• English
  • 4 نوفمبر، 2024
  • 4:11 ص

المونتاج الشبكي للأزمنة المتعددة: سيرجيو ليوني وايليا سليمان… إنموذجاً!

المونتاج الشبكي للأزمنة المتعددة: سيرجيو ليوني وايليا سليمان… إنموذجاً!

29 July، 2022

فجر يعقوب

يقيناً أن فن المونتاج السينمائي قطع أشواطاً هائلة في تطوره عبر أكثر من مئة عام من تاريخ السينما وفن صناعتها، بالرغم من التزامه حرفياً بالأنواع التي اتفق عليها السينمائيون، والنقَّاد، والمؤرخون، وكل من يمتلك علاقة وثيقة بالفن السابع عبر عقود تطوره وقفزاته التقنية الهائلة التي صار يعيش على وقعها مع ولادة كل أسلوب متفرد لهذا المؤلف السينمائي، أو ذاك، وصار لكل واحد منهم، ما يمكن أن نطلق عليه، أسلوبية التفكير السينمائي الخلاّق، التي تكمن في عملية اخراج الفيلم الثانية، لأن المونتاج قبل هذا وذاك، هو نظرية تفكير، ميكانيكي، عقلي، تأملي، لا ينجرف وراء العواطف والمشاعر التي تتأتى من خلاله، إذ يسبق كل هذا نوع من المحاكمات العقلية التي تخضع لهذه الأسلوبية الخلاَّقة في تمكين الفيلم من آلية سرد غير متوقعة، ولم يكن ممكناً الاستمرار في الحكاية التي تعرض على الجمهور حال خروج الفيلم إلى النور دون هذا النوع من المحاكمات الرياضية التي عادة ما تلعب دور المخرج – المفكر، بعد انتهاء المخرج – المؤلف من أدواره المتعددة في نقل قصة فيلمه، ليصبح قابلاً للمشاهدة، كما تفترض طقوس المشاهدة وأنواعها أيضاً.

بالطبع، لن يمكن حصر فنون المونتاج ونظرياته حتى في مجلدات متخصصة، وبخاصة إن تطلَّب الحديث هنا عن مونتاج سينمائي عربي في مواجهة مونتاج سينمائي عالمي، مع إدراكنا لأهمية الآلة ومنها طبعاً آلة المونتاج، وهي منتج غربي بامتياز، وسبق ولعبت اللغات اللاتينية نفسها دوراً في غاية الأهمية في نوع مونتاج الحروف التي تنشأ عنها الكلمات والجمل، وهو ما أشار له عالم الاتصالات الكندي المعروف مارشال ماكلوهان في ستينيات القرن الماضي بقوله إن الغرب كان سبَّاقاً في استيعاب الآلة ودورها، بأسرع من أصحاب الحضارات الشفوية الذين أبدوا ليونة عقلية مختلفة في هذه العملية المعقدة، وبالتالي إمكانية حصر آلية المونتاج بكل أنواعه بالغرب، دون أن يلحظ بالطبع إصرار السينمات الأخرى على تطوير محاكمات عقلية لأنواع من المونتاج والتركيب السينمائيين تتواءم مع شروط الإنتاج السينمائي عندها، وهو ما لا يمكن نكرانه على أية حال بغض النظر عن “نظرية” ماكلوهان المتجنية في جوانب كثيرة منها.

هنا سنقف متأملين لفيليمن اثنين يمكن الحديث – مونتاجياً- عنهما  بنوع من الحياد الفني والفكري، باعتبارهما قطعتين فنيتين قائمتين على أنواع من السرد الشبكي الذي يمثله فيلم “حدث ذات مرة في أميركا” 1984، للمخرج الإيطالي الراحل سيرجيو ليوني، وفيلم “الزمن الباقي”  2010 للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان، الذي يمثل بدوره نوعاً من مونتاج ذهني متقدم يتطلب مشاركة ذكية من مشاهد الفيلم، ولا يمكن في الحقيقة انجاز ذلك التواصل دون هذه المشاركة، في حدّها الأعلى في الحقيقة. لأن الفيلم يخرج عن طرق السرد التقليدية، وينتقل عبر الأزمنة من داخل اللقطة الواحدة، ومن خلال أفعال الممثلين التي تأخذ دور الفك والتركيب في الفيلم. فنحن نادراً ما نقع على حركة الكاميرا التي تتطلب تنفيذاً تقنياً خالصاً عند تركيب اللقطات، بينما نظل شهوداً على لقطات ثابتة في معظمها، وما يدور في المشاهد التي تعرض أمامنا لا يتعدى حركة الممثلين ضمن فضاء اللقطة، مستعيناً بسرد ما بعد – حداثوي للمأساة الفلسطينية بوجوهها المتعددة، أي أن المشاهد والمخرج على حد سواء هما من يقوما بالمونتاج العقلي-الذهني، بغية التمكن من المضي بالفيلم الى الحدود القصوى درامياً وتشكيلياً.

المونتاج، نظرية تفكير، ميكانيكي، عقلي، تأملي، لا ينجرف وراء العواطف والمشاعر التي تتأتى من خلاله.

“الزمن الباقي”: مونتاج ذهني لحكاية متشظية

فيلم الزمن الباقي

انها قصة المخرج – المؤلف التي دفعت به ليختار هذا النوع من الاستعارات البصرية لحكاية شخصية يتدخل فيها الأب، وهو هنا يمتلك سردية مقنعة عن الأحوال التي سبقت نكبة 1948، والأم التي تظل تراقب الأحداث التي ترتبت عن تلك النكبة من موقع الصمت بغض النظر عن نوع هذه الأحداث التي ستمضي بالفيلم الى نهايته، وتفتح أفقاً مختلفاً للابن (لعب دوره إيليا سليمان) عن الأب فؤاد (لعب دوره صالح البكري)، وما كان ممكناً أن تدور من أحداث من خلالهما بوصفهما قابضين على مجرى هذه الأحداث.

 وذلك بحسب طريقة المخرج في سرد حكايته عبر اللجوء إلى المناورات العقلية في تركيب الحدث نفسه، من استعارات ذكية، ظاهرها خلخلة النص السينمائي المكتوب، وباطنها العمق الذهني الناتج عن سرد مأساوي لحكاية أراد لها إيليا سليمان أن تُروى بعينه، وهو المتلصص في حضوره، اذ لا يمكن اغفال أن التلصص المتقطع الذي يمارسه هنا يظهر أبعاداً كامنة في السخرية السوداء بإعادة رواية أحداث كثيرة ترافق هذه المأساة.

المخرج الفلسطيني إيليا سليمان

ويمكن القول إن إيليا سليمان يؤسس هنا عبر هذه التراكيب العقلية لنوع من السخرية من الذات لم يكن معروفاً من قبل، أقله في السينما الفلسطينية، وهذه السخرية التي تميل على استعارات منظمة في عالم من الفوضى إن جاز التعبير لم يكن ممكناً تحقيقها، أو التحقق منها دون هذا المونتاج الذهني الذي يسمح للمشاهد بالسباحة الحرَّة الخلاَّقة بين فصول، وأزمنة الفيلم المختلفة.

فيلم الزمن الباقي لإيليا سليماني

المونتاج الذهني الذي اختاره إيليا سليمان لفيلمه يترك عند كل مشاهد أحقّية أن يختار طريقته في تقبل نوع السرد الذي يريده، حتى تبدو الحكاية برمتها، وكأنها تفصيلات خاصة على مقاس كل مشاهد على حدة. فما يبدو مشهداً صادماً للبعض، قد يبدو للبعض للآخر نوعاً من سردية لم يكن ممكناً تحقيقها دون التوغل في نوع الكادر الذي يريده المخرج، وهو الكادر الذي يفرض أيضاً وصاية مونتاجية على المشاهد نفسه، لا يمكن أن تتحقق الحكاية الا من خلاله. وهنا ربما تكمن أهمية فيلم “الزمن الباقي” الذي أضاف شيئاً من جودة التوليف العقلي على حكاية قد تبدو للوهلة الأولى، مجرد حكاية غارقة في التفكك، والتشظي، ولا يمكن جمعها في قالب واحد، أو قل إن القالب عصي على التخلص من هذا التشظي والانفلاش السردي، وبحاجة لمونتيير عبقري حتى يستخلص منها الفيلم، ولكن تطور النوع السينمائي، وممكناته في رواية الحكاية جعلت من بنية الفيلم مسرحاً حياً قابلاً للتكيّف مع كل تفصيل من تفاصيله الكثيرة التي تتدافع في جسم حكائي واحد.

المونتاج الذهني الذي اختاره إيليا سليمان لفيلمه يترك عند كل مشاهد أحقّية أن يختار طريقته في تقبل نوع السرد الذي يريده.

“حدث ذات مرة في أميركا”: تأجيج الفيلم شبكياً

ليس بعيداً نوع المونتاج الشبكي القائم على رواية الأزمنة الثلاث من الفيلم، أنها جاءت، وهذا مجرد تخمين، بسبب رفض المنتجين لفيلم سيرجيو ليوني الملحمي لطوله الذي كان سيمتد أولاً على ست ساعات، عبر جزأين اثنين كما خطط له، وقد أعمل المنتج فيه مقصه قبل المونتيير، واستعاض عن هذه الخطة السينمائية الطموحة والشجاعة بنسخة من أربع ساعات تقريباً.

واضح أن بنية الفيلم لمن يمتلك ذهناً سينمائياً صافياً يشعر بنجاعة البعد الشبكي المونتاجي الملحمي الذي اعتمده ليوني بعد صدامه التاريخي مع منتجي فيلمه، وبالتأكيد لم يكن ممكناً النجاة بالفيلم، وملحميته المتعددة الوجوه بصرياً وحكائياً دون هذا البناء الدرامي المتعدد الخيوط الذي أبدع فيه صاحب “حدث ذات مرة في الغرب”، وخلَّف وراءه تحفة سينمائية رغم كل محاولات التخفف من حمولتها البصرية-الملحمية الواضحة للعيان لكل من يشاهدها، ويعيد مشاهدتها.

حدث ذات مرة في أميركا

نحن نراقب من خلال عيني ديفيد (روبرت دي نيرو)، واسمه الشائع في الفيلم نودلز كيف ستتطور حكاية فتية من اليهود الايطاليين يعيشون في غيتو نيويوركي على الهامش، وتحديداً في مدينة مانهاتن، ليصبحوا رموز عصابة قوية، تتبدل من خلال نشاطاتها الاجرامية حياتهم، ويعيشون من خلال هذا السرد الشبكي غير الانتقائي في الواقع  والممتد على سنوات الثلاثينات والأربعينات والستينات من القرن الماضي، ليصنع ملحمة سينمائية مبهرة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فقد توفرت لها خيوط السرد الخلاَّقة، وموسيقى انيو ميركوني التي لعبت دوراً في إعادة تربيط حكاية الأبطال، وتمتينها على نوع لا يمكن التفلت منه أبداً بالرغم من إساءة المنتجين التي لا تغتفر للفيلم وزمنه الذي لا يعود واقعياً هنا، إن أخذنا بعين الاعتبار هذا التداخل الخلاَّق في رصد الأزمنة الثلاثة التي شاءها ليوني لفيلمه، وهو ما يعني هنا أن عقله كان متوقداً للغاية، ويمكن القول إنه قد نجح في صون فيلمه من الضياع.

هنا لعب المونتاج الشبكي دوره في تكوين علاقات بصرية خاصة بهذا الفيلم، وقد تحولت هذه الخاصية السلبية في التعاطي الإنتاجي المتسرع مع مدة الفيلم إلى مدرسة سينمائية في المونتاج يمكن تقديمها اليوم بمزيد من الثقة لطلاب السينما، وللهواة، وللمحترفين على حد سواء.

المخرج سرجيو ليوني

تتداخل الأزمنة، وتتشابك في الفيلم البديع بكامل مكوناته، ويصبح مونتاج الصوت في جانب منه ناظماً ابداعياً لحكاية نودلز المطلوب في هذه اللحظة للعصابة التي وشى بها للرقيب في البوليس هالورين. يقتلون صديقته ايفي أولاً التي لا تعرف مكاناً له، ثم يحاولون الاجهاز على فات مو في خمارته، ولكنه يتدخل وينقذه في اللحظات الأخيرة. يلعب صوت جرس التليفون منذ لحظة تواجد نودلز في مكان صيني لتعاطي الأفيون دوراً توليفياً لما يريد ليوني أن يقوله لنا في هذه الحكاية المتداخلة، والتي تدور حول نفسها في بنية سينمائية خالصة، ونمّر مع الصوت على مقتل أصدقائه الثلاث، وحتى لحظة وقوفه كشاب أمام لوحة مكتوب عليها اعلان سياحي، وظهوره كعجوز في اللقطة التالية ينتمي إلى زمن منهار كلياً يبحث في ذكريات تائهة اذ يعود متخفياً باسم روبرت وليامز بعد 35 عاماً من اختفائه.

تقوده قدماه أو ذكرياته على وجه التحديد إلى حانة صديقه فات مو، ومن هناك ينظر من فتحة في الجدار، وينعكس الضوء على عينيه، ما يعني أن فعل التلصص مكتمل تماماً، وتتبدل الموسيقى لتعود به إلى الزمن الأول حين يشاهد الفتاة ديبرا، وهي تتعلم الرقص في مخزن الحانة.

ما سيحدث بعدها هو ترجيع فني مضمر بطله المونتاج الشبكي، اذ ستظل ذكرى لقائه به، وقراءتها عليه نصاً مسرفاً في شبقيته من العهد القديم تذكر به حتى مع ولوغهما الأزمنة الثلاثة، وكأن قصة حبهما هي الناظم الدرامي لثيمة الفيلم، وما يدور من توليف لهذه الأزمنة لا يتعدى في الواقع أحقيّة القصة بالسرد المقطعي، وهو سرد أدبي في غاية الذكاء، ويفوق الوصف حقيقة، اذ سرعان ما يعتمد ليوني لقطات تفصيلية ذكية للانتقال الحر من زمن إلى آخر دون الشعور ببهتان زمن عن آخر، بالرغم من تعقد العلاقة نفسها بين الأصدقاء الذين كوَّنوا عصابة متحدة برئاسة ماكسي القادم من حي برونكس، ويمتلك مؤهلات قيادية بارزة، تظهر أقرب إلى استعدادها للصدام مع نودلز، في محطات كثيرة. وهذا الخلط في هذه الأزمنة يدفع بالفعل إلى التمهيد لنوع العلاقة الملتبسة التي تقود العصابة إلى الإفلاس بعد فك حظر بيع الكحول، وهو المصدر الرئيسي للمدخولات الخيالية التي يعيشون من ورائها مثل أباطرة للأزمنة الثلاث التي تتشكل منها خيوط الفيلم.

العلامات المونتاجية كثيرة في هذا الفيلم، وكل علامة على حدة تستحق بالفعل تمجيداً على بياض للمونتاج الخلاّق في سرد حكاية، ما كان يمكن بالفعل أن تستثمر لولا توليف الأزمنة الثلاث التي غاص فيها الفيلم حتى أنتج درساً كبيراً وممتعاً في فن المونتاج السينمائي.

العلامات المونتاجية كثيرة (في فيلم سرجيو ليوني) وكل علامة على حدة تستحق بالفعل تمجيداً على بياض للمونتاج الخلاّق في سرد حكاية… حتى أنتج درساً كبيراً وممتعاً في فن المونتاج السينمائي.

من خلاصة ما تقدَّم، أن فن المونتاج السينمائي لا يقف عند قوانين معينة، جرى الحكي عنها قبل مائة عام، أو أكثر، بل إن كل مبدع سينمائي قادر على سرد حكايته بطريقته، فقد وضعت هذه القوانين ليخترقها المبدعون، لا ليقفوا عندها، وليس أمام المبدع إلا اجتراح أسلوبيته، وحينها يمكن لكل فيلم أن يصبح تحفة قائمة بحد ذاتها، وهذه هو ملخص الحديث عن فيلمي “الزمن الباقي” و”حدث ذات مرة في أميركا” وهو حديث لا يتوخى المقارنة بالطبع بقدر ما يضع اليد والفكر على أسلوبيين إبداعيين في التأليف والتفكير السينمائيين، من خلال توليف شبكية الأزمنة المتعددة.

فاصل اعلاني