ماليك كطالب مبيت في نهاية صيف عام 1955، على مزرعة للماعز، تبلغ مساحتها 370 فدانًا وسط تلال مغطاة بأشجار السرو غرب وسط المدينة. في تلك الأيام، كان لدى المدرسة “شعور بالحدود”، كما يتذكر جيم رومبرغ، صديق “ماليك” في المدرسة الثانوية.
تؤدي إلى المدرسة طرق متعرجة ونائية، والمنطقة المحيطة بها غير مُطورة، أما أراضي المدرسة فقد كانت غنية في تضاريسها الطبيعية، حيث أشجار السيبريس وأشجار السيكامور تشكلان سقفًا شامخًا فوق نهر جارٍ. «كانت الطبيعة تحيط بنا، وكنا نشعر بنوع من العزلة هناك»، هكذا قال رومبرغ موضحًا «وكان تيري يقدر ذلك جدًّا».
في مزرعة بالقرب من شيكاغو
ولد ماليك في إلينوي عام 1943، وقضى طفولته بشكل رئيسي في واكو وبارتلزفيل، أوكلاهوما، وكان الأكبر لثلاثة إخوة. والدته “إيرين” ربة منزل، نشأت في مزرعة بالقرب من شيكاغو. أما والده “إيميل” فهو ابن لمسيحييْن آشورييْن من أورميا، والتي تعرف اليوم بإيران الحديثة. تميز الأب كجيولوجي يحمل عدة براءات اختراع، ويعزف باحترافية على آلة الأرغن في الكنيسة، وشغل منصب مدير الكورال. ورغم أنه دفع تيرينس ماليك للنجاح في كل المجالات منذ سنٍّ مبكرة؛ إلا إنه كان متشددًا في معاملته، وكثيرًا ما كانا يتعارضان معًا. قال جيم لينش، الصديق المقرب لماليك منذ المدرسة الثانوية «كانت هناك بعض الصراعات بينهما على مر السنين.. وهذا هو السبب الرئيسي الذي جعل تيري يأتي إلى سانت ستيفنز».
أخبرني “لينش” أن ماليك حاز أعلى مكانة في الفصل خلال سنوات دراسته، وشغل مناصب قيادية في اتحاد الطلاب. لعب كمهاجم في فريق كرة السلة، وكان كابتن فريق كرة القدم، لعب كمهاجم وكمدافع، وهو إنجاز يفخر به حتى اليوم. وحسبما روى لي “لينكلاتر” فإن الوقت الوحيد الذي يفتخر فيه ماليك هو عندما يتحدث عن براعته الرياضية في المدرسة الثانوية.
كان ماليك منغمسًا في الفنون، وعضوًا نشطًا في نادي التمثيل، ولطالما استمع هو ولينش إلى تسجيلات الموسيقى الكلاسيكية، ثم يتحديان بعضهما للتعرف على الأغنية من خلال أن يبدأ كل منهما في الصفير مرة أخرى، بلحن الأغنية التي استمعا إليها. ومع ذلك لم يكن لدى أي من أقران ماليك فكرة عن أنه سيصبح صانع أفلام بارزًا.
رغم أن إيميل ماليك دفع ابنه تيرينس ماليك للنجاح في كل المجالات منذ سنٍّ مبكرة؛ إلا إنه كان متشددًا في التعامل معه، وكثيرًا ما كانا يتعارضان معًا.
العبقري المحلي
كان لدى ماليك تقدير خاص لأعمال مودست موسورجسكي “صور من المعرض”، و”كرنفال الحيوانات” لكاميل سانت سان. رغم جميع إنجازات ماليك في الفن الراقي، وكان أيضًا واحدًا من الشباب العاديين: يلعب البريدج مع الطلاب الأكبر سنًّا بعد العشاء، ويدبر المقالب لبعض الطلاب الآخرين. يتذكر “رومبرغ” عندما تآمر مع ماليك لاصطياد حيوانات المدرع، ووضعاها في غرف الطلاب الآخرين. وكان يسخر من سمعته باعتباره “العبقري المحلي”.
في الصفحة الخاصة به من الكتاب السنوي لإنجازات المدرسة الثانوية؛ يظهر المخرج المستقبلي في صورة متخذًا وضعية تمثال الفيلسوف لـ “أوجست رودان”، حيث يستند بذقنه على يده اليسرى، بينما يده اليمنى مستقرة على ركبته، أما أصابعه فقد اتخذت شكل القرون في إشارة ساخرة.
تمثل مسيرة ماليك، بداية من سانت ستيفنز وحتى ظهوره كواحد من أكثر المخرجين إثارة للجدل في هوليوود في السبعينيات، صعودًا سريعًا للغاية، لكنها في نفس الوقت تمثل رحلة أو جولة حرة بحثًا عن مغامرة مُستحقة.
عند التخرج، قرر ماليك وزميل دراسة من المدرسة الثانوية أن يقضيا صيفهما في حصاد القمح في شمال تكساس، حيث عمل الطلاب بجانب العمال الموسميين الذين اكتسبوا خبرة، والذين -وفقًا لماليك لاحقًا- “عاشوا على هامش الجريمة؛ حالمين بآمال غير ملموسة”.
في الصيف التالي، عاش ماليك مع عائلة زميله لينش في ميدلاند، أثناء دراسته للفلسفة في هارفارد، وعمل في حفر أساس ناطحة سحاب في وسط المدينة، حيث كان يدير الكسارة الهوائية، وكان ضيوفه يستمتعون بروايته لقصص العمال الذين التقى بهم في الموقع.
بعد الدراسة في هارفارد، والحصول على منحة رودس من جامعة أكسفورد؛ بدأ ماليك في تجريب مهن ذوي الياقات البيضاء، فعمل لفترة قصيرة كصحفي متجول لمجلة، أجرى مقابلة مع الديكتاتور الهايتي “بيبي دوك” دوفالييه. وقضى أربعة أشهر في بوليفيا لتغطية محاكمة الفيلسوف الفرنسي ريجيه ديبراي، الذي اتهم بدعم تشي جيفارا وقواته الثورية الماركسية، وذلك لصالح صحيفة “ذا نيويوركر”. ثم عمل لمدة عام كمحاضر للفلسفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهناك أدرك “ماليك” أنه “لم يكن لديه الملكات المطلوبة ليكون معلمًا جيدًا”.
وأخيرًا انتقل إلى هوليوود؛ حيث درس في معهد الفيلم الأمريكي، وأصبح بسرعة كاتبًا مطلوبًا. عمل على نسخة مبكرة من سيناريو فيلم “هاري القذر” Dirty Harry، ثم كتب سيناريو فيلم غربي نسيان بول نيومان-لي مارفين “المال النقدي”، وأصبح صديقًا قويًا مع آرثر بين مخرج “بوني وكلايد”، ومؤسس معهد الفيلم الأمريكي جورج ستيفنز الابن.
عمل ماليك لفترة كصحفي، أجرى فيها مقابلة مع الديكتاتور الهايتي “بيبي دوك دوفالييه”، وقضى أربعة أشهر في بوليفيا لتغطية محاكمة الفيلسوف الفرنسي ريجيه ديبراي.
فيلمه الخاص
لكن ماليك رغب في صناعة فيلمه الخاص، ووجد قصة أراد أن يرويها عن المذبحة التي أثارها “تشارلز ستاركويذر” في أواخر الخمسينيات. على الرغم من أن ماليك لم يكن قد أخرج فيلمًا طويلًا من قبل، إلا أنه أصر على أن ينال حرية تامة بعيدًا عن مشاكل الإنتاج، تلك التي ظلت تلازمه بسبب تغير جداول التصوير باستمرار، ما سرّب نوعًا من الاستياء إلى باقي أفراد الطاقم. لكن عندما عُرض فيلم “الأراضي الوعرة” في مهرجان نيويورك السينمائي عام 1973 صار تيرينس ماليك حديث الساعة.
وصف الناقد فينسنت كانبي، في صحيفة نيويورك تايمز، أن “الأراضي الوعرة” عبارة عن «فيلم بارد، أحيانًا رائع، عنيف دائمًا، وبطريقة أمريكية خاصة». وكتب أن ماليك البالغ من العمر 29 عامًا لديه موهبة هائلة. (ذكرت الصحيفة أيضًا أن الحصول على فرصة لإجراء حديث مع ماليك عن فيلم الأراضي الوعرة، كان بمثابة الحصول على موافقة جريتا جاربو للحديث عن أعمالها الفنية).
بدأ ماليك في إنتاج فيلمه التالي “أيام الجنة”، بطولة ريتشارد جير، سام شيبارد، وبروك أدامز، وهو قصة حب مأساوية في حقول القمح شمال تكساس، التي عمل فيها ماليك بعد المدرسة الثانوية.
وصحيح أن فيلم “الأراضي الوعرة” لم يكن تجربة سهلة، لكن “أيام الجنة” كان تجربة مغايرة وغير تقليدية لتيرينس ماليك، وعندما خرج الفيلم للنور أخيرًا عام 1978، حصل على تقييمات متباينة تمامًا. وكتب عنه هارولد سي شونبرج في نيويورك تايمز قائلًا «إنه فيلم مليء بالصور الأنيقة والمغايرة، وهو فيلم متعب فنيًّا ومتقَن للغاية».
فاز “أيام الجنة” بجائزة الأوسكار لأفضل تصوير سينمائي، ويُعد الآن واحدًا من أعمال السينما الأمريكية الرائعة. ويُذكر أن الناقد روجر إيبرت استمتع بالتصوير الساحر للساعة الأخيرة قبل غروب الشمس، والبصمة الشاعرية الغالبة على الفيلم، ووصفه بأنه «واحد من أجمل الأفلام على الإطلاق».
ومع كل ذلك، كانت مراحل صناعة الفيلم مرهقة؛ لدرجة أن ماليك وفقًا لمنتج فيلم الأراضي الوعرة إد برسمان «لم يعد راغبا في إخراج أفلام أخرى». وفي العام الذي يلي عرض فيلم “أيام الجنة”؛ أعلن ماليك تخليه عن إنتاج مشروعه التالي، وكان فيلمًا طموحًا بشكل كبير يسمى “قصيدة”، ويروي قصة تطور الأرض والكون، وأبلغ أصدقاءه وزملاءه أنه سينتقل بشكل دائم للإقامة في باريس.
كريم ومتواضع
يصف أصدقاء ماليك شخصيته بأنه رجل كريم ومتواضع، ذو فكر واسع وفضول طفولي لا يشبع. يستمتع بالتفكير في تفاصيل حياة الطيور، والأحداث الكونية، والترابط في العالم الطبيعي.
تقول الممثلة والمنتجة “لورا دن” إن الحديث مع ماليك قد يدور حول الفراشات، والتربة وأنواع الحشرات التي تعيش فيها. ويستمتع بمناقشة الأسئلة الجوهرية التي تُحفِّز التفكير في مسائل الدين والفلسفة، ولا بدَّ من الإشارة إلى أنه يمتلك معرفة عميقة بالكتاب المقدس.
يتذكر “لينش” أنه بعد مشاهدة فيلم ميل جيبسون آلام المسيح، أن ماليك الذي يتحدث الفرنسية بطلاقة، مع قليل من الإسبانية والألمانية، قد فهم الآرامية المنطوقة في الفيلم؛ لأنه كان يسمعها من أجداده.
عُرف تيرينس ماليك بتواضعه، كما كان دائمًا، فمن الممكن أن تجده في مقهى بسيط مرتديًا قميص هاواي، وهو يتحدَّث بحماس عن كرة القدم، وأحيانًا يثني على الأفلام الشعبية، مثل فيلم “البحر الأزرق العميق” الذي يتحدث عن سمك القرش المعدل جينيًّا.
يصف أصدقاء ماليك شخصيته بأنه رجل كريم ومتواضع، ذو فكر واسع وفضول طفولي لا يشبع.
متحفظ دائمًا
يتحفظ ماليك دائمًا بشأن الكشف عن الذات. فقد قال “لينش” إنه لم يعلم عن طلاق “ماليك” من زوجته الأولى جيل جيكس، إلا عندما اتصل بمنزله بعد فترة قصيرة لم يتحدثا خلالها، حينها ردت جيكس على الهاتف، فطلب منها لينش التحدث إلى ماليك، حينها قالت “لم ينجح هذا الزواج”.
ويتذكر “لينش” أنه أثناء إقامة ماليك في باريس، دارت بينهما مراسلات عديدة، ولقد أصابته حيرة شديدة حول “ميشيل” التي كان يشير إليها ماليك في خطاب تلو الآخر، حيث اعتقد لينش أن الاسم يمكن أن يكون له معنى أنثوي أو ذكوري، ولم يقدم ماليك أي سياق يوضح طبيعة الأمر. (اتضح بعد ذلك أنها ميشيل موريت، التي أصبحت الزوجة الثانية لماليك).
ماليك متحفظ أيضًا بشأن عمله، يقدر الثناء على أفلامه، ويتأثر كثيرًا بالعيوب أو الأخطاء، أو الفرص المفقودة والذكريات السيئة مع مسؤولي الإنتاج. مثلًا إذا ذكرت له أنك سمعت عن توافر بعض النسخ من فيلم “أيام الجنة”، سيقول «متأثرًا أوه يا الله.. لقد كنت خارج البلاد عندما افتتح الفيلم». يقول لينكليتر «أعتقد أن التحدث عن عمله يأخذه إلى الوراء عاطفيًّا».
أغنية إلى أغنية
عندما بدأ ماليك تصوير فيلم “أغنية إلى أغنية” Song to Song، لم يكن سكان أوستن متأكدين تمامًا ممَّا يفكرون فيه.
«خلال صيف 2012، كانت كل محادثات أصدقائي تدور حول كيف كان ماليك يصنع فيلمًا جديدًا»، هكذا قالت لي الممثلة بيتون ستاكهاوس، وكانت تقيم في أوستن أثناء عملها في تصوير فيلم “أغنية إلى أغنية”، ثم أضافت «كان بإمكانك سماع الناس يتساءلون: لماذا يصور فيلمًا مرة أخرى؟ ألم يكن قد صور فيلمًا للتو؟». وكان ماليك المنتج الغزير يبدو تقريبًا كأنه كتلة من التناقض.
تصوير اللقطات العامة في شواطئ الأوديتيريوم (Auditorium Shores)، أو زيلكر بارك (Zilker Park)، والمناطق المجاورة؛ كان جزءًا صغيرًا مما كان ماليك يلتقطه حول المدينة.
عندما زارت باتي سميث أحد مواقع تصوير ماليك، حيث لعبت شخصيتها في دور صغير، كان ماليك قد صور مشهدًا مع النجم “بينيسيو ديل تورو”، وكان من المفترض أن يؤديه الممثل في فيلم سيرة ذاتية عن تشي جيفارا.
بروح ديونيسوسية
في قصر يطل على نهر كولورادو، قام ماليك بتصوير مشهد حفلة ليلية يبدو أنها أوحت بروح ديونيسوسية، كما هو معروف عن ماليك بلقطاته الشهيرة للأشجار المتأرجحة، ولمعان الطين تحت إلهام إلهي.
أخبرني “كليفتون كولينز جونيور” أن الحفلة حضرها ثلاثون شخصًا تقريبًا يرتدون ملابس قليلة، يحتفلون بالرقص مع هذه الأنابيب الفلورية الزاهية الجميلة، وبالمسبح اللامتناهي، والشقيقان الكبيران الأفرو- كوبا يقرعان على طبول عملاقة. وأضاف «مايكل فاسبندر هناك يرقص مع بينيسيو، ناتالي بورتمان تتمايل بمفردها. كان من السهل علينا جميعًا الاندماج في إيقاع الأحداث، وكانت هذه الروح قد انتشرت فينا جميعًا بواسطة تيري».
زارت الشخصيات المشهورة المقيمة في أوستن موقع تصوير فيلم “أغنية إلى أغنية”، إما لتقديم مداخلة أو فقط للتواجد في هذا الحدث الصاخب العملاق. وعلق ماليك على هذا الاندفاع الجنوني الذي انغمس فيه الجميع، قائلًا لأحد زواره «إذا كنت تريد الحديث عن الجنون فكان عليك أن ترى “روبرت بلانت” عندما كان هنا بالأمس».
معظم الموسيقيين المشاركين في الفيلم ليسوا من أوستن، وكثير من الناس الذين شاهدوا ماليك وفريقه وطاقمه يصوِّرون في مهرجانات الموسيقى الكبرى في المدينة، ليسوا من هنا أيضًا. (المتشائم ربما يقول إن هذه الحقائق تعكس بدقة مشهد الموسيقى في أوستن عام 2017).
أخبرتني المنتجة “سارة جرين” إن ماليك حضر مهرجانات مثل “أوستن سيتي ليمتس” كمعجب قبل أن يصورها. ولكن إذا كان أشهر “عزلاء” المدينة كانوا يترددون بانتظام على “موهوك” و”الكونتيننتال كلوب”، فمن الممكن أن نتوقع امتلاء اليوتيوب بالعديد من مقاطع الفيديو القصيرة، بعناوين مثل “تيرينس يشاهد عرضًا”، و”تيرينس يتناول البيرة في بار”.
سنوات لإنهاء فيلم
يستغرق تيرينس ماليك سنوات لإنهاء أفلامه، حيث يوظِّف فرق التحرير لتجميع قصص مختلفة، وإيجاد أو إلغاء خطوط درامية من القصة بأكملها خلال عملية ما بعد الإنتاج.
في النسخة النهائية من “شجرة الحياة”، يُنهي ماليك الدراما في قلب الفيلم عن طريق نقل عائلة بطله الصغير بعيدًا عن منزله في طفولته. هناك شعور مرير بإغلاق الفصل ومستقبل مجهول ينتظر. ولكن في نسخة سابقة من الفيلم، تنتهي قصة البطل جاك، ليس برحيل عائلته عن واكو، ولكن بطريقة أكثر انتصارًا: يصل كطالب مُقيم إلى “سانت ستيفنز”.
ليس من الصعب فهم التشابه بين عائلة الفيلم وحياة ماليك نفسه. يكبح جاك جماح نفسه تحت تأديب والده الصارم، والمتفوق، والمحب في النهاية. يعشق والدته الملائكية. ويلجأ هو وأخواه الصغيران إلى بعضهما بعضا للدعم. يدور الفيلم حول وفاة الأخ الأوسط بشكل مبكر. (ومن الجدير بالذكر أن شقيق ماليك فقد حياته في سن مبكرة أيضًا).
في تلك النهاية التي لم يتم اعتمادها في النسخة النهائية من الفيلم؛ يترك جاك وراءه علاقته العنيفة مع والده، ويمضي بحثًا عن عائلة جديدة.. نراه من أعلى نقطة على الحرم الجامعي، وهو يمشي بجوار كنيسة “سانت ستيفنز” المصنوعة من الحجر الجيري، وفي الخلفية تتماوج تلال خضراء عديدة.
«جاك متأمل تمامًا»، قال “كونواي”، الذي شاهد تلك النسخة النادرة: «إنه يمثل صحوة الفكر والروح. وإذا اعتبرنا جاك بأي شكل من الأشكال يعكس شخصية تيري، فإن “سانت ستيفنز” هو المكان الذي وجد فيه مجتمعًا احتضنه وتقبله كما هو».
ليس من الصعب فهم التشابه بين عائلة فيلم “شجرة الحياة” وحياة ماليك نفسه، حيث يعشق جاك والدته الملائكية، ويكبح جماح نفسه تجاه تأديب والده الصارم.
طريقة للمقاومة
يبدو صمت ماليك دائمًا، أو جزئيًّا، طريقة لمقاومة مثل هذا النوع من التفسيرات. وعندما ذكر لينش ذات مرة لماليك أنه يرى أفلامه الثلاثة الأخيرة: “شجرة الحياة”، “إلى العجب”، “فارس الكؤوس”؛ عبارة عن سيرة ذاتية، انزعج ماليك كثيرًا. يقول لينش: «لم يعجبه أن يصف أحد أفلامه بهذه الطريقة، لم يرغب أن يعتقد الناس أنه يصنع أفلامًا عن نفسه فقط، فقد كان يصنع أفلامًا عن قضايا أكبر».
يمكن أن يقول ماليك نفس الشيء عن فيلم “أغنية إلى أغنية”، ولكن مع ذلك، من المغري أن نرى عمله الأحدث كتمديد لهذه النهاية غير المستخدمة في فيلم شجرة الحياة. (المخرج الشاب يُقدِّم رسالة حب صاخبة إلى المدينة التي قدمت له الإلهام في صباه، وأعانته منذ البداية).
يقول لينش إن ماليك لم يرغب أن يعتقد الناس أنه يصنع أفلامًا عن نفسه فقط، فقد كان يصنع أفلامًا عن قضايا أكبر.
———————
المصدر:
.The Not-So-Secret Life of Terrence Malick, Eric Benson, Texas Monthly, April 2017