• English
  • 20 يناير، 2025
  • 5:26 ص

إيليني كاريندرو في سينما ثيو أنجيلوبولوس: عندما يصير الصمت موسيقى

إيليني كاريندرو في سينما ثيو أنجيلوبولوس: عندما يصير الصمت موسيقى

29 July، 2022

بقلم وفيقة المصري

يحفل عالم السينما بثنائيات سينمائية- موسيقية، وليدة التعاون القائم بين المخرجين والمؤلّفين الموسيقيين. فمثلًا ارتبطت أفلام المخرج الإيطالي فيديريكو فيلني باسم الملحن الإيطالي نينو روتا، والمخرج الياباني أكيرا كوروساوا بالملحن الياباني فوميو هاياساكا، والمخرج البولندي كريستوف كيشلوفسكي بالملحن البولندي زبيجنيو برايسنر، ما يعكس أهمية أن تكون الموسيقى عنصرًا موحدًا مع الصورة ومبنيًا على انسجام وتفاهم كل من المخرج والملحّن، حتى لا تصير مجرد موسيقى خلفية أو دخيلة على الصورة، يمكن استبدالها أو الاستغناء عنها كليًا.

في سينما المخرج اليوناني ثيودور أنجيلوبولوس برعت الملحنة اليونانية إيليني كاريندور في جعل الموسيقى امتدادًا نابعًا من الصورة وعنصرًا محوريًا في الأفلام لا جماليًا فحسب. إذ إن تداخل الموسيقى التصويرية مع أصوات الشخصيات، وإيقاع الأمكنة الداخلية والخارجية يرفع من مستوى المشاهدة ويجعل منها تجربة أكثر روحانية وشاعرية. وعن علاقتها بأنجيلوبولوس تقول كاريندرو إنها انبنت على “كيمياء خاصة منذ اللحظة الأولى”(المصدر). إذ إن إعجابها بأفلامه ساعدها كثيرًا في تأليف الموسيقى التصويرية، فقد كانا يتناقشان مطولًا بعد أن يشرح لها الثيمات المتعلقة بالمشاهد التي يريد تصويرها. لذلك بدلًا من تصوير المشاهد ثم تسجيل الموسيقى، كان يجري دمج الاثنين في موقع التصوير، مما يجعل العاملين يشعرون باللحظة أكثر. يقول أنجيلوبولوس: “الموسيقى كلها تكون مسجلة وقت التصوير. كنا نعمل مع آلة تسجيل وجهازيْ ميكروفون، أحدهما للحدث والآخر للموسيقى، دون إضافة أي شيء في ما بعد”.

تأثرت موسيقى كاريندرو بألحان الأغاني البيزنطية التي كانت تستمع إليها في كنيسة قريتها، والتي استمرت في العودة إليها حتى بعد انتقالها إلى الدراسة في أثينا. أما عن الآلات التي تستخدمها في تأليف ألحانها، فهي آلات تقليدية كالقيثارة والسنتور والأوكورديون وغيرها. لكن الحزن يظلّ الطابع الغالب على ألحانها، مما يجعلها مناسبة لثيمات أنجيلوبولوس وأفلامه التي تتمركز حول الاغتراب والفقد والبحث عن هوية الذات بين الماضي والحاضر. تقول كاريندرو: “أعبر عن مشاعري من خلال الموسيقى؛ هناك بعض الأشياء التي جرحتني كموت أمي عندما كنت في السابعة من عمري، وانتقالي من الريف إلى أثينا. وبعد ذلك جاءت الديكتاتورية اليونانية. كل هذه أمثلة على الانفصال والفقد، ومع ذلك لا أشعر أن موسيقاي تعكس الميلانخوليا، فهي لا تكسرك، بل تجعلك تشعر بجانب أعمق من الحياة. لربما كانت النوستالجيا كلمة أفضل لوصفها”(المصدر).

إيليني كاريندرو

وعلى الرغم من أن أنجيلوبولوس قد رفض استخدام أي نوع من الموسيقى الخلفية في بداية مسيرته، باستثناء الموسيقى التي تصدر من الطبيعة، فقد غيّر نهجه منذ بداية تعاونه مع كاريندرو. في سينما أنجيلوبولوس هناك الكثير من مشاهد الصمت الطويلة التي تحترم المشاهد وتترك حيزًا رحيبًا لأفكاره كاسرةً الرتابة وتلقائية المشاهدة. وفي هذا السياق تأتي موسيقى كاريندرو لتأخذ بيد الصمت وتحوله إلى كلام من نوع آخر.

ارتبطت أفلام فيللني بالملحن نينو روتا، وكوروساوا بفوميو هاياساكا، وكيشلوفسكي بزبيجنيو برايسنر، ما يعكس أهمية أن تكون الموسيقى عنصرًا موحدًا مع الصورة ومبنيًا على انسجام وتفاهم كل من المخرج والملحّن.

صمت التاريخ

ثيو أنجيلوبولسبدأ التعاون بين المخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس وإليني كاريندرو في فيلم “رحلة إلى كيثيرا” 1984 وهو الفيلم الأول من “ثلاثية الصمت”، واستمر حتى نهاية أفلامه. “كيثيرا” تبعًا للميثولوجيا الأغريقية هي الجزيرة التي ولدت فيها “أفروديت” آلهة الحب والجمال وهي الجزيرة التي يقصدها الرحالون بحثًا عن السعادة الأبدية، ولكن ما من أحد يستطيع الوصول إليها.

 يعود سبايروس العجوز الشيوعي الذي كان منفيًّا سياسيًّا إلى وطنه اليونان بعد ثلاثين عامًا، ليجد كل شيء قد تغير، فيسقط في شعور من الضياع وعدم الانتماء بعد أن تجد زوجته صعوبة في التعرف عليه في البداية، ولا يلبث أن يعود إلى رحلة الوهم مجددًا آملًا أن يعثرا على ما فُقد في مكان آخر.

في سينما المخرج اليوناني ثيودور أنجيلوبولوس برعت الملحنة اليونانية إيليني كاريندور في جعل الموسيقى امتدادًا نابعًا من الصورة وعنصرًا محوريًا في الأفلام، لا جماليًا فحسب.

لعلّ أكثر المشاهد تعبيرًا عن التعايش مع الفقد باعتقادي هو ذاك المشهد الذي ينهض فيه العجوز راقصًا على قبر صديقه المناضل. يمسي الرقص والموسيقى بديلين عن كل الكلام الذي كان يرغب في قوله، إذ يرفع العجوز يديه مستسلمًا تمامًا ويرقص. تبدو رقصة سبايروس في ذلك المشهد إيمانًا أن في الفقد نوعًا من التحرّر؛ التحرر من هاجس الموت والماضي والذكريات. يقول أنجيلوبولوس: “إن فكرة الرقص على قبور الأصدقاء هي عادة قديمة تُتبع في احتفالات الموت شمال اليونان …`إنه ضرب من انتصار الحياة على الموت، أو ربما التسليم بأن وراء الحزن الذي يبعثه الموت تحققًا للحرية والانعتاق”. (“براءة التحديقة الأولى” ترجمة أمين صالح) وهكذا تخرج موسيقى المزمار كأنها نابعة من داخل العجوز، دون أن تكون دخيلة على المشهد، كأنها شخصية ثالثة كانت تنتظر دورها في الكلام.

صمت الحب

في فيلم “مربّي النحل” 1986 -الفيلم الثاني من “ثلاثية الصمت”- تتمازجُ الموسيقى في المشهد الافتتاحي تمازجًا أخّاذًا مع صوت المطر المنهمر فوق مزهرية ورد سقطت على الطاولة. نسمع موسيقى البيانو وهي تنبعث من غرفة بعيدة كأنها جزء من حوار الأب وابنته عندما يخبرها عن صوت النحل الذي يشبه الأغنية، ورقصة ملكة النحل.

ننتقل في المشهد الذي يليه إلى حفلة زفاف البنت داخل البيت، حيث ترقص مع عريسها ثم مع أبيها على موسيقى الفالس. ونظرًا لأن الرقص طريقة للاتصال؛ الطريقة ذاتها التي يستخدمها النحل أيضًا، تخلق الموسيقى هنا مشهدًا مكمّلًا للمشهد الافتتاحي.

أما الأب الذي عليه أن يتقبل فقدانه لابنته ورحيلها مع زوجها، فيقرّر أن يسترجع الماضي بالعودة إلى مهنته الأثيرة، مهنة والده وجده وهي تربية النحل. وفي محاولة لدمج الماضي والحاضر، يدخل في علاقة عابرة مع فتاة شابة مسافرة يلتقيها خلال رحلة عودته إلى موطنه في الجنوب. بعد مشهد الحب الجسماني الصامت بينه وبين الفتاة الشابة، يدرك أنه عالق في فجوة زمنية لا تستطيع العواطف جسرها، فيجلس بحزن وخيبة وهو يصفّر لحن الفالس ذاته الذي سمعناه في بداية الفيلم، ليصير اللحن هاجسًا يتكرر في كل محاولة اتصال تسعى الشخصيات لتحقيقه.

تعود موسيقى الفالس لتظهر في نهاية الفيلم حين ينتحر الأب بيأس متخليًا عن خلايا النحل التي تقضي لدغاتها عليه. يصف أنجيلوبولوس نهاية البطل على أنها لم تكن انتحارًا بل محاولة “يؤسس فيها نوعًا من الاتصال، ضاربًا الأرض بيده كما يفعل السجناء في السجن. ذلك لأنه سجين ظروف معينة، وهو يحاول أن يتصل بالماضي”. ينتهي الفيلم وموسيقى الفالس تتمازج مع صوت طنين النحل وحركته الدائرية، مما يجعله موازيًا لمشاهد البداية. من هنا ندرك أن رقصة الأب مع ابنته في مشهد البداية هي “رقصة الوداع“، وهكذا تخلق كاريندرو من موسيقى الفالس نوعًا من الموتيف الصامت المحزن رغم كونها موسيقى للأعراس والرقص والبهجة.

في “مربي النحل” تخلق كاريندرو من موسيقى الفالس نوعًا من الموتيف الصامت المحزن رغم كونها موسيقى للأعراس والرقص والبهجة.

لعبة الصمت

في فيلم “منظر في السديم” 1988، الجزء الثالث والأخير من “ثلاثية الصمت”، يظهر التركيز على عناصر الطبيعة جليًا، فنسمع موسيقى كاريندرو تنبعث بالتزامن مع مشاهد الضباب والثلج والبحر ومن خلف السديم لتغطي صمت بطلي الفيلم: الطفلين فاولا وألكسندر، في عالمهما المليء بالخرافات والأحلام، يظل كل ما يستعصي على الفهم عالقًا في السديم، ويثقل عليهما في رحلة البحث عن والدهما الغائب في ألمانيا.

وعلى ما يبدو فإن الطفلين قد تدرّبا جيدًا على ممارسة الصمت خلف الكواليس بمساعدة الموسيقى، إذ ليس من السهل أن يقوم الصغار بتأدية مشاهد طويلة وصامتة كالكبار. يقول أنجيلوبولوس: “كنا -أنا والممثلين- نحاول أن نرى من سيظل صامتًا لمدة نصف الساعة أو أكثر حتى ينتهي الفنيّون. أحيانًا من أجل التخفيف من وطأة الصمت، كنت أشغّل موسيقى من الفيلم. وقد أدهشني أن أرى هذين الصغيرين لا يفتحان فمهما فترة طويلة”. (“براءة التحديقة الأولى” ترجمة أمين صالح).

يملك الطفلان علامات استفهام كثيرة حول العناصر الخارجية في العالم، فالكثير من الظواهر الطبيعية والصراعات مع الكبار (كالثلج المتساقط فجأة والعروس الباكية وحالة الانتحار واليد الرخامية الضخمة التي يتم إخراجها من البحر) تبدو مبهمة وغير مفهومة بالنسبة لهما، فتظهر الموسيقى في تلك المشاهد لتعبّر عن عالم الطفلين الداخلي المليء بالحيرة والحزن، الذي لا تستطيع الكلمات وصفه. مثلًا في المشهد الذي تقطع فيه فاولا وألكسندر الطريق الفارغ المعتم بصمت، يتزامن خروج الموسيقى مع بكاء فاولا في محاولة لفهم مشاعرها المتضاربة؛ خاصة عندما يحتضنها الشاب أوريست الذي التقى بهما خلال الرحلة، وتتلاشى الموسيقى حال توقفها عن البكاء:

في نهاية الفيلم عندما يصل الطفلان حدود ألمانيا، تظهر شجرة وحيدة وسط ضباب كثيف يغلف المشهد. حينها تخرج الموسيقى الميلانخولية لتعبر عن خيبتهما في العثور على الأب/ الجذور، فيكتفيان بعناق صامت للشجرة.

صمت الحدود

يأتي فيلم “خطوة اللقلق المعلقة” في عام 1991 ليكون الجزء الأول من ثلاثية أخرى هي “ثلاثية الحدود”. يخرج الشاب الذي يعمل مراسلًا تلفزيونيا للبحث في قصة سياسية، ليجد نفسه وجهًا لوجه مع قضايا الهجرة والحدود الشائكة، ويقف خطوة معلقة على الحد الفاصل بين اليونان وألبانيا محاولًا أن يقطع الحدود.

تتكرر ثيمات أنجيلوبولوس ذاتها في الفيلم؛ كالخروج في رحلة للبحث عما هو مفقود، ومحاولة السعي إلى الاتصال بالآخرين، إلا أن اضطراب الأوضاع السياسية في دول البلقان وقضايا الحدود واللاجئين هي الفكرة الرئيسية التي تسعى هذه الثلاثية لتقديمها. وعلى خلاف أفلام أنجيلوبولوس الأخرى، ثمة مشاهد من الصمت الطويل التي لا تدخلها الموسيقى في هذا الفيلم، إذ إن الصمت فيها على ما يبدو هو الطريقة الوحيدة لتعبير الشخصيات عن رفضها وامتعاضها مما يجري. فمثلًا في مشهد مراسيم الزفاف بين شاب وفتاة، يعيش كل منهما على جانب من النهر، يبدو الصمت عن الكلام ضرورة، ولا يخترقه إلا أصوات طبيعية كصوت مياه النهر وطيور اللقلق وقطرات المطر وإطلاق الرصاص وبكاء الفتاة في النهاية. يجبرنا المشهد على الاستماع “للموسقى الحقيقية التي تبعثها الحياة” كما يقول أنجيلوبولوس رافضًا كل الضوضاء الناجمة عن “النظريات السياسية الطنّانة، المدّعية، العقيمة”. (“براءة التحديقة الأولى” ترجمة أمين صالح). يمتد الصمت طويلًا ثقيلًا بينما يتأخر ظهور الموسيقى حتى نهاية المشهد، فعندما تعانق الفتاة والدها ويهربان، تلاحقهما الموسيقى كالهاجس، بعد فشل محاولة الاتصال بينها وبين الشاب على الطرف الآخر من النهر.

أما نهاية الفيلم فتمثل محاولة أنجح في تأسيس الاتصال بين الناس رغم كل الحدود القائمة بينهم. إذ تمتد الموسيقى من بداية المشهد الأخير حتى نهايته، وألحانها تصعد مع العمال الذين يتسلقون أعمدة الهاتف لتصليح الأسلاك ووصلها، أما البطل فقد تحرّر من خطوته المعلقة وتمكّن من قطع الحدود إلى الجانب الآخر ليتواصل مع الآخرين هناك.

صمت الرؤية

تحديقة يوليسيس

يظهر تأثر أنجيلوبولوس بالأساطير الإغريقية جليًا في الكثير من العناصر في أفلامه، مثل أسماء وقصص الشخصيات ومسعاها في البحث عن هدف ووطن وهوية، إلا أن فيلمه “تحديقة يوليسيس” عام 1995 -الجزء الثاني من “ثلاثية الحدود”- تلميح صريح إلى أوديسة هوميروس في رحلته ورؤيته التأملية الفلسفية للعالم والجنس البشري. وعلى خلاف أفلامه السابقة التي تم تصويرها في اليونان، فإن “تحديقة يوليسس” يتبع رحلة مخرج يوناني- أمريكي عبر حدود دول البلقان (بغاريا، اليونان، سكوبيا، ألبانيا، رومانيا، بلغراد، وسراييفو) للبحث عن فيلم الأخوين ماناكيا الذي وثّق أحداث بداية القرن الماضي في دول البلقان. تبدو الرحلة الخارجية موازية لرحلة داخلية روحانية نحو الجذور والهوية والذات، إذ تتشكل رؤية الحاضر بناءً على خلفية الأوضاع المضطربة التي مرت بها دول البلقان.

يتمحور الفيلم حول الرؤية البشرية لتاريخ القرن العشرين على أعتاب بداية قرن جديد. يبدو أن أنجيلوبولوس قد عمل على تكثيف بعض المشاهد لتشمل الماضي والحاضر معًا، لكن هذا التكثيف في نظري عالي الرمزية ومن الصعب إدراكه من المشاهدة الأولى. أحد أقوى هذه المشاهد في نظري هو مشهد تمثال لينين المحطم فوق ظهر سفينة تجري في النهر؛ النهر الجاري كشريط زمني مستمر، وتمثال لينين الذي يعبّر عن انتهاء حقبة تاريخية، يمر بالواقفين على ضفاف النهر وكأنه في مراسم وداع. تنبعث موسيقى كاريندرو هنا بانسيابية وسلاسة مع السفينة، بتزامن دقيق وسرعة متناسقة مع حركة السفينة، مما يخلق انسجامًا وتوازنًا بين عناصر التوجيه البصري والسمعي في المشهد.

أما في مشهد عودة البطل عند حدود ألبانيا، فيتذكر صورة الحبيبة التي لم تتغير في خياله، ويشعر أن وصوله ورحيله سيّان. تمر الموسيقى في طريقها عبر الثلج في الجبال، بينما يقف المهاجرون بثبات لا يحركون ساكنًا، ثم تنقطع فلا نسمع إلا الصمت وكأننا وقفنا في الزمن قليلًا. يعود الشريط الزمني ليتحرك نحو الحاضر، فتنبعث الموسيقى مجدّدًا مع حركة المهاجرين عبر الحدود.

وهكذا تمثل موسيقى كاريندرو مرور الزمن وتغير المكان في الفيلم بشكل استثنائي، إذ يتماشى مع أسلوب أنجيلوبولوس الذي يراه “وسيلة لمحاولة استيعاب المكان والزمن، بحيث يصبح المكان انتقالًا للزمن. كمثال هناك مشهد في الفيلم يدور في غرفة واحدة، لكن ليس في زمن حقيقي، بل في زمن يستغرق خمس سنوات.. خمس سنوات من تاريخ عائلة واحدة، من رومانيا، من أوروبا، من معسكرات الاعتقال إلى الستالينية.. تمر أثناء موسيقى فالس قصير”. (“براءة التحديقة الأولى” ترجمة أمين صالح).

صمت الحياة

فيلم الأبد ويوم واحد

الجزء الأخير من ثلاثية الحدود هو في فيلم “الأبد ويوم واحد” عام 1998 الذي حاز على الجائزة الكبرى في مهرجان كان السينمائي. آخر يوم من حياة الشاعر ألكسندر الذي يحتضر جراء مرض خبيث يقضيه في رحلة لإعادة طفل ألباني لاجئ إلى وطنه عبر الحدود، فيتداخل الماضي والحاضر أمامه بطريقة سوريالية، يسترجع فيها لحظات السعادة والحب التي مرت دون أن يقدّرها بما يكفي.

تداخل الموسيقى التصويرية مع أصوات الشخصيات، وإيقاع الأمكنة الداخلية والخارجية يرفع من مستوى المشاهدة ويجعل منها تجربة أكثر روحانية وشاعرية.

الحدود في هذا الفيلم ضبابية، فليس من الواضح إذا ما كان الشاعر قد ذهب في رحلة مع الطفل أم هي من نسج خياله. فالحدود هنا ليست جغرافية بالضرورة، “إنها انقسامات بين هنا وهناك، بين الماضي والحاضر. وفي هذا الفيلم، هي مسألة الانقسام بين الحياة والموت”. (“براءة التحديقة الأولى” ترجمة أمين صالح). في نهاية مشهد الحافلة في الليل، تبدو الرحلة سوريالية وكأنها من نسج خيال الشاعر/ الطفل، إذ تصعد فرقة موسيقية إلى الحافلة فجأة وتشرع في عزف موسيقى كلاسيكية، ثم فجأة تعلو فوقه مقطوعة البيانو التي ألفتها كاريندرو في مشهد يبعث البهجة في نفس الطفل والشاعر معًا كأنهما شخص واحد.

وعن الموسيقى في الفيلم يقول أنجيلوبولوس: “طلبت من إيليني ألا تؤلّف مقطوعة حزينة لهذا الفيلم رغم أنه يبدو اختيارًا واضحًا لفيلمٍ بطله يواجه الموت في النهاية. ولكن الفيلم من وجهة نظري هو دعوة للحياة”. (المصدر نفسه). إن مقطوعة الصولو على البيانو التي ألفتها كاريندرو جعلت من مشهد النهاية مشهدًا شاعريًا ساحرًا ودعوة ملحّة إلى البهجة والحياة. يعلن البطل أنه لا يريد أن يذهب إلى المستشفى ولا يريد أن يموت، فنرى الكاميرا تتحرك بصمت داخل الشقة الفارغة، إلى الشرفة ثم نحو البحر حيث يرقص مع زوجته في مشهد سوريالي أخّاذ، تتمازج فيه الذاكرة مع الخيال.

صمت الموت

“ثلاثية المرج الباكي” هي آخر ثلاثية كان أنجيلوبولوس قد خطط لإنجازها قبل أن يقضي في حادث مؤسف في شهر يناير عام 2012 في موقع تصوير الفيلم الأخير من الثلاثية وهو “البحر الآخر”. لذلك فإن فيلما “المرج الباكي” 2004 و”غبار الوقت” 2009 هما آخر فيلمين من إنجازه، ويركز من خلالهما على التاريخ الحديث لليونان. يمثل فيلم المرج الباكي تراجيديا إغريقية تحكي قصة عائلة يونانية تنزح من روسيا عام 1919 وتعود إلى اليونان. “إليني” البنت اليتيمة التي تتبناها العائلة تقع في غرام أليكسيس الابن وتنجب منه ولدين توأمين بطريقة غير شرعية. وفي رحلة يملؤها التشرد والتمرد والاعتقال السياسي تجتمع إليني بزوجها وابنيها لتعود وتفقدهما بطريقة تراجيدية مرة أخرى. إن الفيلم زاخر بالموسيقى والفرق الموسيقية الجوالة التي تندمج مع التصوير السينمائي بشكل يجعل من الفيلم تحفة سينمائية بامتياز.

مشهد جنازة الأب سبايروس في البحيرة في رأيي من أكثر المشاهد جمالية وتأثيرًا. إذ يطفو نعشه فوق قارب من الأخشاب محاطًا بعائلته وعازف أوكورديون وحيد، بينما ينضم أهل القرية إلى الجنازة من خلفهم في قوارب أخرى. تظهر المفارقة في العنصر المائي الساحر الذي يعبر عن الحياة في مشهد يتخلله الصمت الجنائزي لحركة القوارب، بينما يخرج صوت الأكورديون حزينًا مجروحًا.

يمتد الزمان والمكان في آخر أفلام أنجيلوبولوس “غبار الوقت” امتدادًا واسعًا، إذ إنه يغطي فترة خمسين عامًا وينتقل عبر بلدان متعددة كصربيا وكازاخستان واليونان وإيطاليا وألمانيا وكندا والولايات المتحدة. يروي الفيلم قصة مخرج أمريكي من أصول يونانية يريد أن يصنع فيلمًا عن حياته وحياة والديه وصديقهما المشترك الذين فرقتهم الاضطرابات السياسية والحروب. وعلى الرغم من شاعرية الفيلم لكنه باعتقادي محمل بالكثير من الحكايا والأزمنة والأمكنة التي يصعب ضغطها واستيعابها تمامًا، مما يؤثر على سلاسة المشاهدة.

 ما يبدو مثيرًا للاهتمام في الفيلم هو أننا نشهد عملية صناعة المقطوعة الموسيقية التي ألفتها إيليني “فالس على النهر” على أنها المقطوعة التي يشرف البطل على تأليفها كونه يعمل مخرجًا للفيلم. إلا أن المفارقة تكمن في أن النهر الذي يفترض أن يرقص عنده والدا المخرج إيليني وجايكوب هو مكان للاتصال والانفصال في الوقت ذاته، إذ ينتحر جايكوب في ما بعد بإلقاء نفسه في النهر بطريقة تراجيدية.

أجمل صوت بعد الصمت

مجموعة ثيو أنجيلوبولوس

إن تعاون أنجيلوبولوس وكاريندرو ظاهرة فنية فريدة تضفي على الصمت الإنساني بعدًا آخر. لكن باعتقادي أن الرمزية العالية والمكثفة ومقاطع الصمت الطويلة والشخصيات الميلودرامية الشاعرية على نحو مبالغ فيه أحيانًا قد لا تناسب المتفرج المعتاد على الأفلام التجارية الجاهزة. ومع ذلك فإن السينما التي يصنعها أنجيلوبولوس تعتبر راقية لمن يقدّرها؛ فهي تحترم عقلية المتفرج الذكي من خلال تحفيز مخيلته، وتدخله في تجربة روحانية لا مألوفة. أعتقد أنّ عبقرية أنجيلوبولوس تكمن في جرأته على صنع مشاهد صامتة من وحي الطبيعة والواقع، وذائقته الفريدة في اختيار موسيقى تصويرية عالية الإحساس كموسيقى كاريندرو التي توجه الصمت نحو مسعاه المطلوب.

فاصل اعلاني