• English
  • 20 يناير، 2025
  • 5:11 ص

السينما العراقية: مسارات متعثرة وبحث دائم عن هوية

السينما العراقية: مسارات متعثرة وبحث دائم عن هوية

13 August، 2024

أحمد ثامر جهاد

قياسًا بسينمات عربية أخرى، يمكن القول إن تاريخ السينما العراقية ليس ببعيد، وإن الملمح الأهم فيه يؤشر – بشكل من الأشكال وعلى مدى عقود خلت- حالة من غياب التخطيط والرسوخ الفني والهوية الفكرية الواضحة، فقد شابَ مسار السينما العراقية منذ بدايتها أوائل القرن المنصرم الكثير من الانقطاعات والأزمات، فيما بقيت علاقة السينمائي العراقي بالسلطة ملغومة وملتبسة لتتراوح بين مد وجزر، فمن حريات فردية محدودة في الأربعينيات والخمسينيات وما تلاها – بوجود القطاع الخاص- إلى هيمنة شبه مطلقة على فرص الإنتاج، وتاليًا دفع السينما في اتجاهات تعبوية في حقبة حرب الثمانينات على وجه الخصوص. لنكون لاحقًا أمام واقع مرير توقفت فيه حركة الإنتاج السينمائي خلال عقد الحصار الاقتصادي المفروض على العراق عقب حرب الخليج 1991.

بقيت علاقة السينمائي العراقي بالسلطة تتراوح بين مدٍّ وجزر، فمن حريات فردية محدودة في الأربعينيات والخمسينيات إلى هيمنة شبه مطلقة على فرص الإنتاج في الثمانينيات، ثم توقف تام في التسعينيات.

العجلة تتحرك

تحركت أحلام السينمائيين العراقيين بعد العام 2003 بأمل حذر، مرهون بتحقيق ما بدا مستحيلًا في عقود سابقة، أسوة بتحرك طموحات نخبة من الكتاب والفنانين والمبدعين بمختلف إشتغالاتهم، ممن شحذوا هممهم لاستثمار فسحة العهد الجديد، بعد سنوات من الحكم الاستبدادي الذي فرض قبضته على كل مفاصل الثقافة والفن في بلاد ما بين النهرين. كانت تلك هي المرة الأولى التي استطاع السينمائيون العراقيون فيها الدخول بتجارب فنية متنوعة ومتفاوتة المستوى، بعيدًا عن قيود الإنتاج الحكومي، ليجربوا عبر الصورة السينمائية التقاط تفصيلات المشهد الحياتي المضطرب، وطرح أفكارهم وتصوراتهم عنه خارج نسق المؤسسة الحكومية أيا كانت.

حينذاك شهد العراق المحاولات الأولى لنزول الكاميرا إلى واقع الحياة اليومية، خارج اشتراطات الرقيب السياسي والفني. كانت كاميرا المحترفين والهواة على حدٍّ سواء بمواجهة الناس العاديين، بضجيجهم وأفراحهم وانكساراتهم الأليمة. في تلك المناخات قرر المخرج الشاب عدي رشيد صناعة فيلمه الروائي الطويل “غير صالح للعرض” في ظروف استثنائية، حيث لم تزل الدبابات الأمريكية في حينها تجوب شوارع بغداد وأزقتها الضيقة. كان فيلم عدي رشيد ابن لحظته الملتبسة، ووليد أحلام المرحلة العصية التي سرعان ما أفلت حسناتها، كما وثقها المخرج لاحقًا في فيلمه “كرنتينة”. في غضون ذلك اقتنص المخرج العراقي المقيم في لندن “محمد الدراجي” الفرصة لتصوير فيلمه الموسوم “أحلام”، وتلاه بأفلام “ابن بابل”، “تحت رمال بابل”، و”الرحلة” ليطرح فيه ما لم يكن مسموحًا قوله في عهد النظام السابق. كما بادر عدد من المخرجين المغتربين عقب عودتهم إلى العراق بعد سنوات من المنفى، بتصوير أفلامهم الوثائقية التي عالجت قصصًا واقعية، استمدت الجزء الأكبر من حكاياتها ومعانيها من حيوات المخرجين انفسهم (“بغداد أون أوف” لسعد سلمان، “العراق موطني” لهادي ماهود، “حياة ما بعد السقوط” لقاسم عبد، “العراق أين”؟ لباز شمعون، “العراق سنة صفر” لعباس فاضل، “وداعًا بابل” لعامر علوان، وأخرى غيرها) وبين الابتهاج بالوضع الجديد والألم لفداحة ثمن الحرب، تندرج محاولات سينمائية أخرى أغلبها أفلام قصيرة، اجتهدت بطرق فنية متباينة الجودة لقول كلمتها عن واقعة الحرب الأمريكية على العراق، بما حملته من آمال وما أنتجته من أوجاع ومحن.

سينما واعدة

ربما كان المؤشر الأهم في عراق ما بعد 2003 هو انخراط مجموعة من الشباب السينمائي بحماس لافت للوقوف خلف الكاميرا، والشروع بميزانيات شخصية محدودة في تصوير أفلامهم القصيرة، تلك التي اجتهدت- وإن بحس صحافي أحيانًا- لتوثيق راهن المشهد العراقي بأوجه عدة، وخلقت بمرور الوقت تجارب فنية واعدة. إلا أن عدم الاستقرار السياسي وانعدام الأمن والانقسام المجتمعي والطائفية، وما نتج عن ذلك كله من أوضاع أقل ما يقال عنها أنها كارثية، ألقت بظلالها على عمل السينمائيين العراقيين، وجلهم من الشباب الذي يتطلع بحكم ثقافته وحماسه إلى إنتاج فيلم عراقي يحمل هموم الواقع ويعبر عنه بصدق.

الآن، تلك السنوات قد مضت وخلفت وراءها ذاكرة عامرة بمحاولات سينمائية شتى، طغت فيها الأفلام الوثائقية على الروائية، بحكم حاجة الأخيرة إلى ميزانية وتمويل، لكنهما معًا توجها لمعالجة أوضاع جديدة وغير مسبوقة في الواقع العراقي، وإن كانت ثيمات الحرب والإرهاب والعنف الطائفي وحقبة داعش هي المهيمنات الأكبر على مسار تلك الأفلام. المحاولات تلك ما زالت متواصلة رغم شحة منافذ الإنتاج، والغياب شبه التام للدعم الحكومي، فضلًا عن الصعوبات العملية التي تواجه المخرجين لدى نزولهم إلى واقع الحياة الفوضوي.

وبين من يطالب المؤسسات الحكومية المعنية بقطاع الثقافة والفنون بتوفير الدعم اللازم للسينمائيين لتحقيق مشاريعهم، ومن يعتبر ذلك الأمر عجزًا واتكالًا، سيكون من نتائجه تضيع الوقت دون الوصول إلى إنجاز مقنع، تتفاعل قضية السينما العراقية ضمن حدين قصيين، تطاير أحلامها بانتظار معجزة حكومية، أو الإبقاء على حس المغامرة الفردية (وهي سمتها الأبرز) التي قد تعيد لعجلة الفيلم العراقي حراكها المنشود. في المقابل لا بدَّ من الإشارة إلى أن وزارة الثقافة بادرت عبر دوائرها المعنية إلى تقديم منح مالية لعدد من صناع الأفلام الطويلة والقصيرة، الروائية والوثائقية، ممثلة بأفلام بغداد عاصمة الثقافة، والتي شاب معظمها الضعف والركاكة. وتاليًا منحة بغداد للأفلام التي أسفرت عن إنتاج مشاريع سينمائية جيدة المستوى، وحققت حضورًا ملحوظًا في المهرجانات العربية والدولية مثل:  “رجل الخشب” لقتيبة الجنابي، “ميسي بغداد” لسهيم عمر، “جنائن معلقة” لأحمد ياسين، “أوربا” لحيدر رشيد، و”الامتحان” لشوكت أمين، فضلًا عن عدد آخر من الأفلام القصيرة. رغم ذلك ما زالت مشكلة الإنتاج تعد كبرى مشاكل الفيلم العراقي، ناهيك عن أزمة كتابة السيناريو وضعف الأكاديميات الفنية ونظمها المستهلكة وغياب الخبرات الاحترافية.

بشكل من الأشكال سعت المحاولات السينمائية العراقية إلى أن تبتكر طرقها وأساليبها في إيصال ما تريد إيصاله، رغم أن الأوضاع العامة غير المشجعة ما زالت على حالها، حيث لم تشهد البلاد حتى اللحظة ولادة أية مؤسسات فنية راعية، أو إنبثاق تشريعات قانونية داعمة لحركة السينما العراقية في ظل تجربة ديمقراطية متعثرة.

الأهم في عراق ما بعد 2003 هو انخراط الشباب السينمائي بحماس لافت للوقوف خلف الكاميرا، والشروع بميزانيات شخصية محدودة في تصوير أفلامهم القصيرة.

دعم حكومي

في أوضاع مشوشة يحكمها الصراع السياسي والفئوي والطائفي، كانت المفارقة أن أصبح من الإيجابي ألا تكون للمؤسسات الحكومية اليد الطولى على صناعة الأفلام، فما اعتبر حرية بشكل من الأشكال في عراق اليوم هو من ثمار ذلك الغياب. إذ لا رقيب حكومي صارم تخضع الأفلام لسلطته اليوم، سوى الرقيب الاجتماعي الذي يقرر بصمت ما يسمح بتداوله وما لا يسمح به. من جهتهم يعي المشتغلون في صناعة الأفلام الخطوط الحمراء التي ينبغي عليهم ألا يتخطوها، علمًا أن بعض الأفلام القصيرة تخطتها أحيانًا بذريعة أنها صنعت من أجل العرض في المهرجانات السينمائية التي تقام خارج البلاد، وليس لجمهور محلي أشد حساسية.

بمعنى آخر فإن صانعي الأفلام يقولون الكثير في أفلامهم بحرية قد لا تتوفر لهم إذا ما قامت المؤسسات الحكومية بتمويل تلك الأفلام وفق معايير رقابية مشددة، وهي التي عادة ما تنتقد وتعري حقائق الحياة المسكوت عنها، بعيدًا عن الخطاب الدعائي أو التلفيقي.

في المقابل، أوضاع كتلك تسببت بعرقلة الكثير من المشاريع السينمائية التي يلزمها إنتاج كبير، خاصة الأفلام الروائية، كما حتمت المكانة الهامشية لوزارة الثقافة والدوائر الملحقة بها شيوع حالة من اللامبالاة تجاه دعم القطاع السينمائي، وتنمية المواهب فيه. وليس من المبالغة القول أن العديد من المسؤولين ما زال ينظر إلى السينما كبدعة شيطانية ينبغي محاربتها.

لكن من ناحية مبدئية تستحق السينما بما تمتلكه من مكانة مؤثرة في المشهد الثقافي والفني عامة أن تكون لها مؤسساتها اللائقة، الجديرة والفاعلة لكي تعطي أفضل ثمارها للجمهور، وتؤدي في الوقت ذاته رسالتها الإنسانية المنشودة في رفع وعي الجمهور وتطوير ذائقته، لا سيما في بلد مثل العراق يمتلك إرثًا هائلًا من القصص والوقائع، سواء في الأدب أو الحياة. إرث متنوع جدير بأن تتم معالجته على الشاشة.

ورغم الغياب الحكومي المشار إليه تحرك بعض السينمائيين اعتمادًا على إمكانياتهم الشخصية، وفي فترات مختلفة من أجل تشكيل تجمعات فنية ذات طابع مدني، ترعى السينمائيين وتقدم دعمًا بسيطًا لإنتاج أفلامهم، فيما تطوع بعض المعنيين ونقاد السينما إلى إنشاء نواد سينمائية في المدن عملت على إعادة الحياة لطقس الصالة، وإشاعة نوع من الثقافة السينمائية بين جمهور المتلقين، من خلال تقديم عروض عالمية مختارة، وإقامة ندوات حوارية عنها.

كما لا يمكن إغفال الجهود الملحوظة التي تكفلت بإقامة- على مدى سنوات- مهرجانات سينمائية تهدف إلى دعم الفيلم العراقي، وتسليط الضوء على جديده، لا سيَّما أفلام الشباب التي أصبحت ظاهرة ملفتة في السنوات الأخيرة. هذا وقد أتيح للأفلام الوثائقية والروائية فرصة عرض طيبة أمام الجمهور العراقي والعربي في مهرجانات عدة، كان من بينها: “مهرجان العراق للفيلم القصير” و”مهرجان الجوار العراقي” و”مهرجان دهوك السينمائي” و”مهرجان بابل”، ومؤخرًا “مهرجان بغداد للسينما العربية” الذي أقامته وزارة الثقافة ونقابة الفنانين العراقيين.

أصبح صانعو الأفلام يقولون الكثير بحرية قد لا تتوفر لهم إذا ما قامت المؤسسات الحكومية بتمويل أفلامهم.

من ناحية مبدئية تستحق السينما بما تمتلكه من مكانة مؤثرة في المشهد الثقافي والفني أن تكون لها مؤسساتها اللائقة.

بعيون المخرجين والنقاد

السينمائي والناقد العراقي المغترب د. “جواد بشارة” يذهب إلى الطرف القصي فيرى أن مشكلة السينما العراقية ليست وليدة اليوم، ويبرر ذلك بالقول “هناك خلل جوهري وتأسيسي في بنية السينما في العراق، إذ لا يمكننا الحديث عن سينما عراقية غير موجودة أصلًا. كانت البدايات عبارة عن محاولات سينمائية وتجارب فيلمية متواضعة، مقلدة لتجارب سبقتها، عربية وأجنبية، ولم تنجح إلا على نحو استثناني وبشكل نسبي متواضع. الأمر الذي جعل السينمائيين العراقيين في الداخل؛ محدودي التجربة والاطلاع على الأساليب والتجارب والمدارس السينمائية العالمية المتطورة، والمتجددة دومًا فكريًّا وتقنيًّا وأسلوببًّا، أما السينمائيون العراقيون في الخارج فهم على احتكاك مباشر مع التجارب العالمية؛ لكن تنقصهم الإمكانيات والقدرة على التجديد، وكذا العجز عن استيعاب ديناميكية التطورات السينمائية في العالم؛ لذلك جاءت تجاربهم مخيبة للآمال في أغلبها، وهي إجمالًا تجارب فردية محدودة الانتشار والتأثير. راهن السينما في العراق مأساوي وسلبي للغاية، إلى الحد الذي يجعل من الصعب النهوض بهذا القطاع في إطار الظروف المهيمنة حاليًا على كافة الأصعدة “.

وحول الأمل المعقود على تجارب الشباب، يضيف بشارة “أفلام الشباب يمكن اعتبارها تجارب جنينية، يعكس بعضها طموحات سينمائية يمكن تطويرها، إذا ما توفرت الإرادة والسعي والقدرة على التعلم، والتنفيذ الجيد والتثقيف السينمائي الجاد”.

دكتور جواد بشارة “هناك خلل جوهري وتأسيسي في بنية السينما في العراق، إذ لا يمكننا الحديث عن سينما عراقية غير موجودة أصلًا”.

ثمة أمل

على نحو مغاير يعتقد المخرج العراقي المغترب “قتيبة الجنابي” أن ثمة أملًا ما في النهوض بصناعة الفيلم العراقي، لكن فقط مع بذل المزيد من الجهد والمغامرة، يقول “لا تزال السينما العراقية تعتمد بنسبة كبيرة على حماس صناع الأفلام في العمل، والتضحية الشخصية الممزوجة بالعشق الحقيقي للفن السابع. ولا زالت الميزة الأساسية للأفلام الجيدة تعتمد على المغامرة الفردية، والصبر والخبرة في تخطي صعوبات صناعة فيلم روائي رصين ومؤثر”.

ويضيف الجنابي “أعتقد أنه خلال العقود الماضية لم تتوفر فرص إنتاج حقيقية أمام السينمائي العراقي، باستثناء بعض المحاولات التي جاءت بنتائج فنية مرضية. الميزانيات المخصصة للإنتاج السينمائي يجب أن تأخذ مسارًا صحيحًا، وتكون بأياد أمينة، من أجل تشكيل نواة أساسية لصناعة سينما عراقية متميزة، ولكن للأسف الشديد ظاهرة الفساد المستشري في العراق توصلنا دومًا إلى ضفة غير مرغوب فيها.

ويعتبر الجنابي- في جعبته نحو أربعة أفلام روائية ومجموعة من الأفلام القصيرة المتميزة- أن أفلام الشباب حاضرة بحراكها المستمر، ومساهماتها الملحوظة في المهرجانات العربية والدولية،  والكثير منها يستحق الإشادة والدعم. إجمالًا يمكن القول في ضوء الوضع الراهن، ومقارنة بسينمات العالم، إنه ليست لدينا سينما عراقية راسخة لها بصمتها الخاصة، وخبراتها وأساليبها المتميزة، لكن في المقابل ثمة محاولات فردية تجتهد لإعادة الروح إلى جسد السينما العراقية. شخصيًّا أعتبر أن أفلامي تندرج ضمن تلك المحاولات، التي ما زالت تعاني وطأة غياب التمويل والدعم اللازم والتسويق والانتشار. وكما تعلم ليس لدينا صندوق لدعم الفيلم العراقي، كما هو معمول به في العديد من دول العالم، وهو ما جعل ذلك الأمر عقبة أساسية في صناعة الفيلم العراقي في الداخل والخارج. جراء هذا الوضع تحولنا- وبسبب ظروف الشتات بين البلدان الأوربية والعربية، التي نعيش فيها- إلى كينونات فردية ليس أمامها سوى المحاولة والترقب والأمل.

ويختم الجنابي بالقول “اليوم جدارة السينمائي ورصانة إنجازه، ولو كان في أقصى بقاع الأرض هي التي تفرض حضوره عالميًّا وليس أي شيء آخر، الجغرافيا والهوية ليستا بذات الأهمية، مقارنة بقوة السيناريو والمعالجة الفنية الجيدة والمقنعة. لذا علينا جميعًا كصناع أفلام أن نسعى للبحث عن خصوصية لغتنا السينمائية والغوص بصدق في أعماق تجارب مجتمعنا.

قتيبة الجنابي: أعتقد أنه خلال العقود الماضية لم تتوفر فرص إنتاج حقيقية أمام السينمائي العراقي، باستثناء بعض المحاولات التي جاءت بنتائج فنية مرضية.

لم تنهض بعد

في الغضون يرى الناقد السينمائي علاء المفرجي “أن السينما العراقية لم تنهض بعد من كبوتها، وإنتاج عدد محدود من الأفلام الطويلة والقصيرة، وإن توافر لبعضها عناصر النجاح وارتقائها لمنصات الفوز في المهرجانات، لا يؤشر على وجود ارضية حقيقية وراسخة للنهوض بالسينما العراقية. فعملية النهوض تتطلب خارطة طريق مدروسة وواضحة، تسهم بها ليس المؤسسات الرسمية المعنية فحسب، بل كافة المتخصصين بالشأن السينمائي، بل حتى شركات الإنتاج المعنية بتطوير هذا القطاع الحيوي، وذلك بغية وضع الأسس الكفيلة بمتطلبات تفعيل الإنتاج السينمائي، ودفع عجلة السينما نحو آفاق أرحب.

ويضيف المفرجي “إذا كان التمويل والانتاج هما الركيزتان الأساسيتان اللتان ينهض عليهما النشاط السينمائي، فإن هناك الكثير من العوامل الأخرى التي قد تعرقل هذا المسعى، فمن غير المجدي توفير عنصر التمويل، من دون الاعتناء بتوفير كوادر سينمائية محترفة، لها خبراتها في مواكبة التطورات المتواصلة في صناعة السينما، فضلًا عن أهمية تأسيس بنية تحتية للعاملين بالسينما، عبر الاهتمام بشكل كبير بالمعاهد والأكاديميات السينمائية، وتوفير احتياجاتها التقنية والفنية، فضلًا عن زج الطلبة والأساتذة في دورات تعرف علميًّا وعمليًّا بالأساليب الحديثة لهذه الصناعة، وإشراكهم بها، ناهيك عن تفعيل سبل تنمية الثقافة السينمائية، من خلال إصدار مجلات وكتب مختصة من شأنها أن تسهم برفع الذائقة والوعي السينمائيين.”

على صعيد متصل يرى المخرج الشاب عمر فلاح – حصلت أفلامه الوثائقية القصيرة على العديد من الجوائز المحلية العالمية – أن هناك نوعًا من الاستسهال في صناعة الأفلام القصيرة لدى الشباب اليوم، بسبب وفرة الكاميرات والمعدات التقنية التي ساهمت في زيادة إنتاج الأفلام، لكن من دون أن تكون الحصيلة أفلامًا نوعية متميزة. حتى باتت غايات بعض الشباب لا تتجاوز المشاركة في المهرجانات، والحصول على الجوائز والشهرة بأية طريقة، بالإضافة إلى فرص السفر إلى الخارج لعرضها هناك، وحينما تتاح فرصة عرضها أمام الجمهور العراقي لا تنال رضاه، لأسباب عدة ليس أقلها بالطبع كونها مصطنعة ولا تعبر عن هموم الإنسان العراقي. كل ما هو موجود في تاريخنا السينمائي العراقي، هو تجارب فردية لمخرجي الداخل والخارج بخبراتهم المتواضعة وإمكانياتهم المحدودة.

ويضيف فلاح “المشكلة الحقيقية هي في عدم وجود شركات احترافية تفكر بشكل اقتصادي وفني، في صناعة وتسويق هذا المنتج الفني، كما يحصل في دول العالم المتقدمة في ظل غياب الآليات والصيغ الصحيحة والمدروسة، ناهيك عن تخلف رأس المال المحلي، وعزوفه عن الاستثمار في هذا المجال. لذا لا أظن أننا سنرتقي بهذه الصناعة في الوقت الراهن، لأن العملية بمجملها ما زالت خارج اهتمامات الدولة، وتراوح في أفضل حالاتها في محيط التجارب الفردية.

علاء المفرجي: من غير المجدي توفير عنصر التمويل من دون الاعتناء بتوفير كوادر سينمائية محترفة لها خبراتها في مواكبة التطورات المتواصلة في صناعة السينما.

عمر فلاح: هناك نوع من الاستسهال في صناعة الأفلام القصيرة لدى الشباب اليوم، بسبب وفرة الكاميرات والمعدات التي ساهمت في زيادة إنتاج الأفلام.

المستقبل

ربما من المبكر استشراف مستقبل واضح ومحدد للسينما العراقية. فكل شيء في بلاد الرافدين ما زال رهن المسار الذي سيحدد شكل الحياة العراقية في السنوات القادمة، فالمستقبل الذي نتطلع إليه هو ما يسعى السينمائيون إلى رسمه بأنفسهم، عبر أعمالهم، ومثابرتهم التي ستخلق تاليًا فرصتها الملائمة لإيصال صورة العراق إلى العالم سينمائيًّا. ولن يكون ذلك ممكنًا من دون اجتراح حالة من المؤازرة بين كافة الأوساط المعنية بالثقافة والفن، من أجل وضع إستراتيجيات واقعية قادرة على معالجة الخلل في الشأن السينمائي العراقي.

يمكننا القول إن الأوساط السينمائية أسوة بغيرها من الميادين الإبداعية الأخرى، تبقى بحاجة دائمة إلى نوع من المكاشفات الصريحة، والتي بوسعها إزالة الأوهام، وتسمية الأشياء بحجمها الحقيقي، ووضعها في مكانها المناسب، إذا ما أريد للسينما أن تنمو وتتطور فعليًّا. لكن رغم الواقع العصي والملتبس ثمة مؤشرات عدة تفيد أن السينما العراقية مقبلة على واقع جديد، سيولد من رحم الأجيال الشابة التي تواصل بثقة وإصرار رسم حياة عراقية، حرة وآمنة.

إشارة أخيرة

بالنظر لما أنتج خلال السنوات الماضية من أفلام سينمائية، قد يكون من الضروري التفكير جديًّا بما سيكون عليه خطاب الفيلم العراقي بعد مرور عقدين أو أكثر.

إلى أي مرجعية ثقافية سينصت صانعو الأفلام في المستقبل، اتجاهات مجتمعهم المحلي أم نضج تجاربهم ورؤاهم الذاتية؟ وكيف سيجري من النواحي الموضوعية والفنية التصدي سينمائيًّا لطرح ومعالجة إشكاليات حقيقية يواجهها المجتمع العراقي، من قبيل: مفاهيم التحرير، الاحتلال، العنف، الطائفية، التخريب الثقافي، السلاح المنفلت، الحريات العامة، حقوق الإنسان والمرأة ….إلخ.

فاصل اعلاني