جِد طريقك من الظلمة إلى النور
السينما كتجربة روحية
أزدشير سليمانأزدشير سليمان
ترجمة: محمد علام
تشترك أفلام تيرنس ماليك بسمات تجعلها مميزة، ويمكن التعرف عليها على الفور، وهي: تصويرها السينمائي المذهل للعالم الطبيعي، والتعليق الصوتي التأملي من منظور الراوي، وحركة الكاميرا (المحمولة في كثير من الأحيان)، والموسيقى التصويرية الأوركسترالية والكورالية الغنية وبنيتها السردية المتشظية وغير الخطية في كثير من الأحيان. هذه السِمات تجعل أفلام ماليك صعبة التلقي عند المشاهدة الأولى، وهذه الصعوبة هي التي ساعدت في توليد مثل هذه الأدبيات الثرية حول أعماله.
وقد أحدث فيلم “شجرة الحياة”، ربما أكثر من أي فيلم آخر لماليك، انقسامًا عميقًا بين النقاد والجمهور. وانتهى العرض الأول للفيلم في مهرجان كان السينمائي بالهتافات والسخرية، على الرغم من فوزه بالسعفة الذهبية. يُعجَب المعلقون عمومًا بجرأة الفيلم وإنجازه الفني الهائل، على الرغم من أن الكثيرين ما زالوا في حيرة من أمرهم بشأن أهميته النهائية. ومُرتكز السرد في الفيلم هو استرجاع ذكريات الطفولة المتناثرة التي يحاول من خلالها المهندس المعماري الناجح جاك (شون بن) التغلب على وفاة شقيقه قبل سنوات، والمعاناة التي سبَّبتها هذه الوفاة لوالدته.
طريقان للحياة
وقبل أن يبدأ السرد نتعرف على السيدة أوبراين (جيسيكا شاستين) التي تعلّق صوتيًّا عبر سلسلة من الصور “لقد علمتنا الراهبات أن هناك طريقين في الحياة: طريق الطبيعة، وطريق النعمة. عليك أن تختار أيهما ستتبع”. ومع تكشف أحداث الفيلم، يصبح من الواضح أن طريق الطبيعة ينعكس في النصائح الحياتية الساخرة التي يقدمها السيد أوبراين (براد بيت) لأبنائه، بينما طريق النعمة يتجسَّد في الحضور المشع على الشاشة للسيدة أوبراين، التي تتلخص نصائحها الحياتية في “ساعدوا بعضكم بعضًا، أحبوا الجميع، كل ورقة، كل شعاع من الضوء”. وهكذا، فإن موضوع المعاناة الإنسانية يتشابك على الفور مع موضوع النعمة المسيحية، ونجد أنفسنا إزاء أسئلة فلسفية/ لاهوتية عميقة في الدقائق الأولى من الفيلم، قبل أن نعرف أي شيء عن مساره السردي.
من خلال التركيز فورًا على هذه الأسئلة الفلسفية الكبرى وتوقع أن يقوم فيلم “شجرة الحياة” بتطوير تمثيل معقد للعالم الذي سيتم فيه الإجابة على هذه الأسئلة، يواجه المشاهد بعد ذلك فيلمًا يرفض ببساطة اللعب وفقًا لأي من قواعد الفيلم الروائي الكلاسيكي. تبدأ القصة المركزية لفيلم ماليك في ستينيات القرن الماضي عندما كانت عائلة أوبراين تعيش في منزل عصري مريح يعود إلى منتصف القرن، عندما تلقت السيدة أوبراين برقية تعلن وفاة أحد أبنائها، فتنهار في حزن مدقع.
ينتقل المشهد بسرعة إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين والمنزل المعاصر الأنيق البارد، حيث يضيء جاك شمعة تخليدًا لذكرى أخيه المتوفى. في سلسلة من المشاهد القصيرة المتقطعة التي تتقاطع مع ما يبدو أنها ذكريات طفولته، نرى جاك يعمل في ناطحة سحاب مزججة، ويعتذر لوالده عبر الهاتف، ويمشي في منطقة صحراوية مقفرة. وتنتهي هذه الحلقة المعاصرة بالعودة إلى أمه في تعليقها الصوتي “هل أنا مخطئة؟ لماذا أيها الرب؟ أين كنت؟”. وكما لو أن كل هذا ليس محيرًا بما فيه الكفاية، فإن شجرة الحياة الآن يعتمد مقاربة مختلفة، ويجيب بشكل مذهل على سؤال السيدة أوبراين بمونتاج مذهل مدته سبع عشرة دقيقة يصور أصل المجرات، وبداية الحياة، وإشارة غريبة إلى “الرحمة” في تفاعل اثنين من الديناصورات، واصطدام الكويكب الذي دمر عصر الديناصورات. عند هذه النقطة، يبدأ السرد المركزي للفيلم بتحويل انتباه المشاهد إلى بلدة صغيرة في تكساس في الخمسينيات من القرن الماضي، وولادة أبناء آل أوبراين. وعلى مدى التسعين دقيقة التالية، يأخذنا ماليك عبر مسار طفولة جاك كما رشح من خلال ذكرياته عن والدته وأبيه وإخوته وشوارع ومنازل مدينته الصغيرة وغابات وأنهار وسماء البيئة الطبيعية للبلدة. ومن الجلي أن العديد من التفاصيل هنا أوتوبيوغرافية، لكن ماليك يعطل أي إحساس بالزمن الخطي أو السببية من خلال نسج المشاهد معًا بطرق متقطعة بشكل جذري، والتأكيد على الحركة المستمرة للتصوير السينمائي المتألق بشكل مذهل. ولقد كُتب الكثير عن الطرق الرائعة التي نجح بها قلب شجرة الحياة في استحضار خصوصية الطفولة الأمريكية الفردية في الخمسينيات، وعالمية الأفراد الذين اضطروا إلى العثور على هويتهم داخل قيود ديناميكيات أسرهم وخارجها. وقد يكون من اللافت للنظر بالقدر نفسه الطريقة التي يُظهر بها هذا الجزء من الفيلم الترابط الكامل للمعرفة والشعور في حياة الطفل: تتجمع الذكريات المتناثرة في استجابات عاطفية قوية، في حين أن اللحظات الغامضة من المشاعر غير المحددة تثير شلالات جديدة من الذكريات المتشظية.
في “شجرة الحياة” تتشابك المعاناة الإنسانية مع النعمة المسيحية، وقبل أن نعرف أي شيء عن المسار السردي للفيلم نجد أنفسنا إزاء أسئلة فلسفية/ لاهوتية عميقة.
يعطل ماليك أي إحساس بالزمن الخطي أو السببية من خلال نسج المشاهد بطرق متقطعة، والتأكيد على الحركة المستمرة للتصوير المتألق بشكل مذهل.
شواطئ الخلود
ومع العودة إلى شمعة جاك المنذورة لذكرى أخيه، يغير شجرة الحياة فجأة مساره مرة أخيرة، حيث تقدم الدقائق الاثنتي عشرة الختامية للمشاهد رؤية لما أطلق عليه روبرت سينربرينك Robert Sinnerbrink “شواطئ الخلود”. نتابع جاك والسيدة أوبراين إلى المناظر الطبيعية الصحراوية ذات الضوء الساطع المشع، والشواطئ الرملية والمسطحات الملحية التي تحرقها الشمس، حيث يواجهون مرة أخرى أشخاصًا من ماضيهم، بما في ذلك ذواتهم السابقة: جاك وأمه يتعانقان كبالغين، ويمشي جاك البالغ ووالده معًا في حالة من تعاطف عميق رفقة ثلة من الأطفال، بما في ذلك أولاد أوبراين في يفاعتهم، يركضون عبر الرمال. على نغمات “Agnus Dei” المتألقة من Grande Messe des Morts لبرليوز، تجد السيدة أوبراين ابنها المفقود وتحتضنه بنشوة. في نهاية مونتاج معقد من المشاهد السريالية، نرى السيدة أوبراين وابنها الراحل عند باب منزل العائلة المتواضع، والذي يقع الآن على شواطئ الأبدية، حيث تقبله مودعة. بينما تغني جوقة بيرليوز “آمين”، تتحدث السيدة أوبراين في تعليق صوتي “أعطيه لك. أعطيك ابني” فنراها على مسافة متوسطة تسير في وهج شروق الشمس (أو غروبها). وبعد سلسلة سريعة من اللقطات من الحياة البالغة لجاك، ينتهي الفيلم بصوت الرياح والنوارس والأمواج.
اقتراح شرطي
ليس من المستغرب أن يُترك مشاهدو فيلم “شجرة الحياة” في حالة من الارتباك والحيرة بسبب التحولات الهائلة التي شهدها الفيلم في موضوعه وأسلوبه السينمائي. إن الصعوبة العميقة التي يواجهها المشاهد في ربط أجزاء الفيلم معًا، توضح أن فيلم ماليك لا ينبغي أن يُقرأ بطريقة دلالية: فهو ليس تمثيلًا للطريقة التي ينوجد بها العالم، وإنما اقتراح شرطي لطريقة محتملة للتواصل مع العالم. ولتوضيح هذه النقطة بطريقة أخرى: من السهل- إلى حد ما- قراءة بنية الفيلم باعتبارها تصف كيف أن حياة الفرد هي نتيجة للتاريخ الطبيعي للكون (طريق الطبيعة) ونقطة التقاء ذات معنى في كشف الأبدية (طريق النعمة). ومع ذلك، فإن تعلم العيش بطريقة تجمع وجهتي النظر هاتين معًا يظل أمرًا صعبًا للغاية، وأعتقد أن القوة الحقيقية لشجرة الحياة تكمن في الطريقة التي يبدو أن الذكريات المتناثرة والمتشظية لطفولة جاك تساعده على تحقيق نوع من الوعي بالكون ككل ومكانه فيه. نرى تطور هذا الوعي في التعليقات الصوتية العرضية لجاك كشخص بالغ، والتي تتخلل تفكيك ذكريات طفولته.
بهذه الطريقة، يقدم الفيلم لمشاهديه نموذجًا للتحول الذاتي في حياتهم. فكيف لنا، مع المسافة الموضوعية التي يوفرها الفهم العلمي ومع المسافة الزمنية التي تميز الذاكرة، أن نفهم حياتنا؟ ما ومضة الذاكرة التي تبدو غير ذات أهمية والتي قد توفر أخيرًا مفتاحًا لفهم الكلي؟ وبمجرد أن أحقق نوعًا من الوعي لمعنى الكون ككل، كيف يمكن أن يقودني هذا إلى تغيير الطريقة التي أعيش بها؟
تشير هذه المقاربة إلى شجرة الحياة إلى أننا لا نعثر في عمل ماليك على أي إجابات نهائية للأسئلة التي تطرحها أعماله؛ بل تدعونا أفلامه إلى الانخراط في تمارين روحية قد تساعدنا في العثور على إجابات لهذه الأسئلة بأنفسنا.
تعاليم لاهوتية
ومع ذلك، فإن “شجرة الحياة” دفع بعض المعلقين إلى الادعاء بأن ماليك قدم لنا هنا ما يشبه مجموعة من التعاليم اللاهوتية؛ إذ يجادل كريستوفر بارنيت في مقال استفزازي بأن الفيلم “يُفهم بشكل أفضل ضمن التقليد الصوفي المسيحي”، بينما يجادل روبرت سينربرينك في تحليله الحساس والدقيق للغاية للفيلم، بأن شجرة الحياة “يًظهر كيف تُكتنف حياة عائلة عادية وتُحتضن، من خلال رؤية سامية للطبيعة (والروح) المسحورة، حيث يكون للفرح والمعاناة الإنسانية مكانهما، وحيث تجد مشكلة المعاناة الدينية استجابة جمالية – ثيوديسيا جمالية”.
يبدو أن سينيربرينك يؤكد أن “سمو الكون”، الذي ينعكس بشكل واضح في مشاهد الجمال الطبيعي التي تتخلل عمل ماليك، يبرر أو يعوض في حد ذاته المعاناة الموجودة في العالم، بقدر ما يثير هذا السمو ما أسماه نيتشه الشاب “التأكيد الجمالي للوجود”. ومع ذلك، أود أن أزعم أن ثمة حاجة إلى عملية تدريب روحي عميق للانتقال من الاعتراف بسمو الكون إلى أي نوع من قبول وجود المعاناة: يبدو أن علم الجمال في حد ذاته ليس له أي تأثير أخلاقي واضح. ولقد اقترحت بالفعل أن شجرة الحياة يقدم لنا تمارين قد نسعى من خلالها إلى العثور على أنماط من المعنى في الأجزاء المتناثرة التي تشكل ذكريات حياتنا، وأنماط من المعنى يمكن أن تساعد كل واحد منا على إدراك كيف تعكس حياتنا وحدة الكون وتكاملها. بناءً على هذه الرؤية، كيف يمكننا التعامل مع مشكلة المعاناة؟
يرى كريستوفر بارنيت أن الفيلم “يُفهم بشكل أفضل ضمن التقليد الصوفي المسيحي”، بينما يرى سينيربرينك أن “سمو الكون” يُثير ما أسماه نيتشه “التأكيد الجمالي للوجود”.
نعم للذاكرة
مع الأخذ في الاعتبار أننا نتوصل إلى تحقيق وحدتنا مع الكون بأكمله من خلال فحص ذكرياتنا، فقد ندرك أيضًا أن وحدتنا الداخلية لا يمكن فصلها عن النمط المعقد لذكرياتنا، ونتيجة لذلك فإن كل جزء من الذاكرة – مهما كان ممتعًا أو مؤلـمًا، عميقًا أو تافهًا- يساهم في الكل السامي المتمثل في الكون. يعلمنا “شجرة الحياة” وبشكل فعال أن نقول “نعم” للذاكرة، بغض النظر عن مدى صعوبة ذلك، كخطوة ضرورية على طريق التحول الذاتي الروحي. أن نكون قادرين على تأكيد ذكرياتنا حتى عندما نؤكد على أن سمو الكون يمثل شكلًا قويًّا من أشكال التحول، وهو تحول في منظورنا من منظور فرد منعزل إلى منظور الذات التي حققت نوعًا من التكامل مع الكون.
وثمة، علاوة على ذلك، مفارقة مثمرة في صميم هذا التأكيد على الذاكرة: فعندما نقول “نعم” لكل ذكرياتنا المتناثرة، فإننا نضع أنفسنا في وضع يسمح لنا بالتخلي عن أحداث الماضي التي عجلت بتلك الذكريات، وأن نسمح لها “الأحداث” بأن تكون ببساطة ما كانت عليه، بغضِّ النظر تمامًا عن شعورنا إزاءها في ذلك الوقت. وهذا التأكيد يجعل التخلي ممكنًا حقًّا. المشهد الختامي لشجرة الحياة بمثابة نوع من المثل لقوة هذا التمرين الروحي: إن قيام السيدة أوبراين بتقبيل ابنها الراحل وتوديعه على شواطئ الأبدية هو تأكيد لذكرياتها، وفعل التأكيد هذا يتيح لها أن تقول: “أنا أعطيك إياه، أعطيك ابني”. نستشف في هذه اللحظة بادرة عميقة من الامتنان (والنعمة) للعالم كما هو.
يعلمنا “شجرة الحياة” أن نقول “نعم” للذاكرة، كخطوة ضرورية على طريق التحول الذاتي الروحي.