السينما السعودية في خطٍّ بياني متصاعد
عرفان رشيد
6 June، 2022
ثمةَ صورةٌ تَعْلَقُ في ذهني وذاكرتي منذ اكثر من عقدين، وربّما لن تغادرهما ابداً، لأنّني سأحتفظ بها كواحدة من الذكريات الجميلة. كنّا في بدايات ديسمبر في مطلع الألفية، وكنت في دبي عندما رنّ جرس الهاتف في ساعة مُبكّرة من الصباح:
“هل أفقتَ من النوم؟”. “نعم”. إذاً حضّرْ نفسَك، سأَمرُّ عليك خلال نصف ساعة، سنذهبْ إلى البرّ، أودّ أن أُريك شيئاً جميلا..كان محدّثي على الطرف الآخر من الخط هو زميلي وصديقي الشاعر والاعلامي الإماراتي ظاعن شاهين، وكان ذلك هو الصباح التالي لليلةٍ ماطرةٍ في دبي. وخرجنا الى البر، كان رمل الصحراء قد اكتسى بصُفرة غامقةٍ تُقارب البنّي، وبدتْ وكأنّها اكتست برداءٍ شتوي، وبدا ذلك الرداء المنبسط كسجّادةٍ واسعة ملأى بامتداد من العشب على مدّ البصر. “هي ذي صحراؤنا” قالها لي ظاعن شاهين مزهواً بما يُختَزَنُ في قلب تلك الرمال. “إنّها تبدو وكأنها مجرّد امتدادٌ شاسعٌ من الرمل الساكن الذي لا يتحرك إلاّ سطحُه بفعل الريح، لكن، ما أنْ تهطُلُ زخّات مطر قليلة حتى تُعشب الصحراء وتُزهرْ..”.
هذه الصورة اتذكّرها دائما حين أجد نفسي أمام شيءٍ أو حالةٍ تبدو في ظاهرها وسطحها ساكنة، مُقفرةً جدباء، وقد عادت الى ذهني من جديد وانا أقف قُبالة الواقع السينمائي السعودي في الشهور الأخيرة، وأمام ما يُرسَمُ لهذه الصناعة ولهذا الانتاج الابداعي الواسع في بلد، كان يبدو، حتى وقتٍ قصيرٍ للغاية، أبعد ما يكون من اعتلاء منصة عالية في خارطة الإنجاز السينمائي في المنطقة وفي العالم. ويبدو أن المطر الكريم الذي هطل من السماء في العهد الجديد في المملكة العربية السعودية قد أشرعَ أبواباً كثيرةً، وفتح بوّابة هامّة للابداع البصري وللصناعة السينمائية؛ وإذا ما كان من المبكّر ان نتحدّث اليوم عن “صناعة حقيقيّة” للسينما بكلّ ما تعنيانِه هاتان الكلمتان بالفعل، فإنّ مفردات وعناصر هامّة في هذا الإطار بدأت ملامحها تتشكل كقطرات الماء الجاري والمتحولة الى غُدرانٍ ساعيةٍ الى النهر، وهو بدوره يسعى الى البحر والمحيط.
استوديوهات مفتوحة
فالطاقات الابداعية موجودةٌ، والبنى التحتية يتمّ تأسيسها، والطبيعة الخلابّة والمتنوّعة بدأت تبرز أمام مرأى الناس، وهي تبدو وكأنّها عبارة عن استوديوهات مفتوحة في الهواء الطلق، ناهيك عن بلد فيه عشرات الملايين من السكان، يُشكّل جزءٌ منه ذلك الجمهور المتعطّش للسينما، والذي “كان يقطع مئات الكيلومترات في الماضي للذهاب الى البحرين لمشاهدة عروض الافلام في الصالات”، كما أكّد لي أكثر من سينمائي ومتابع سعودي. لقد صار بإمكان هذا الجمهور اليوم أنْ يخرج من منزله برفقة عائلته ليذهبوا الى واحدةٍ من عشرات الصالات المنتشرة في مدن المملكة لمشاهدة فيلم، ومن ثمّ ليتناولوا عشاءهم في مطعمهم المفصّل وليعودوا الى دارهم ليناموا تحت سقفه.
والأهم من ذلك هو تواجد الرغبة لدى المسؤولين في الدولة وفي مؤسسات القطاع الثقافي والاعلامي لتوفير ما هو ضروري لانجاز نقلة في هذا المجال.
كلّ ذلك يتقاطع إيجابًا مع الشغف الكبير الذي ميّز سينمائيي السعودية، منذ بدايات ثمانيات القرن الماضي، عندما ابتدأ المخرج والمنتج عبدالله المحيسن رحلته الطويلة التي بادرها كمن يمخُر عباب البحر حول العالم في قارب هو ربانه ومسافره الوحيد؛ كان عبدالله المحيسن، كما تقول السينمائية هناء العمير “يحفر في الصخر بأظافره، وقد أفضى به ذلك إلى أن يفتح لنا طريقاً واسعاً وطويلاً…”.
في البدايات، نُظرَ الى عبدالله المحيسن، كما لو أنّه حالمٌ يرفض الاستيقاظ من النوم كي لا تتسرب صور الحلم من أمام عينيه. لقد أُتيحت لي فرصة التعرّف عليه في مهرجان القاهرة السينمائي في مطلع تسعينات القرن الماضي، وربطتني به صداقة وثيقة، كنّا حالِمَيْنِ معاً: هو ببناء سينما سعودية مبدعة، وأنا بالعودة الى بغداديَ وقد تحرّر الوطن العراق من ربقة ديكتاتورية صدام حسين.
خطوات شغوفة
ما يحدث اليوم على الساحة السينمائية السعودية ينطلق من ذلك البعيد وهو امتدادٌ طبيعي لتلك الخطوات الشغوفة التي ميّزت عبدالله المحيسن وعدداً قليلاً من الذين وثقوا بشغفه وحلمه في إطار عامٍ لمجتمع كان ينظر الى السينمائي، في أفضل الأحوال، بعين ذاهلةٍ ومنتقدة.
ملمحان أساسيّان يميّزان السينما السعودية الحالية: انطلاقها من تجربة ريادية كتجربة عبدالله المحيسن؛ وبناؤها المستند على الطاقات الشابّة. والميّزة الأكبر لكلّ هذا هو التواصل وعدم الانقطاع، فما أنجزته هيفاء المنصور ومحمد الظاهري وعهد كامل وعبدالله آل عيّاف وأحمد الملا وريم بيات، كان تواصلاً مع ريادة عبدالله المحيسن، وتمهيداً لميلاد جيل هناء العمير وشهد أمين وعبدالعزيز الشلاحي ومجتبى سعيد وعبدالمحسن الضبعان، وكثيرون غيرهم. إنّها فترة طويلة ومليئة بالتفاصيل الكثيرة، حدث خلالها انعطاف مهم بتأسيس “مهرجان أفلام السعودية” في عام 2008.
واذا كانت الصحراء الاماراتية قد اخضرّت بزخّة مطر فإنّ ما يمور ويتحرّك تحت رمال الجزيرة العربية سيطلُع الى السطح ويُينعُ ورداً وشجراً.
ملمحان أساسيّان يميّزان السينما السعودية الحالية: انطلاقها من تجربة ريادية كتجربة عبدالله المحيسن؛ وبناؤها المستند على الطاقات الشابّة. والميّزة الأكبر هو التواصل وعدم الانقطاع.