• English
  • 14 يناير، 2025
  • 7:04 ص

جان لوك غودار: النجم القطبي في السينما

img

ريتشارد برودي
ترجمة حورية الظلِّ

لم يقم المخرج الفرنسي جان لوك غودار فقط بتغيير أسس جماليات الصناعة السينمائية وممارستها، بل جعل منها الشكل الفني المركزي في عصره؛ لذلك لا أحد فعل ما فعله لصناعة أفلام شبابية، وقد ولد سنة 1930م في باريس، وتوفي يوم 13 شتنبر 2022 في سويسرا.
وأفلام غودار ألهمت الشباب في الستينيات لصنع أفلام تحمل نفس العمق الروحي الذي طبع أعماله، منذ أول فيلم طويل له وهو بعنوان”Breathless” ، كما أن أعماله تضمنت أفلام الإثارة السياسية، والكوميديا الموسيقية، والميلودراما الرومانسية، والخيال العلمي، وغالبًا ما كان يصنع أكثر من عمل سينمائي في السنة، وذلك نتيجة غزارة أفكاره، التي استطاع من خلالها تحويل الأفكار العادية والمألوفة إلى تدفُّق من الاعترافات الحميمية، وكنتيجة طبيعية لتوظيفه لعالمه الفكري الخاص به في أفلامه، مع الاستعانة بوفرة من الاقتباسات والتلميحات التي تشبه الكولاج. جعل من الأفلام التي يخرجها مختبرًا للإثارة والبهجة الجمالية والحسية
وما ميز غودار، أنه كان يعمل بسرعة، فيجمع بين الأحداث الجارية، بينما تكون لا تزال طازجة، فيحولها إلى إبداع، لكن لم تكن الأحداث الجارية وقتها فقط هي التي جعلت أفلام غودار تبدو وكأنها تجسيد لعصره، بل كانت جرأته، وتحديه، وحسُّ الدعابة الذي يتمتع به، وإحساسه بالحرية، أكثر من أي مخرج آخر، جعل المشاهدين يشعرون بأن أي شيء ممكن في الأفلام، وجعل مهمته العاجلة هي تمكينهم من اكتشاف ذلك بأنفسهم….
إجراءات جذرية
وكان غودار أيضًا أحد الفنانين المهمين الذين اهتم بهم الإعلام في فترة الستينيات، فلم يكن أقل شهرة من فرقة البيتلز، أو آندي وارهول، وقد عرف تأثير وقوة الشهرة والفن، فوحَّدهم في أعماله السينمائية لتحقيق التغيير الاجتماعي، وقد اعترف بمقارنته لمسيرته الفنية والشخصية بمسيرة بوب ديلان.
ومع ذلك، ومثل العديد من الفنانين العظماء في فترة الستينيات، وجد غودار أن صورته العامة وحياته الخاصة وشهرته وطموحاته متضاربة، ولإصلاح الأمر قام بإجراءات جذرية مكَّنته من الهروب من أسطورته الشخصية، بينما كان يلاحق فنه ويطوره بشكل حيَّر الكثير من أتباعه ومن الصحفيين الذين لم يتوقَّعوا شيئًا أكثر من عودته للأساليب والطرق التي جعلته مشهورًا.

4
وفي نهاية الستينيات اعتزل غودار السينما. تحت تأثير وضغط الفكر السياسي والنشاط اليساري، وفي سنوات السبعينيات غادر باريس متوجهًا إلى غرونوبل، حيث استقرَّ في بلدة رول السويسرية الصغيرة.
لكنه عندما عاد إلى الصناعة السينمائية، فعل ذلك من خلال استكشاف حياته الشخصية وتاريخ السينما معًا، فقام بصناعة سينمائية أكثر جرأة. أعاد من خلالها توظيف التقنيات السينمائية الجديدة. وما احتفظ به غودار حتى نهاية مسيرته السينمائية، أي حتى إصدار فيلمه الروائي الأخير “The Image Book” سنة 2018، هو إحساسه بالشباب، وحبه للمغامرة. ففي شيخوخته، ظل أكثر مرحًا وأكثر استفزازًا، وبكل بساطة أكثر شبابًا في الروح من صانعي الأفلام الأصغر سنًّا.

كان غودار أحد الفنانين المهمين الذين اهتمَّ بهم الإعلام في فترة الستينيات، فلم يكن أقل شهرة من فرقة البيتلز، أو آندي وارهول.

ما احتفظ به غودار حتى نهاية مسيرته السينمائية، أي حتى إصدار فيلمه الروائي الأخير “The Image Book” ، هو إحساسه بالشباب وحبُّه للمغامرة.

الموجة الجديدة
أما نشأة غودار فقد كانت في بيئة برجوازية مريحة، حيث كان والده طبيبًا، ووالدته مساعدة طبيب، وحظي بتشجيع أسرته لتطوير اهتماماته الفنية، لكن توجهه إلى صناعة الأفلام كان ثورة واعية ضد تراثه الثقافي ،من خلال بحثه عن ثقافة خاصة به، وبفضل شغفه الكبير بالسينما، ونتيجة حماسه الفكري، أوجد ثقافة جديدة ساعدته على الارتقاء بأعماله السينمائية إلى مستوى الكلاسيكيات.

image (2)
وما يمكن تأكيده، أنه لا يمكن فصل اسم غودار وأعماله الفنية عن الموجة الفرنسية الجديدة، التي أسسها مع مجموعة من صانعي الأفلام. الذين ظهروا لأول مرة كنقاد سينما في الخمسينيات، وهؤلاء هم: فرانسوا تروفو، وجاك ريفيت، وكلود شابرول، وإريك رومر. وقد نشروا ما كتبوه في مجلة Cahiers du cinéma )كراسات سينمائية( التي تأسست سنة 1951، وبدلًا من انضمامهم إلى معهد للسينما، وقد كان موجودًا بالفعل في فرنسا، درس غودار وزملاؤه فن السينما من خلال مشاهدة الأفلام الجديدة والكلاسيكيات، بمكتبات السينما ونوادي السينما الباريسية، وقد تشاركوا وتقاسموا حبًّا روحيًّا للسينما ،وأدركوا عبقرية بعض صانعي الأفلام. كألفريد هيتشكوك، وهوارد هوكس، لكنهم غالبًا ما تم ازدراؤهم وتجاهلهم من قبل نقاد السينما المعروفين، والذين اعتبروهم مجرد صانعي أفلام مجهولين ومبتذلين.
وفي الحادية والعشرين من عمره، نشر غودار في مجلة “كراسات سينمائية” بحثًا بعنوان “الدفاع عن البناء الكلاسيكي وتوضيحه”، وهو أحد البيانات العظيمة حول الحرية الفنية والتي بررها بصرامة. وفي الخامسة والعشرين من عمره، كتب مقالًا كلاسيكيًّا مهمًّا عن مونتاج الأفلام، أو “المونتاج” ، والمقال حدد حياته المهنية، وكان غودار الوحيد من ضمن سينمائيي جيله المنضوين تحت لواء تيار الموجة الجديدة، الذي استطاع أن يجعل من أفلامه أعمالًا حية ومثيرة للجدل في النقد السينمائي، نتيجة انفتاحه الصريح، وحماسه الذي ظهر واضحًا من خلال هذه الأفلام، حيث مزج بين قناعاته النظرية والروحية.

2560ced53a0c1ac8e8af25b5988b7cb2

أفلام غودار ألهمت الشباب في الستينيات لصنع أفلام تحمل نفس العمق الروحي الذي طبع أعماله منذ فيلمه الأول.

كسر القواعد
وتحمل العديد من أفلام السينما الحديثة لمسة غودار، مثلًا تقنية the jump cut، وهي تقنية استخدمها في فيلم “Breathless” عندما اضطر إلى اختصاره إلى تسعين دقيقة فقط، حيث فضَّل حذف مقاطع من اللقطات بدلًا من حذف مشاهد بأكملها، وقبل غودار، كانت تقنية the jump cut تعدُّ خطأ في السينما، وعلامة على الهواية وليس التخصُّص،…فأعلن بذلك بأنه قد كسر قواعد السينما التقليدية.
وما فعله غودار أيضًا، أنه منح الصناعة السينمائية القائمة على الشراكة طابعًا جديدًا من خلال التعاون مع جان بيير غورين في أواخر الستينيات، ثم مع شريكته وقتها آن ماري مييفيل في السبعينيات، وخلال نفس العقد، أي عقد السبعينيات، أدخل تقنية الفيديو إلى أفلامه، كما أنتج مع شريكته مييفيل، مسلسلين تلفزيونيين طويلين، أحدهما يستمر حوالي خمس ساعات، والآخر حوالي عشر ساعات، وقد وظف من خلالهما أفكارًا جعلت خياله الإبداعي يبدو بلا حدود.
ومن خلال عودة غودار إلى الأفلام الطويلة الاحترافية مثل فيلم “Every Man for Himself” ، لسنة 1980 ، أنتج نوعًا من الأفلام ذات الحركة البطيئة التحليلية التي تستند إلى أساليب الفيديو.
وما يُحسب لغودار أنه كان غزير الإنتاج أثناء اندفاعه الفني والسينمائي الأول، لكن هذا الإنتاج أصبح أكثر غزارة بعد عودته التي أعقبت ابتعاده المؤقت … وكدليل على ذلك، تصويره لعمله الضخم ” Histoires du Cinéma ” وهو عبارة عن سلسلة من الأفلام.

Band-Of-Outsiders-01
ومنذ البداية، صنع غودار أفلامًا ذات طابع سياسي، وقد تم حظر فيلمه الثاني، Le Petit Soldat ، لسنة 1960، والذي يدور حول معارك التجسُّس خلال الحرب الجزائرية الفرنسية (حرب التحرير الجزائرية)، وحتى بعد تخليه عن الماركسية الأرثوذكسية في أعماله في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، لم يتخلَّ أبدًا عن السياسة، ففي فيلم “king lear” لسنة 1987، جعله متمحورا حول كارثة تشيرنوبيل، أما فيلمه “For Ever Mozart” لسنة 1996 فصوَّر من خلاله الحرب الأهلية في يوغوسلافيا السابقة، وأيضًا نجد فيلمه الطويل لعام 2010 وهو بعنوان “Film Socialisme” يدور في السياق نفسه.

قبل غودار كانت تقنية the jump cut تعدُّ خطأ في السينما، وعلامة على الهواية لا التخصُّص.

كفاح حتى النهاية
ومع ذلك، وبعدما قفز غودار من قطار الإبداع السريع في الستينيات ،… فإن أفلامه اللاحقة- حسب رأيي- تبقى أكثر إبداعًا، بل وأكثر إبداعًا من تلك التي صنعت اسمه؛ وذلك لأنها أكثر تحديًا، فإذا كانت أفلامه السابقة تعني أن أي شيء ممكن، فإن أفلامه اللاحقة تدفع الاحتمالات إلى حدِّ أنها تتحدَّى صانعي الأفلام الأصغر سنًّا لتجريب صناعة سينمائية مشابهة، فكانت طريقته في الحفاظ على شبابه السينمائي تتلخَّص في إغراق الجيل الجديد من صانعي الأفلام الشباب بقوته وبراعته الفنية الخاصة، وهذه البراعة ظهرت أيضًا في المقابلات التي كان يجريها، حيث كان محاورًا بارعًا طوال حياته المهنية، ولا يُفسَّر ذلك على أنه رفض رجل عجوز مشاكس لخلفائه الشباب من صناع السينما، ولكنه كفاح شاب أبدي من أجل إيجاد مكان له في العالم، من أجل جعله أفضل مما وجده.
لكن غودار بعدما انتقل إلى الهامش، أصبح غريبًا مرة أخرى، وعاش وعمل بطريقته. وكافح حتى نهاية حياته، لقد كافح دائمًا من أجل الصعود والارتقاء، ولو من خلال مرتفعات التاريخ السينمائي التي كان قد ارتقاها من قبل.

المصدر: مجلة The New Yorker.

فاصل اعلاني