• English
  • 15 فبراير، 2025
  • 5:44 ص

عجائب تيرينس ماليك

img

سمير رحيم

سمير رحيم

ترجمة: محمد علام

 

خلال 40 عامًا؛ قدّم المخرج الأمريكي تيرينس ماليك 6 أفلام فقط، مع توقف 20 عامًا بين الفيلمين الثاني والثالث، وعلى خلاف المخرجين الآخرين، فهو مُحبِط لمدراء الأستوديوهات، فهو لا يجري أي مقابلات صحفية، ويرفض المشاركة في الدعاية لأفلامه، أو استخدام صورته في المواد الترويجية، ويقضي سنوات في غرفة المونتاج، يدقِّق في كل تفصيلة، لكي يحصل على كل مشهد بالصورة المثالية.

وبالتالي فإن اللغز الحقيقي فيما يتعلق بـماليك هو أفلامه المطبوعة بلمسة طبيعية خاصة، وحبكة غير تقليدية، بالإضافة إلى الراوي صاحب النبرة الفلسفية التي تتخلل بعض أفلامه، ما يؤدي إلى إرباك المشاهد في بعض الأحيان. بعض النقاد يعتبرون ماليك شخصًا عديم الفكاهة، ومتدينًا بشكل مفرط. ومثل الشعر العظيم؛ فإن أفلام تيرينس ماليك يتم التفاعل معها قبل أن يتم فهمها بالشكل الكامل، وإذا كان في أفلامه لغزًا فموضوعه هو السر الإلهي، والسر الذي نمثله بعضًا لبعض.

بعض النقاد يعتبرون ماليك شخصًا عديم الفكاهة، ومتدينًا بشكل مفرط. ومثل الشعر العظيم؛ أفلامه يتم التفاعل معها قبل أن يتم فهمها بالشكل الكامل.

النشأة

وليس غريبًا أن تعرفَ أن مكان ميلاد تيرينس ماليك ليس مؤكدًا حتى الآن. قد تكون مدينة أوتاوا في ولاية إلينوي كما يشير محررو كتاب «Terrence Malick: Rehearsing the Unexpected» وهو مجموعة من المقابلات مع أعوان ماليك من الممثلين والمنتجين والمصورين والملحنين. أو حسب مصادر أخرى فإن تيرينس ماليك قد وُلد في مدينة واكو التابعة لولاية تكساس التي نشأ بها.

تمتع تيرينس ماليك بخلفية فكرية مغايرة، حيث درس الفلسفة في جامعة أوكسفورد، وفي عام 1969م وضع ترجمة لكتاب “جوهر العلل” للفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، كما عمل بالصحافة في مجلة نيويوركر لفترة، ثم اتجه للدراسة في معهد الفيلم الأمريكي في لوس أنجلوس، الذي سيتخرَّج منه المخرج الشهير ديفيد لينش في فترة لاحقة.

يشترك تيرينس ماليك مع ديفيد لينش في الاهتمام بالبلدات الصغيرة، وطرح الرؤى السريالية، وبينما يرى لينش الفساد المتقيح تحت العشب الناعم في الضواحي، يلتقط ماليك الجمال والعنف من الطبيعة، ويبحث عن معنى الإنسانية لدى أعتى القتلة.

يرتبط تيرينس ماليك بصلة وطيدة مع الروائية الأمريكية مارلين روبنسون، والتي ولدت بالصدفة في نوفمبر 1943، ومثلها سقط ماليك في صمت طويل بعد نجاحه المبكر، ومثلها أيضًا أبدى اهتمامًا بعلوم اللاهوت، واستطاع تقديم أفلام ذات طرح عميق ومغاير، مثل الروايات العظيمة الخالدة.

تعدُّ تقنية الراوي المعلِّق على الأحداث إحدى التقنيات الروائية التي تشكل بصمة خاصة ومميزة لأفلام تيرينس ماليك، وبينما يستخدم بعض المخرجين تقنية الراوي المـُعلِّق على الأحداث لإنقاذ حبكة الأفلام التي لا يستطيعون جعلها متماسكة، إلا أن ماليك يستخدم هذه التقنية لخلق طبقات أكثر عمقًا لفهم أفلامه.. ويسمح للشخصيات بالتعبير عن أفكارها الداخلية أو التعليق على أفعالها في الماضي.. ويمكن أن يوفر المفتاح لفتح العمل بأكمله.

يشترك ماليك مع ديفيد لينش في الاهتمام بطرح الرؤى السريالية، وبينما يرى لينش الفساد المتقيح تحت العشب؛ فإن مالك يبحث عن معنى الإنسانية لدى أعتى القتلة.

الخيط الأحمر

تُظهر اللقطة الافتتاحية لفيلم الخيط الأحمر الرفيع (The Thin Red Line) عام 1998، تمساحًا ينزلق في النهر بطريقة شريرة، ونسمع صوت جندي يقول: «ما هذه الحرب؟ لماذا تتحدى الطبيعة نفسها؟ الأرض ضدَّ البحر؟ هل هناك قوة انتقامية في الطبيعة؟ لا قوة واحدة، ولكن اثنتين؟».

وعلى مدار ثلاث ساعات مؤثرة، يكشف تيرينس ماليك أهوال الحرب العالمية الثانية، من خلال إبراز العنف الكامن في قلب الطبيعة، أثناء استيلاء الجيش الأمريكي على جزيرة “غوادالكانال” في المحيط الهادئ من اليابانيين. وخلال احتفالات الجنود بالنصر تخيم حالة من السُّكْر، وينقض بعضهم على تمساح، يقيدون فمه، ثم يشرعون في وخزه بقوة. وكما هو معتاد في أفلام تيرينس ماليك، فإن قسوة الإنسان على الحيوانات، هي إشارة إلى حجم الوحشية الكامنة في هذا الإنسان.

عندما يقتحم الجنود الأمريكيون المعسكر الياباني؛ تتبع الكاميرا الويلزي ورفاقه وهم يطلقون النار ويضربون بالحراب وصراخهم يملأ المكان. وفي زاوية الشاشة يظهر جندي ياباني يجلس متربعًا، مغمض العينين، مُكلل بهدوء عظيم وسط كل هذه الفوضى. إنها لحظة معجزة وغامضة للياباني الذي ما زال يثق في الله، بينما يتم تدمير كل شيء من حوله.

صوّر تيرينس ماليك فيلم الخيط الأحمر الرفيع في سلسلة من 10 أجزاء، ثم اكتشف أفضل القصص أثناء المونتاج. ومن المثير للدهشة أنه رغم هذا التصوير المعقد في مواقع صعبة، كان يوفر للممثلين فرصة أن يتعايشوا مع شخصياتهم، والتعبير عنها وفق قدراتهم. فقد رأى في جيم كافيزيل (نوعًا من التواضع) الذي يناسب شخصية “ويت”، وساعد أيضًا في قيام كافيزيل أثناء الاختبار بإهداء مسبحة لزوجة ماليك. ومن ناحية أخرى، جلب “شون بن” غير المتدين نزعة إنسانية صارمة إلى شخصية “ويلز”. وعندما سأله أحد الممثلين لماذا لم يتدربوا أكثر، أجاب ماليك: «الحياة كلها قد دربتك بما يكفي، وجهّزتك لهذه اللحظة».

الأراضي الوعرة

في فيلمه الأول الأراضي الوعرة “Badlands” عام 1973م؛ يتتبع تيرينس ماليك الظلمة القابعة في أعماق الإنسان بعين باردة، حيث يرتكب شاب يُدعى كيت “Kit” -والذي جسَّد شخصيته مارتن شين “Martin Sheen”- جريمة قتل في ولاية ساوث داكوتا في خمسينيات القرن الماضي، مع صديقته المراهقة هولي “Holly” -التي لعبت دورها سيس سباسيك “Sissy Spacek”.

وعلى عكس الأفلام الأكثر ابتذالًا حول نفس الموضوع لا يقدم “ماليك” أبطاله كمجانين، أو أشرار بطريقة خاصة- يتبادر إلى ذهني الآن فيلم قتلة بالفطرة للمخرج أوليفر ستون- ولو تتبعنا مع “كيت” جيدًا دوافعه للقتل، سنجد أنها مجرد رغبة في المغامرة واكتشاف السحر.

«إنه يقارن نفسه بجيمس دين». هكذا يكشف التعليق الصوتي لصديقته “هولي”، وهي ترافقه الرحلة دون أن تُفكِّر مليًّا في العواقب.

يعد هروب كيت وهولي في منتصف الليل، أحد أكثر المشاهد تأثيرًا، حيث يتوقفان على طريق سريع ناءٍ، ويتراقصان على أنغام أغنية لـ نت كينج كول، وأضواء مصابيح السيارة الأمامية.. أبرياء جدًّا، وقساة بشكل مخيف.

يصور تيرينس ماليك المناظر الطبيعية الأمريكية باهتمام كبير في فيلم “الأراضي الوعرة”. لديه إحساس حميمي بالصور الطبيعية. غالبًا ما يشعر الممثلون والعاملون بالإحباط عندما يقوم بتحويل الكاميرا عن المشهد الذي يتم تصويره لالتقاط سرب من الطيور النادرة أو فراشة عابرة.

على عكس الأفلام الأكثر ابتذالًا حول نفس موضوع “الأراضي الوعرة”؛ لا يقدم “ماليك” أبطال فيلمه كمجانين أو أشرار.

أيام الجنة

أثناء تصوير فيلم أيام الجنة “Days of Heaven” عام 1978- وهو مثلث حب تدور أحداثه في مزرعة في تكساس عام 1916- استغل تيرينس ماليك الساعة السحرية الفاصلة بين غروب الشمس وهبوط الليل، حيث امتلأت الشاشة بوهج حالم. يشتعل هذا التوهج عند النهاية، عندما يدرك المزارع الثري الذي يلعب دوره “سام شيبرد” أن زوجته تزوجته من أجل المال.

ويغزو السماء سرب من الجراد يهاجم المحاصيل، والمزارع يشعل حريقًا يخرج عن السيطرة تمامًا مثل غضبه من زوجته، ما يؤدي إلى مأساة لا مفرَّ منها. وهكذا برزت رمزيات الكتاب المقدس في فيلم تيرانيس ماليك في فترة مبكرة.

شجرة الحياة

وقد عالج هذه الرمزيات بشكل أكثر وضوحًا في فيلمه “شجرة الحياة” عام 2011م. ومنذ العنوان نكون في صحبة إشارة صريحة إلى جنة عدن، حيث يبدأ الفيلم باقتباس من سفر أيوب، يوبِّخ فيه اللهُ أيوبَ، بعد أن أرسل عليه حشودًا من البلاء: «أين كنت حين أسست الأرض؟ عندما ترنمت كواكب الصبح معًا، وهتف جميع بني الله؟». ومرة أخرى تصبح المعاناة الإنسانية والقسوة هي محور تيرينس ماليك في هذا الفيلم، وعلى عكس أفلامه السابقة، يعتبر فيلم “شجرة الحياة” بمثابة سيرة ذاتية إلى حدٍّ كبير. نحن في واكو، تكساس، في الخمسينيات من القرن الماضي، نتابع عائلة من الطبقة المتوسطة تتكون من ثلاثة أشقاء، أحدهم- كما علمنا في البداية- سيموت في شبابه. وما نعلمه عن ماليك أنه نشأ أيضًا في مدينة واكو في خمسينيات القرن الماضي، مع شقيقين أصغر منه، انتحر أحدهما أثناء دراسة الجيتار في إسبانيا!

وفي مقابلة نادرة أجريت معه عام 1975، قال ماليك: «لقد نشأت في بيئة عنيفة في تكساس.. ما أذهلني هو كيف اندلع العنف وانتهى قبل أن يكون لديكم الوقت الكافي لفهم ما كان يحدث!». وفي الفيلم، تتجسد وفاة الأخ في العدوان الذي أبداه الأب – يلعب دوره براد بيت- تجاه أبنائه. إنه قاس بشكل خاص على الصبي الأكبر جاك، يخيفه بغضبه على مائدة العشاء، يصرخ عليه لأنه قال “بابا” بدلًا من “سيدي”؛ ويعاقبه على ضرب الباب الأمامي بجعله يفتحه ويغلقه بهدوء 50 مرة.

يفضل جاك والدته، وهي امرأة لطيفة تتبع مثل الجندي “ويت” ما تسميه طريق النعمة، بينما يتبع زوجها مثل الرقيب “ويلش” طريق الطبيعة.

يقارن ماليك بين الزوجين من خلال تخصيص مقطوعات موسيقية مختلفة لهما. ترقص الأم في ضوء الشمس على أنغام أغنية بيدريش سميتانا التي تنشط مولداو بسعادة. يستمتع زوجها بالعظمة الكئيبة للسيمفونية الرابعة ليوهانس برهامز، ويجبر جاك والأولاد على الاستماع إليها، ويخبرهم برهبة أن أرتورو توسكانيني سجل المقطوعة 65 مرة قبل أن يقتنع بها. (ربما كان مالك يفكر هنا في كمالِه الاستبدادي)، يجلس الأخ الأوسط على الشرفة وهو يعزف على الجيتار.

عندما يكبر جاك، يكتشف العنف. يقوم بتعذيب الطيور والضفادع، ويطلق النار على شقيقه بمسدس هوائي. يكره والده كثيرًا ويدعو له بالموت. وفي أحد الأيام وجده يعمل تحت سيارة العائلة. تتبع الكاميرا عينيه إلى الرافعة التي ترفع السيارة، ويتخيل سحبها بعيدًا.

تتوازى أفكار “ماليك” مع المقدمة الغامضة غير العادية للفيلم، والتي تصور بداية الحياة على الأرض، حيث يقترب ديناصور من ديناصور آخر جريح يرقد على ضفاف نهر ما، ويفكر في سحق رأسه، لكنه في النهاية؛ مثل جاك، يقرر عدم القيام بذلك.

تتوازى أفكار “ماليك” مع المقدمة الغامضة لــ “شجرة الحياة”، حيث يفكر ديناصور في سحق رأس آخر جريح، لكنه مثل جاك، يقرر في النهاية عدم القيام بذلك.

براعة ماليك

يعدُّ تيرينس ماليك بارعًا في التقاط وبلورة ثيمات عالمية من التفاعلات اليومية المعتادة، حيث يمثل كلُّ مشهد موقفًا اجتماعيًّا غنيًّا بالملاحظة، ومفعمًا بالاستعارات العديدة للخير والشر والمعاناة والرحمة.

يمزج تيرينس ماليك بين الصورة والموسيقى بتوازن مدهش؛ ما يضفي على المـَشَاهد طابعًا سحريًّا خاصًا، في فيلمه الشهير إلى العجب “To the Wonder” في عام 2012م. والذي يدور عن زيارة عاشقيْن إلى دير مونت سانت ميشيل المذهل في نورماندي، والمعروف باسم “العجائب”. إنهما يداعبان بعضهما البعض على صوت المقدِّمة من بارسيفال لريتشارد فاغنر. والتي تدور حول رفض الحب الرومانسي لصالح الإلهي. وفي النهاية، تفشل العلاقة، وتعود شخصية كوريلينكو في اللقطة الأخيرة من الفيلم إلى جبل القديس ميشيل، وهي الآن وحيدة. ولكن عندما يتم تشغيل نفس موسيقى بارسيفال، فإنها لم تعد تبدو تهديدًا، بعد أن منح كل منهما الآخر متعة كبيرة وألمـًا كبيرًا أثناء علاقتهما، فقط بعد الانفصال يكتشفان حبًّا أكبر في مسامحة بعضهما البعض.. وهذه هي إن جاز التعبير: لحظة تيرينس ماليك المثالية.

كل مشهد لدى “ماليك” يمثل موقفًا اجتماعيًّا غنيًا بالملاحظة، ومفعمًا بالاستعارات العديدة للخير والشر والمعاناة والرحمة.

فاصل اعلاني