تيرنيس ماليك: ما أصعب القلق الناتج عن الحرية الكاملة، يمكن أن تجعلك هذه الحرية متوترًا للغاية
جوزيف جيلميس
جوزيف جيلميس
ترجمة: محمد علام
أجرى الكاتب والناقد جوزيف جيلميس هذه المقابلة مع المخرج الأمريكي تيرنيس ماليك، وذلك عقب إصداره فيلمه الروائي الطويل الأول “الأراضي الوعرة” عام 1974. فقد لفت “ماليك” الأنظار إليه مبكرًا بسبب أسلوبه المميَّز، واختياره لقصة حقيقية ذائعة الصيت في ذلك الوقت كي تكون موضوع فيلمه، وهي قضية تشارلز ستاركويذر الذي ارتكب نحو عشر جرائم قتل بشعة، برفقة عشيقته آن فوجات، والذي حكم عليه بالإعدام بواسطة الكرسي الكهربائي.
لقد وجد النقاد أن تناول تيرنيس ماليك للوحدة والغضب المكبوت، في قرية صغيرة بداكوتا الجنوبية في خمسينيات القرن الماضي، يعد مادة مغرية بالدراسة والتحليل.
وتعدُّ هذه المقابلة مهمة لعدة أسباب، أولها أن ترنيس ماليك الذي تجاوز الآن عامه الثمانين، لديه مقابلات صحفية معدودة للغاية. فهو لا يحبُّ الظهور في الإعلام، وصوره الأرشيفية قليلة جدا، وهو مشهور بصمته كشبح هائم.
أما السبب الثاني وهو الأكثر أهمية أنها توضح شخصية ماليك منذ بداياته الفنية، وآرائه وأفكاره حول السينما والفن والحياة. ولم يكن قد تجاوز عامه الـ 31 آنذاك. وإذا ما وضعنا هذه الآراء والأفكار في ضوء مسيرته السينمائية التي بلغت 50 عامًا- قدم خلالها 10 أفلام؛ يعدُّ كل واحد منها ذا تأثير بارز في السينما الأمريكية- يمكننا أن نعرف أنه ومنذ البداية قد حدَّد أسلوبه الفني، واختار أن يشقَّ طريقًا يصبح هو المتميز الأول والوحيد فيه.
علام
كاتب السيناريو
هل ترى نفسك دائمًا كاتبًا لسيناريو الأفلام الخاصَّة بك؟
ليس بالضرورة، ولكن لدي العديد من الأفكار للأفلام. لدي أفكار حول أربعة أفلام في المستقبل، هذا إذا استطعت الوصول إلى ذلك الحدِّ.
كان هيتشكوك يتعاون مع إرنست ليمان وآخرين للعمل معه على أية فكرة كانت لديه؛ هل تعتقد أن هذا يخالف نزاهتك بطريقة ما؟
ليست مسألة نزاهة، أنا لا أعتقد أن المخرج يجب أن يكون كاتبًا، فذلك لا يحط أو يرفع من شأنه كمخرج، كل ما في الأمر أن كتابة السيناريو تلقي ضغوطًا هائلة عليك، كما لو أنك محكوم عليك بقضاء عقوبة ما.
ليس عليك أن تتحمل ما فعله هذا الكاتب اللعين، إن هذا هو الشيء الوحيد الذي ستموِّله الأستديوهات، وسوف يطلبون منك أن تأتي وتنقذ الأمر دومًا، أنت لست عبدًا لقرار تم اتخاذه مسبقًا، ولكن قد يرغب المرء حقًّا في أن يكون عبدًا لشيء ما؛ خاصة عندما يكون في موقع التصوير.
ترغب في أن تكون عبدًا لشيء ما؛ لأن هناك قلقًا ساحقًا يستحوذ علينا، وأحيانًا لا يكون قلقًا، إنه إثارة نابعة من شعورك بأن أي شيء يمكن أن يحدث. وأنا أصوِّر هذا المشهد، أفكر أنه بإمكاني أن أصوِّر شيئًا أفضل بخمسين مرة، لكن في الحقيقة؛ أنا لا أعرف ما هو هذا الشيء الأفضل، ولا كيف يمكنني الحصول عليه!
ما أصعب القلق الناتج عن الحرية الكاملة، يمكن أن تجعلك هذه الحرية متوترًا للغاية؛ لأنها تضعك دائمًا أمام قيودك، شعور الإنسان بأنه يستطيع فعل أي شيء، في أي وقت، يجعله مثيرًا للشفقة حقًا، ولذلك تعلمني الحياة كل يوم درسًا في التواضع. ولا أقول إن دروس الحياة في التواضع أمرًا سيئًا، ولكن الجرعة اليومية محبطة للغاية.. ترى كيف وصلنا إلى هنا؟
لا أعتقد أن المخرج يجب أن يكون كاتبًا، لأن كتابة السيناريو تلقي ضغوطًا هائلة عليه، كما لو أنه محكوم عليك بقضاء عقوبة ما.
مشكلات الإنتاج
لدي الكثير من الأسئلة، ولكني أفضل أن تتحدث، إنها متعة كبيرة، هناك أشياء أدرك أنني أريد أن أسألك عنها كلما تقدمنا؟
بالتأكيد.. أشعر بالحماس بشأن الإنتاج المستقل، بالمناسبة- وحتى أشعر أنني في بعض الأحيان قبل أن أصبح عجوزًا وأجلس تحت شجرة التفاح- أودُّ أن أكتب هذا حقًّا؛ لأن المعرفة ليست مجمعة في أي مكان. بعض الأشياء سمعتها من رجل كان يتعامل في صفقات النفط وبعضها كان في نهاية مقال في “American Cinematographer”.
تعلمت أنه لا توجد عقود قياسية من أي نوع يمكن للمحامي أن يسحبها من ملفِّه، ويقوم بتعبئة الأسماء فيها بالطريقة التي يمكن من خلالها فعل ذلك مع معظم المستندات الصحيحة، إن ذلك صعب على المحامين أيضًا؛ حيث يكون الأمر على هيئة شراكة محدودة 50/50 مع المبدع، وذلك هو السبب في أن المنتجين لا ينتجون.
هل تجاوزتَ الميزانية؟
لقد تجاوزنا بمبلغ 35,000 دولارًا.
وكانت الميزانية الأصلية 300,000 دولار؟
أو 40,000 دولار. نعم، هذا شيء آخر، إذا كنت ستقول أي شيء عن ذلك في مقالك، فيمكنك أن تذكر “أقل من نصف مليون دولار”، أو “أقل من مليون دولار”.
إنهم لا يريدون رقمًا دقيقًا لكي يبدو وكأنه فيلم منخفض الميزانية. نعم، لأنه إذا حدثت مشكلة فسوف تحرج وورنر بروس، وربما يكون المحامي أيضًا قد قال شيئًا في التفاوض مشيرًا إلى أنه كانت هناك ميزانية أعلى، وذلك ما قد يحرجه أيضًا.
أوراق أكاديمي
لدي فضول لمعرفة ما الذي تضيفه أوراقك ووثائقك الرسمية، إلى جانب أنك صانع أفلام بارز؟
أعلم ما تسأل عنه. بالتأكيد لم تكن أوراقي الأكاديمية ذات أهمية تذكر، وقد كنتُ أظن في مرحلة ما أنه عندما أضع شهاداتي الجامعية على الطاولة، سيهتف الجميع «أعطوا الرجل عملًا!». لكن بالطبع تم تجاهل كل شهاداتي، لم تكن مُساعِدة مهنيًّا على الإطلاق، كانت شيئًا تعلمت كيف أخفيه ولا أشير إليه. وكانت هناك أسباب أخرى أيضًا، منها أني شعرت بالفشل، وقد كنت بالفعل أكاديميًّا فاشلًا تمامًا.
هل تم فصلك؟
لا، لم أُفصَل من التدريس الأكاديمي، بل استقلت. لم يكن ينبغي أن أكون فاشلًا، لكنني ببساطة لم أكن مدرسًا جيدًا. لم أكن مدرسًا للفلسفة، وبالتأكيد لم أكن فيلسوفًا. لقد شعرت أنني أقدم خدمة غير ملائمة لطلابي، وهو فشل أسوأ من كونه فشل مهني.
لماذا لم تعتمد على كتابة أو نقد الأفلام، بدلًا من كونك صانع أفلام؟
لا أعرف لماذا سلكت ذلك الطريق. أعتقد أنه عندما تكون أكاديميًّا، يبدو كل شيء في العالم الخارجي مستحيلًا، وعلى قدم المساواة مثل الحياة، لا يمكنك تخيل نفسك تفعل أي شيء إلا هذا الشيء الذي تم تدريبك عليه؛ ولذلك أقول لنفسي (حسنًا، سأفعل ما أحب فعله، ولن أتغير). وإذا كان ذلك مستحيلًا، فإن كل هذه الأمور الأخرى على الأرجح مستحيلة أيضًا لكسب العيش. لقد رأيتم كيف عملت أيضًا كصحفي، ولم أكن صحفيًّا جيدًا على الإطلاق؛ ولذا كنت خائفًا من القيام بأي شيء آخر؛ لذلك كانت صناعة الأفلام خطوة جريئة، ولا بدَّ منها.
كنتُ أظنُّ في مرحلة ما أنه عندما أضع شهاداتي الجامعية على الطاولة، سيهتف الجميع «أعطوا الرجل عملًا!». لكن تم تجاهل كل شهاداتي.
لم أُفصَل من التدريس الأكاديمي؛ بل استقلت. لم يكن ينبغي أن أكون فاشلًا، لكنني لم أكن مدرسًا جيدًّا.
شروط التمويل
ما صفات المخرج الناجح لكي يحصل على فرصة لصنع أفلام بطريقته الخاصة؟
حسنًا، أعتقد أن ذلك صعب للغاية، ويتوقَّف على شروط التمويل ونوع التمويل الذي تحصَّل عليه. وعادة ما يعتمد على نجاح أفلامك السابقة، هكذا تحصل على فرصة لصنع أفلام. لكنك لا تحصل على هذه الفرصة لأنك شخصية عنيفة، مثل راؤول والش، أو شيء من هذا القبيل. حيث فقد راؤول والش العديد من الفرص لإنتاج أفلامه؛ عندما فقد القدرة على توفير الحدِّ الأدنى من التمويل.
مع الوقت صرتَ المنتج الخاص لأفلامك؟
أعتقد أن الطريق الأفضل أن تكون منتجًا لنفسك. هذا أفضل طريق يضمن لك عمل أفلام بالطريقة التي تناسبك. ولكن كونك المنتج لنفسك يضعك أيضًا في مشاكل أخرى؛ لأن الناس يوجهون مشاعرهم نحوك كمنتج، وأنت لا تريدهم أن يخلطوا هذه المشاعر أو الانطباعات مع كونك مخرج الفيلم في نفس الوقت. وهذا كان السبب الحقيقي لتجربتي السيئة مع الفريق في فيلم “الأراضي الوعرة”.
هناك أشخاص في الوسط يحافظون عادة على هذه الازدواجية؛ بين أن تكون منتجًا مشاركًا، ومساعد مخرج في نفس الوقت. عندما تصبح المنتج فأنت الشخص الذي يكرهه الجميع، أما المتوقع دومًا أن الجميع سوف يحبون المخرج. لكنني كنتُ أواجه مشكلة مع مساعدي الإخراج، وكان أحدهم دومًا يقول «آه! إنها الساعة الخامسة والنصف، لنذهب». إنه يقول ذلك أمام الفريق، ثم يتعين عليّ أن أقول: «لا، دعونا نعمل ثلاث ساعات أخرى من فضلكم». ويسمع الفريق ذلك أيضًا؛ لذلك يعرف الجميع أنني الشخص الذي يجعل حياتهم مؤلمة. وبالنسبة لي فإن ما يقوم به مساعد المخرج، هو الحفاظ على الخيال.
أعتقد أن الطريق الأفضل كي تصنع أفلامًا بطريقتك الخاصة أن تكون منتجًا لنفسك. لكن هذا يضعك في مشاكل أخرى؛ لأن الناس سيوجهون مشاعرهم نحوك كمنتج.
السر الحقيقي
إذا كنت تصوّر في منطقة حضرية، هل ستكون في وضع أفضل من حيث العمالة المتاحة؟
بالتأكيد. وأعتقد أن السر الحقيقي هو القيام بشيء لم أفعله، وهو العمل مع طاقم صغير. في البداية تقوم بأعمالك الداخلية، وهذا يتطلَّب طاقمًا كبيرًا. قم بالتصميمات الداخلية الخاصة بك، وأيضًا أي تحركات كبيرة لديك، حيث سيكون هناك الكثير من الإضاءة، وسيتعين عليك دفع عربة حولها وبناء مسارات لها.
لقد صورنا على الأقل خمسة أسابيع (من الفيلم) خلال الشهر الأخير مع فريق من أربعة أشخاص، وحصلنا على مزيد من الإعدادات في اليوم مقارنة بالفريق الكامل. الآن، هناك أشياء لم نستطع فعلها آنذاك، وبالتالي لم نتمكن من استخدام الكاميرا بالطريقة المثلى.
هل كنت تصوّر بكاميرا واحدة فقط؟
نعم.. وأحيانًا عندما نصور مشهدًا به إثارة وحركة كنا نستخدم كاميرتين. جربت ذلك مرة واحدة ولم يخرج المشهد بصورة مناسبة؛ لأنه عند التصوير بكاميرتين يكون التحكُّم في الإضاءة محدودًا؛ لأنه من الصعب تحديد أي الكاميرتين سوف تضيء للأخرى.
وأعتقد أن التصوير بكامرتين يجب القيام به في مشاهد العنف بشكل خاصٍّ، حيث لا يكون لدى الممثل فرصة سوى اللقطة الواحدة، أو عندما يكون لديك ممثل يقدم أفضل أداء له في اللقطة الأولى. بعض الممثلين مشهورين بهذا، مثل بوبي دوفال، على سبيل المثال لا الحصر.
هل هناك الآن مجموعة من الممثلين والمخرجين الشبان الذين يعرفون بعضهم بعضًا؟
لا.. ربما لوكاس وكوبولا يعرفان بعضهما، ومع ذلك يعملان معًا، ومعظم الممثلين والمخرجين لا يعرفون بعضهم بعضًا. أنا مثلًا لم ألتقِ بجورج لوكاس أبدًا. وقابلت مارتن سكورسيزي بضع مرات. هناك شخص من هارفارد، مايكل كرايتون. أعرف مايكل، وهناك مجموعة من المخرجين المحبين للسينما لم ألتق بهم أبدًا، ويبدو إنني لم أشعر بالرغبة في لقائهم.
سؤال صعب
ما نقاط قوتك كمخرج؟ ما الصفة الخاصة أو الموهبة؟
حقًا، لا أعرف كيف أجيب على هذا السؤال.
حسنًا.. ما الذي يجعلك ترغب في أن تكون مخرجًا؟
أعتقد أنه سؤال صعب.. لكن الإجابة تكمن في أنه شيء أرغب فيه بطبيعة الحال. هناك الكثير من التجارب التي يمكن أن يخوضها المخرج كفنان. إذا كنت تعتقد أنك ستستمتع بالتجربة، وأن التجربة هي كل شيء، فستكون شديد البؤس؛ لأن التجربة غير ممتعة على الإطلاق. لا يجب أن تضطر للتعامل مع الناس بهذه الطريقة، وهو أمر غير ممتع، على الأقل إذا فعلت ذلك من خلال الإنتاج المستقل، حيث تصبح حياتك كابوسًا.
يظهر مراقبو الأمن عند باب منزلك بموجب استدعاءات عند الساعة السادسة والنصف صباحًا، وتطاردك متابعات من السلطات المسؤولة عن جمع الضرائب، وتجد نفسك في خضمِّ ذلك كله أنه من الصعب أن تعيش حياة متحضرة. لكن الجائزة تكمن فيما تصنعه من أفلام، وهو شيء قد لا تشعر بحلاوته لسنوات وسنوات.
هذا ما يجب أن تتذكَّره أثناء تجربتك؛ لأنه إذا كنت تمر بذلك من أجل الإثارة التي تشعر بها يوميًّا، ومشاركة معارفك بأخبارك، وتحركاتك من موقع إلى آخر. وقد يبدو للبعض أن المخرجين يستمتعون حقًّا بما يعملون، ويحصلون على وقت ممتع؛ لكنني لا أعتقد أن ذلك صحيحًا بالنسبة للمخرجين الذين شاهدتهم يعملون، حتى وإن قالوا شيئًا مختلفًا للآخرين. إنهم دائمًا متوترون وعصبيون ولا يستمتعون بشيء.
إلى أي مدى أنت ملم بالجوانب التقنية؟ أو ما مقدار معرفتك؟
مجالات مختلفة، ومثل أي شخص لديّ نقاط قوة ونقاط ضعف. لقد كان فيلم الأراضي الوعرة -بالنسبة لي- تدريبًا عمليًّا. كانت هناك أشياء لم أعرفها في النهاية، وكان يجب عليَّ أن أعرفها منذ البداية، وسوف أعرفها في المرة القادمة. المعرفة ليست المشكلة، المشكلة هي أن تتذكر متى يجب أن تتذكر شيئًا ما.. فالأخطاء سهلة التكرار.
في نهاية فيلم الأراضي الوعرة؛ تذكرتُ نصيحة من شخص ما، قال لي إنه عندما تبدأ العمل مع فريقك، لا تفكر في الغرفة كصندوق، فكر فيها كمستطيل. أو يمكنك في النهاية أن تفكر فيها مثل جزء من الكعكة. ونصحني ذلك الصديق بتنظيمها كما لو كانت كعكة تمامًا، حينها تندفع الجدران بطريقة ما، بحيث تتناسق معها زوايا الكاميرا.
وبالفعل إذا تصورت غرفة التصوير كصندوق، فستميل إلى تنظيمها بطريقة لا يمكنك تصويرها بشكل صحيح، وستضطر إلى بدء تقسيمها وتصوير هذه الشخصية بشكل منفصل، وهذا الدور بشكل منفصل. هكذا عادت تلك الفكرة إليَّ في النهاية، وأعتقد أنه كان يجب أن أفكر في ذلك أكثر قليلًا عند البداية.
فيما يتعلق بالموسيقى.. الأداة التي تجعل الأفلام أفضل، هل من الصعب تفسير لماذا تم اختيارها؟
أعتقد أن هذا صحيح.. والموسيقى ليس فقط لها تأثير على مجمل الفيلم، ولكن -بالنسبة لي- لها تأثير على أن تجعلك متيقظًا للصورة، وجعل حواسك تعيش كل حالة على حدة. هذا كل ما أريده من الموسيقى، ألا تكون مرافقًا ممتعًا للصورة، بل إن تبرز القيم الكامنة في المشهد، والتي من دون الموسيقى لن تظهر بوضوح.
وبطريقة ما، تعطيك الموسيقى -بوصفك مستمعًا- نوعًا من اليقظة للصورة التي لن تحصل عليها بغيرها، لأنك كنت ميتًا تقريبًا عندما بدأت، أو كانت الصورة تشعرك بالملل.
يبدو للبعض أن المخرجين يستمتعون بما يعملون، لكنني لا أعتقد أن ذلك صحيح بالنسبة لمن شاهدتهم يعملون، إنهم دائمًا متوترون وعصبيون ولا يستمتعون بشيء.
نمط السيناريو
عندما تكتب سيناريو، هل لديك نقطة بداية في ذهنك بخصوص البناء الدرامي الذي سيكون عليه؟
حسنًا، أنا لم أفعل ذلك بما فيه الكفاية فعلًا. يمكنني أن أخبرك المزيد عمَّا لاحظته من خلال تجاربي العشوائية. لم يكن لدي نمط معين للسيناريو في ذهني قبل أن أبدأ. وأعتقد أن الذين يعملون بهذه الطريقة لديهم عدد معين من المشاهد في الاعتبار وفكرة عامة عن القصة، ويحاولون العثور على قصة تتقاطع مع تلك المشاهد لا أكثر. وغالبًا ما تكون مجرد لقطات رائعة، ويرغبون في تفاعلها مع بعضها.
أشعر أن “ويلز” عمل على هذا النحو كثيرًا، وبعد ذلك كان يعمل على بلورة بعض اللقطات ليبدو كأن هذه المشهد جاء بشكل طبيعي تمامًا. وطوال الوقت يفكر في طريقة رائعة لتنظيمها، أو شيء من هذا القبيل. أعتقد أن هذا كان صحيحًا في حالة ويلز. إنه ليس مثالًا جيدًا على ذلك، فقد كانت لديه قصة محددة، ومن ثم يتخيل هذه الطريقة لسردها- وهذا حسبما قرأت عنه.
الأراضي الوعرة تم انتزاعها تقريبًا من العناوين الرئيسية، هل جذبتك الشخصيات أولًا؟
فكرتَ فيها أولًا من حيث كيفية الحصول على المال للقيام بذلك. لم يكن لدي أفكار حقيقية عنها. ولكن ما أردت الحصول عليه، حتى قبل أن أفكر في القصة وما إلى ذلك، كان مزاجًا معينًا أو لهجة ما، وهذا ما فكرت فيه طوال الوقت، وهذا في الواقع ما أفتخر به في الفيلم. لست فخورًا بالتصوير أو أداء الكاميرا أو أي إرشاد إخراجي.. ولكن فقط المزاج، والشعور بأن الأمور هكذا على ما يُرام.
هل هذه هي قوتك الإخراجية؟ إنشاء المزاج العام للفيلم؟
هذا يعتمد على ما تقصده بـ “المزاج”؛ لأن المزاج يمكن أن يكون مزاج الثلاثينيات أو شيئًا من هذا القبيل. من الصعب أن نكون محددين بهذا، ولكن المزاج مثل الشعور بكيفية انهيار العالم، إنه الطريقة التي يتم بها تنظيم الأمور. أعلم ما تقصده من سؤالك.. ولكن بالنسبة لي المزاج هو نوع من الشعور الخاص بكيفية ترتيب العالم. أتردُّد في التحدث بهذه الطريقة؛ لأنه قد يبدو أنني أبالغ بعض الشيء، ولكنني لا أعتقد أن الأمور يمكن أخذها على هذا النحو.
لم يكن لدي نمط معين للسيناريو في ذهني قبل أن أبدأ “الأراضي الوعرة”. وأعتقد أن الذين يعملون بهذه الطريقة لديهم عدد من المشاهد يحاولون العثور على قصة تتقاطع معها.
مشاعر بسيطة
ما شعورك بالعالم حسب فيلمك الأخير “الأراضي الوعرة”؟
(يتردد) أشعر بالراحة أكثر عند الحديث عن فيلم لشخص آخر وما يعبر عنه. ولكن عادة ما يحصل المرء على تقدير معين لأهمية… لقد اعتقدت.. من خلال فيلمي.. على سبيل المثال.. اعتقدت أن هناك مشاعر بسيطة حول الأمل الذي يمكنك أن تعتمد عليه.. وأنك في حاجة لقليل من العزاء لتعيش حياتك، وكم من الأدلة يتطلبها الحب، وكم يمكنك أن تخدع نفسك. لكن المشكلة في قول أي شيء من ذلك هو أنه يبدو كنظرية فقط، أو يبدو تحليلًا. لا أعرف كيف أكتب ذلك حقًّا.. لم أكن ناجحًا في التعبير عن هذا من قبل.
(يفتح شريط التسجيل الثاني مع ماليك وهو يتحدث، يبدو أنه يفكر في حقيقة أن فيلم “الأراضي الوعرة” يجعل بعض الجماهير تضحك).
ظننتُ هل هذا الضحك ساخرًا؟ هل هو متحيز؟ ما الذي يحدث بالضبط؟ لأنني أفضل ألا يحدث. الكثير من أحداث القصة مثير للسخرية، ولكن لا شيء يمكن أن يجعلك تضحك. ربما ستكون هناك ستة أو سبعة مواضع، عندما تقول عن البطل إنه كان أكثر شخص قابلته مُتسرع في الضغط على الزناد، أو أنه يزور توقيعه كلما استخدمه لمنع الناس من تزوير الوثائق المهمة باسمه.
أظن أن ذلك قد يكون مثيرًا للضحك، ولكن عندما يضحك الناس على التفسير العادي- التفسير الظاهري- الذي تقدمه راوية الأحداث، عندها سأشعر بالانزعاج الشديد؛ لأننا لسنا جميعًا مبدعين تمامًا، وتخيل ما ستبدو عليه في تلك السن. لا تخلطوا هذا مع “الاعترافات الحقيقية”، لأن الأمر أكبر من ذلك.. مثل “توم سوير”. يتم التعبير عن الفيلم بأكمله من خلال سرد البطلة لقصتها؛ لذا إذا فهمت ذلك بطريقة خاطئة، فإنك تفوِّت النقطة الأساسية للفيلم.
عليك أن تثق بالفيلم بشكل خاص، وتثق أن الراوي ليس شخصًا مثقفًا متأنيًا يروي قصة، ولكنه شخص لا يشعر بتفوقه على الشخصيات في القصة، ولا يمكنه حقًا التمييز بين نفسه داخل الفيلم وبين الأشخاص في الواقع، وهو الشعور الذي كنت أشعر به. ومن ناحية أخرى، أنا لم أعمل لمدة عامين لخدمة هذين الشخصين من أجل تسلية الجمهور الذي يعتقد نفسه أعلى.
لست كائنا معقدًا
هل نتحدث عن نفسك؟
نعم لنتحدث عني.. ولكن ليس من منطلق أنني كائن معقد للغاية، ويحتاج حقًّا إلى تحقيق العدالة له. إنها الأخلاق الجنوبية.. وأعتقد أن الأمر في الأساس… ليس من الأخلاق أيضًا. إذا أردت الصدق.. سأشعر براحة أكبر عند الحديث عن هذه الأشياء إذا لم يكن هناك جهاز تسجيل؛ لأنك عندما تطرح سؤالًا كهذا أتذكر أن جهاز التسجيل قيد التشغيل، ولا أعرف لماذا كل هذا.
هل أنت مهتم بالسينما كترفيه أم كشيء أقرب إلى الفن من أجل الفن؟
لا أعلم حقًّا. أعتقد أنه لا يمكنك فقط صنع أي فيلم يخطر في بالك. هناك بعض الأفكار التي يجب أن ترفضها، وإذا لم تفعل ذلك فلن تكون لديك مسيرة مهنية طويلة كصانع أفلام؛ لذا عليك أن تراجع نفسك، وأعتقد أن ذلك يتم تقريبًا بطريقة لا واعية.
من مخرجك المفضل؟
أحب بريستون ستورجيس. وستيفنز، وكازان، وآرثر بين. بالنسبة لي كازان، مثل ستيفنز، شخص يتم تجاهله تمامًا. وأعتقد أن كل ذلك بسبب القوائم السوداء. الترتيب هو حسب الفيلم الذي أحبه أكثر.
للاستخدام غير التجاري، سنستعمل فقط رقم 31.
ذات ليلة شاهدت فيلمًا على التلفزيون، لقد أثر في لدرجة أنني بكيت، ربما يعود ذلك جزئيًّا لأنني يوناني ووالدي عمره 85 عامًا. كان لدي ارتباط قوي به، كان كل شيء به حقيقي جدًّا.
أوه، أعرف هذا الفيلم… (وقفة)…. ترى ما هو هذا الفيلم؟
(ماليك لـ بنسون) هل تغطي عليه؟ ألم تشاهد فيلم أمريكا أمريكا؟
لا، هذا هو الفيلم الوحيد لـ كازان الذي لم أشاهده.
حسنًا، فإن ذلك بالتأكيد واحد من أفضل الأفلام الأمريكية على الإطلاق. لقد سقطتُ في غرامه. صحيح إنه لدي خلفية مشابهة مع أحداث الفيلم، لكن اليونان لم تكن هي البلد الذي جاء منه جداي، بل كان الجانب الآخر من تركيا -أذربيجان، جورجيا، الجزء الشمالي الغربي من إيران. جاءوا بطريقة مشابهة لما جاء في الفيلم.
فيلم “أمريكا أمريكا” هو قصة جدِّ كازان القادم من آسيا الصغرى لأجل هدف وحيد في رأسه، وهو الوصول إلى أمريكا. في النهاية يحصل على تذكرة عبور على متن قارب. إنه فيلم مثير للغاية!
هناك ذكريات عن ريتشارد بون في ذهني، لقد رأيت لقطات بالأبيض والأسود لأشخاص يضغطون على مقدمة قارب، إنها هذه اللحظة التي يتجول فيها كل هؤلاء المهاجرين على هذه السفينة، ثم يندفعون إلى المقدمة عندما يلمحون شواطئ أمريكا، الأوزبك والأكراد والأتراك واليونانيين. هناك الكثير من المقاطع السريعة لهذه الوجوه المفعمة بالأمل، إنه فيلم يجلب الدموع إلى عينيك بلا أي عناء.