الكوميديا المصرية: هل نحن بصدد استعادة سينما المقاولات من جديد؟
13 August، 2024
أمنية عادل
خلال 1945 تفشت موجة مؤثرة في المشهد السينمائي المصري، في أعقاب الحرب العالمية الثانية وظهور رؤوس أموال جديدة قررت الاستثمار في السينما لتحقيق الربح السريع، وهو ما نتج عنه أفلام شهدت انتقادا واسعا لما تقدمه من قصص ومعالجات ساذجة، وكذلك غياب أي مظهر فني مميز في ما قدمته من إنتاجات للسينما. عقب ثورة 25 يناير شهدت السينما المصرية تحولات كبيرة في مسار الإنتاج والأفلام المقدمة، لاسيما الكوميدية، تلك التي شكلت السواد الأعظم من أغلب الإنتاجات السينمائية على مدار العقدين الممثلين لمطلع القرن الحادي والعشرين، لاسيما أن الأفلام الكوميدية تشكل ضلعا أصيلا في الأفلام المصرية.
أما خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين فقد ظهر ما عُرف بسينما المقاولات التي أطلت على السينما المصرية، بدأت مع مصطلح سينما الخردة، كما عبرت عنها الصحافة في ذلك الوقت، حتى استقر مصطلح سينما المقاولات في الأذهان.
تلك الموجة التي تواكبت مع انسحاب الدولة كقطاع مساهم في الإنتاج السينمائي، تلاها ظهور الفيديو وتعبئة الأشرطة وهجرتها إلى دول الخليج، اشتهرت بعض الأسماء بحمل تلك الموجة، مثل المخرج “ناصر حسين”، خلال فترة لم تستمر طويلا، وسرعان ما اختفت، وذلك بعد تراجع دور الفيديو وظهور القنوات الفضائية التي فتحت الباب على مصراعيه للإعلانات، ما جعل تلك الأشرطة وما تحمله من محتوى دون فائدة تذكر.
تتشارك أفلام تلك الفترات المذكورة بالخفة في فكرتها وتنفيذها في السواد الأعظم منها، حيث تفتقر إلى الدراما وتطور الخطوط الدرامية ورسم الشخصيات المحكم، حيث يعتمد أغلبها على حبكات بدائية واستياق الكوميديا من المبالغات، في تساهل واضح في تقديم الأفكار وإقناع المشاهد بما يُقدم، وكأن النتيجة مضمونة دون جهد.
وما أشبه اليوم بالبارحة؛ ولكن بمعطيات مختلفة. حيث أن العملية الإنتاجية وتوزيع الأفلام المصرية شهد انتعاشة ملحوظة مع منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أي بين 2015 وحتى العام الحالي 2024، مع عناية شركات الإنتاج المصرية بتوزيع الأفلام، لاسيما في السوق الخليجي الذي يعد السوق الأهم في اللحظة الحالية، ربما أكثر أهمية لدى الصناع من السوق المصرية، لما يدره من إيرادات في ضوء معطيات التضخم وتباين قيمة تذكرة السينما.
عقب ثورة 25 يناير شهدت السينما المصرية تحولات كبيرة في مسار الأفلام المقدمة، خاصة الكوميدية التي شكلت السواد الأعظم من أعمال العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين.
خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين ظهر ما عُرف بسينما المقاولات التي بدأت مع مصطلح سينما الخردة، حتى استقر مصطلح سينما المقاولات في الأذهان.
أفلام لم يسمع عنها أحد
في مقاربة مع تجربة سينما المقاولات يتم تقديم أفلام ترفع راية كوميديا بلا ضحك تسعى إلى إضحاك المشاهدين، وعادة تكون طي النسيان فور انتهاء تجربة المشاهدة، حتى وإن كان مقدموها يشكلون نجوم الصف الأول، يمكن تعزية ذلك إلى حالة التساهل التي تسيطر على معالجة الأفكار التي قد تكون مبتكرة في بعض الأحيان.
حينما ظهرت شخصية “اللمبي”، التي أداها الممثل المصري محمد سعد وكتبها السيناريست أحمد عبد الله في فيلم “الناظر” للمخرج شريف عرفة عام 2000، كانت شخصية ثانوية، قطرت الكوميديا بطريقة ملفتة وجذابة، من خلال مواقف فكاهية طعمت الفيلم بالكوميديا، وفتحت الباب للاستثمار في تلك الشخصية الغنية بالتفاصيل، حيث يستعيد المشاهد بعض الأفكار أثناء وعقب مشاهدة تلك الشخصية في ظهورها الأول بالناظر: من هو؟ ما هي قصته؟ كيف وصل إلى ما بات عليه؟ بالتأكيد شكلت تلك التساؤلات مجالا خصبا للإجابة عليها في فيلم “اللمبي” الذي صدر عام 2002 ، من كتابة أحمد عبدالله وإخراج وائل إحسان وإنتاج السبكي للإنتاج السينمائي.
حقق فيلم “اللمبي” 2002 نجاحاً ساحقاً فور عرضه من خلال علاقته بوالدته فرنسا وعم بخ وخطيبته نوسة، فيلم غني بالكوميديا؛ يرمي على ضفاف الواقع أحيانا، وتحطم الأحلام بطريقة كوميدية، وتارة ينطلق نحو الفكاهة الصافية. من خلال شخصية “اللمبي” نستطيع أن نقرأ مسار الكوميديا المصرية خلال عقدي القرن العشرين، وما آلت إليه في لحظتنا الحالية، حيث سرعان ما تحولت شخصية “اللمبي” إلى مجال للاستنزاف دون إضفاء أي بعد جديد، وهو ما ظهر في تنويعات مختلفة مثل “اللي بالي بالك، كركر، كتكوت، واللمبي 8 جيجا” وغيرها من الأفلام، والأمر هنا لا يقتصر على تجربة اللمبي والسبكي بل يرتكز على آلية تعامل صناع السينما مع الكوميديا المقدمة للجمهور من خلال الأفلام، والتي تقارب في أغلب الأحيان حد الابتذال الكاريكاتيري.
يبرر البعض أن تفاوت مستوى الأفلام يعود إلى تركيز الصناع على أفلام المواسم/ الأعياد التي تستهدف الترفيه دون أي اعتبارات أخرى، وهو ما يطرح تساؤل عن طبيعة الأفلام الجماهيرية، حتى يكون الفيلم جماهيريا أو حقق نجاحا تجاريا هل عليه أن يفتقر إلى معايير صناعة الأفلام نفسها؛ بحيث يقدم شخصيات مسطحة وحوار غير متماسك ومشاهد أقرب إلى الاسكتشات؟
في مقاربة مع تجربة سينما المقاولات يتم تقديم أفلام، ترفع راية كوميديا بلا ضحك، تسعى إلى إضحاك المشاهدين، وعادة تكون طي النسيان فور انتهاء تجربة المشاهدة.
من خلال شخصية “اللمبي” نستطيع أن نقرأ مسار الكوميديا المصرية خلال عقدي القرن العشرين، حيث سرعان ما تحولت إلى مجال للاستنزاف دون إضفاء أي بعد جديد.
التباين سيد الموقف
في ضوء العقدين السابقين تمر السينما المصرية بمنحدرات عديدة، تعددت مسبباتها ما بين البعد السياسي الذي تأزم بعد ثورة 25 يناير، والذي أسفر عن انحصار اقتصادي ملحوظ انعكس بدوره على صناعة السينما، ما وجه بتقديم أعمال ذات ميزانيات منخفضة، في حين آثر البعض الابتعاد عن ساحة الإنتاج تجنبا لأي خسائر محتملة، والاكتفاء في بعض الأحيان بلعب دور الموزع سواء داخلياً أو خارجياً، وهو ما ظهر خلال العشر سنوات التي تلت ثورة 25 يناير، حيث قلت الأفلام المقدمة في علاقة عكسية على مدار السنوات العشر.
حينما قدم الثلاثي “أحمد فهمي، هشام ماجد وشيكو” فيلم “ورقة شفرة” عام 2008 ، من إخراج أمير رمسيس، فتحوا المجال من جديد لأفكار تعبر عن جيل الألفية، وتواكب مع ما يريد أن يرى. وباتت المحاكاة الساخرة/ البارودي أسلوب مستخدم في السينما الكوميدية بقوة، بعد أن كان حاضرا في أفلام نيازي مصطفى وفؤاد المهندس ومن قبلهم إسماعيل ياسين، وغيرهم من مقدمي السينما الكوميدية، المختلف في ما قدمه الثلاثي هو الاستعانة بهذا الأسلوب للتعبير عن حبكة محكمة متصاعدة تغلفها كوميديا الموقف.
مع قرابة نهاية عام 2023 عُرض فيلم “فوي فوي فوي”، من إخراج عمر هلال، الذي يعد أول فيلم سينمائي له باع طويل في عالم الإعلانات، حظى فيلم “فوي فوي فوي” باهتمام جماهيري ونقدي واسعين، تدور قصة الفيلم عن “حسن” الذي يعمل حارس بسيط، لديه أحلام كبيرة يسعى إلى تحقيقها، تتشابك أحلامه مع أحلام أصدقائه ويقرر تحقيقها عن طريق الزيف والكذب، حيث يدعي حسن أنه كفيف حتى يتمكن من الالتحاق بفريق كرة للمكفوفين، يحظى بفرصة السفر لتمثيل مصر في أحد الدول الأوروبية.
يعتمد فيلم “فوي فوي فوي” على تحقيق صحفي، نشره الصحفي محمود شوقي عام 2016 ، عن محتالين يدعون أنهم مكفوفين استطاعوا الهرب إلى الخارج، أي أن الفيلم يعتمد على قصة حقيقية في جوهر قصته التي شابك خيوطها الدرامية مخرج ومؤلف الفيلم عمر هلال، “فوي فوي فوي” فيلم دراما تشويق يعيد إلى الأذهان أفلام الواقعية الجديدة، التي يتماس معها من خلال طرحه الذي يقارب الطرح الميلودرامي في بعض لحظاته.
في الموسم نفسه وبعده بأسابيع قليلة عُرض فيلم “الحريفة” للمخرج رؤوف السيد، وفي أولى أعماله السينمائية أيضا. يجمع الفيلم أيضا بين النجاح الجماهيري والنقدي، فيلم “الحريفة” يدور أيضا في عالم السعي خلف حلم التحقق والنجاح، يعتمد على البطولة الجماعية، التي كانت عنصر هام في الأفلام المصرية خلال الفترة الأخيرة، والتي شهدناها أيضا في فيلم “وش في وش” 2023 للمخرج وليد الحلفاوي، ما يجمع الأفلام الثلاثة السابقة هو التأسيس الجيد للشخصيات والدراما المحكمة المنطقية، المبتعدة عن المبالغات أو السطحية في التعامل مع الشخصيات والحلول الدرامية، وربما يكون المشترك الظاهري أيضا هو وجود الممثل “بيومي فؤاد” الذي بات قاسماً مشتركاً في أغلب الأفلام المصرية على تباين مستواها الفني خلال عقد الألفية الأخير.
من خلال تجربة مشاهدة “وش في وش”، “فوي فوي فوي”و”الحريفة” نلاحظ اختلاف أداء بيومي فؤاد التمثيلي عن أغلب الأعمال التي يقدمها، يمكن قراءة ذلك في ضوء إدارة المخرج للعمل والتوجيه بالاقتصاد في الأداء التمثيلي، والالتزام بالهدف من المشاهد الدرامية المقدمة، وكيف تخدم تطور القصة والمعالجة التي تبتعد عن الاسكتشات غير المتماسكة في أفلام أخرى، وهو ما يشير إلى تيه الممثل واعتماده على إيفيهات يستحضرها من جعبته دون تحجيم أو التزام بسياق درامي.
خلال ثمانينيات القرن الماضي، ومع موجة سينما المقاولات التي كانت حاضرة في ظل هيمنة سينما الواقعية الجديدة، شهدت السينما المصرية تباينا واضحا فيما تقدمه من أفلام شارك أبطالها في كلا الموجتين “المقاولات” و”الواقعية الجديدة”، من بينهم فريد شوقي الذي كان حاضرا في كافة الأنواع الفيلمية، متربعا على عرش البطولة السينمائية، وإن كان في بعض الأحيان لا يحتل صدارة البطولة ويتقاسمها مع نجوم آخرين.
الملاحظ أن حتى ثمانينيات القرن الماضي اتسمت السينما المصرية بتنوع الأفلام وكثرة الإنتاج، ما أتاح تنوعاً كبيراً فيما يتم تقديمه للجمهور، في حين تعاني السينما المصرية في الآونة الأخيرة من أزمة رؤية لدى الصناع والإنتاج، في ظل تفاقم دور الرقابة، وما يحد من المغامرة وتقديم أطروحات أكثر انفتاحاً وتعبيراً عن المجتمع، ربما تكون الكوميديا والاسكتشات المبتذلة ملاذا للهروب ليس أكثر، ربما.
مرت السينما المصرية حلال العقدين السابقين بمنحدرات ما بين البعد السياسي الذي تأزم بعد ثورة 25 يناير، والانحصار الاقتصادي الذي انعكس بدوره على صناعة السينما.