بداية النور هي بداية الظلام!
ريما التويجري
ريما التويجري
أوبنهايمر بُني على المفارقات التي طُبخ أسلوب الفيلم على قيمتها، نولان حَرث طرق جديدة لروايتها، وخاط غرزة متقنة في قطعته الفنية بإعلان مثالي للغاية، وبالمثالية نعني السحر الذي تستطيع به أن تربط الجماهير بجوِّ الفيلم قبل أن تشاهده، واسمح لي عزيزي القارئ أن أسهب قليلًا في هذه النقطة، فالإعلان قدم لنا صورًا من الفيلم لن نستطيع نسيانها، ولم يقدم قصصًا، قدم لنا جُملًا لن نستطيع نسيانها، ولم يقدم أحاديث، قدم لنا حالة لن نستطيع نسيانها، ولم يقدّم عشوائية صور.
وأتذكر في حادثة رفعت قيمة وروعة الإعلان في منظوري، عندما بدأ العالم يتأهَّب لنزوله في الأسبوع الذي يسبقه، سمعت صوت الإعلان في الراديو، تلقائيًّا أصبحت عيناي لا ترى سوى لقطات كيليان مورفي، مرةً بالأبيض والأسود، والأخرى في القطار، وتليها وجهه الصامت وعيناه المستنجدتان، جميعها تلك الصور التي ظهرت في التشويقة الأولى.
وبالمناسبة، بعد عدة قراءات واهتمام شخصي بالفن الدعائي، دعني أهبك المفتاح السحري عزيزي صانع الأفلام حتى تحسِّن من إعلان فيلمك ليبدو وكأنه لنولان، ولكن بشرط أن تعطيه حيزًا في ذهنك: دع الصورة والصوت تعكس الأحداث، بذلك ستخلق حالة دون أن ترويها.
فهم السر
ما يميِّز أفلام المخرج بالفعل؛ أنها تدرَّس لأشهر وأشهر، أن ننظِّر بها، أن ننصبها، ونجربها حتى ننجح بفهم سرِّها، أول ما استشعرته أنه استفاض في جميع اللغات، تبحَّر بلغة البصر، وعندها لم يكتفِ بالواقعي، ووصل لخيالات العين في أكثر من مرة، ومنها: ما حدث في غرفة الاستجواب عندما سمعت زوجة أوبنهايمر اعترافه بالخيانة- الزوجية والوطنية- أثناء المشروع عند ذهابه لفتاة شيوعية تدعى تاتلوك، رغم أنها تعلم، لكنها رأته للحظة متجردًا من المظهر النزيه.
ثم استرسل بتصوير لغة الجسد، حتى تشعر بشعور الشخصية تجاه نفسه، تجاه الآخرين، أو تجاه الأحداث، وأعتقد ذلك يفسر دقة نولان في اختيار الطاقم التمثيلي.
وتقصى أعالي نوتات اللغة الموسيقية، كما أسرف بلغة اللسان، ولاحظ هنا أن الإسراف بمعناه السلبي.
وعند الذكر، سيناريو الفيلم أكثر ما وجدته مثقلًا بالمعطيات، ويتوسطه الكثير من المفارقات، فمثلًا: ستجد روبرت يصف لشوفالييه الطريقة التي تنهار بها النجوم، مضيفًا أنه لم يثبت أي عالم فلك حتى الآن مثل هذه النظرية، ويُكمِل: “Right now all I have is theory, which can’t impact people’s lives”، وفي النهاية أصبحت نظريته أكبر خطر على حيوات الناس في تاريخ البشرية.
وبذلك أحب أن استشهد بحديث دار بيني وبين المخرج الرائع مروان حامد، بعد فيلمه “كيرة والجن”، سألته فيه: على ماذا تشجعت أن فيلمك الأخير سيكون ٣ ساعات، ألم تخفْ من ردة فعل الجماهير لطوله؟ أجابني: المدة على المادة.. إن كانت هناك مادة لا تحتمل التكثيف، فإن الإطالة في هذه الحالة واجبة، غير جائزة.
بدأ بعدة مواضيع. وتوسطته عدة صراعات، واختتم في عدة نهايات، كل جانب من جوانب الفيلم ضخم، ستدركه منذ المشاهدة الأولى، بدأت تجتاح عقلي مقارنات، وتساؤلات لا تحصى، لم أستطع الإجابة عليها مؤكِّدًا، ولكن مرجِّحًا.
بخلاف ذلك، يمكن التلاعب بالعنصر الزمني بمركَّب من عنصرين بنائيين؛ الموسيقى والإيقاع (التمبو: مدة بقاء اللقطات بين نقلات القطع)، وفي اعتقادي كانت النقطة الفارقة في الفيلم، بل كانت نقطة فارقة في تاريخ الفن السينمائي كإنجاز تكنيكي.
بدأ فيلم “أوبنهايمر” بعدة مواضيع. وتوسطته عدة صراعات، واختتم بعدة نهايات، كل جانب فيه ضخم، وستدركه منذ المشاهدة الأولى.
عالق في المطلقات
أما الفيلم من منظور إنساني فلسفي، فقد ساعدنا على استيعاب فهم أوضح لجانب من جوانب الأخلاقيات الشخصية، دلائل كثيرة تبرهن أن أوبي لا يهتم بما هو منطقي، أو ما يراه الناس صحيحًا، إنه يهتم بما ينجح، ويطبق هذا المبدأ على الشيوعية المحرمة آنذاك، وعلى الفيزياء، وبالتأكيد في إسهامه بتطوير أسلحة فتاكة، فأقل ما يقال عنه رجل عالق في عالم من المطلقات.
وبالتأكيد، لم يخل الفيلم من الرمزيات البسيطة، رغم أنه لا يوجد دليل قاطع على تسميم روبرت للتفاحة، إلا أنها رمزية تدلُّ على سقوط الإنسان والخطيئة، نستنبطها من قصة آدم وحواء، كما أنها ترمز في الأساطير اليونانية القديمة على المعرفة والحكمة والتعليم، وجميعها تصف أوبنهايمر! وعليه، فصوت الرعد غالبًا ما يرتبط بالقوة المسبِّبة للدمار، وفي العديد من الثقافات ينظر له على أنه رمز لقوة الآلهة أو الأشياء الخارقة للطبيعة.
ولا أعلم إن كنت تتفق معي أم ستجدها طريقة مملة، لكنّي أؤمن أن “تكرار” المشاهِد أو الكلمات لها مفعول سحري لتثبت في ذاكرة المشاهدين، وتؤثر في عقلهم الباطني، فعلها نولان في مشاهد عدة، من زوايا مختلفة. بجانب ذلك، تقنيات الفيلم في ترسيخ اللقطات في الذاكرة لم تقتصر على التكرار، إذ استخدم “السؤال” كإحدى الطرق التي تجعل المشاهد في حالة استعداد لتلقي الإجابة، أو أن تعطيه المساحة ليفكر فيه مدةً أطول.
في مشاهداتي التالية، أردتها أن تكون للقراءة البصرية، لاستكشاف استخدامات زوايا الكاميرا، وأنواع اللقطات، والضوء، واللون، متى أزعج الجمهور، ومتى رفَّه عنهم، ملاحظة الصوت والموسيقى، وأيضًا لمناقشة الخيارات الأخرى التي كانت متاحة، لكنّي توصلت بعدها إلى استنتاج مؤكد، وهو أن العبثية العبقرية في الطرح بعرض زوبعة متقاطعة من الماضي والحاضر والمستقبل، بمنظورين، وأحَد الناظرين مضطرب، يقاطعها مشاهد عرضية، لن يتمكن من فعلها إلا كريستوفر نولان.
ختامًا، إن كنت تحب التاريخ، العلوم، السياسة، أو السينما، فهذا طبق من الذهب لك، التجربة التي تناولها الفيلم بالغة التكثيف، ولا شيء يمكنني قوله يفوق وصف المخرج بول شريدر له بأنه أهم أفلام القرن، وقبل أن أنهي، أريدك أن تسأل نفسك: أي موقع في الفيلم كان أضعف ما يكون في تكثيفه؟ إن وجدت الجواب، شاهده مرة أخرى.
لا شيء يمكنني قوله يفوق وصف المخرج بول شريدر لـ “أوبنهايمر” بأنه أهم أفلام القرن.