• English
  • 20 يناير، 2025
  • 6:00 ص

وداعًا جوليا.. إرث السينما وثقل التاريخ

وداعًا جوليا.. إرث السينما وثقل التاريخ

13 August، 2024

منصور الصويم

ربما، بعد نيله لأولى الجوائز السينمائية عالميًا، بدأ مباشرة الهجوم على الفيلم السينمائي السوداني “وداعًا جوليا”. هجوم شرس وعنيف دارت أغلب مساجلاته على صفحات السوشيال ميديا، وبشكل خاص على موقع “فيسبوك” الأكثر استخدامًا بين رواد مواقع التواصل في السودان، البلد الذي تروي أحداث الفيلم شيئًا من تاريخيه الاجتماعي والسياسي بمنظور سينمائي جمالي، يحاول مقاربة الواقع عبر الصورة والحوار، وزرع الأسئلة النقدية الذكية بين ثنايا الوقائع المصورة.

إطار عام

مستندًا على علاقات حكايا ملتبسة تجمع بين امرأتين؛ إحداهما تنتمي إلى شمال السودان والأخرى إلى جنوب السودان، ينسج المخرج محمد الكردفاني وقائع فيلمه السينمائي الطويل الأول “وداعًا جوليا”. القصة داخل الفيلم تعود بالمشاهد إلى ما قبل انفصال جنوب السودان عن شماله في العام 2011، وتستدعي- باختيار موفق- لحظة عامة تمتزج مع لحظة خاصة وعادية، منتزعة من الحياة اليومية لسكان العاصمة الخرطوم.

تخير المخرج الكردفاني في “لحظته الفيلمية العامة” أكثر فترات حكم الإنقاذ (الإسلامويين) صخبًا أيديولوجيًا وهوسًا دينيًا، وهي فترة ما عرف بـ (الجهاد) في جنوب السودان. أما في الخاص، اليومي والعادي، فحاور الفيلم ما يمكن وصفه بالمخفي والقابع وراء التصورات، والمتجاوز بـ “السكوت الجمعي”، وأعني العلاقة المتوترة في كثير من تمظهراتها بين مواطن الشمال السوداني وقرينه الآخر من الجنوب السوداني. التوتر الذي تستبطنه هذه العلاقة بعضه موروث تاريخي، والبعض الآخر أنتجته الدولة السودانية المركزية في علاقاتها المعقدة مع الجنوب وأطراف البلاد الأخرى، أما البعض الأخير فأنتجته تعقيدات اجتماعية موغلة في القدم، أسهم في إبرازها وإظهارها إلى السطح الهوس الإسلاموي إبان حرب الجنوب.

فيلم “وداعا جوليا” من تأليف وإخراج محمد كردفاني، وبطولة سيران رياك، وإيمان يوسف، ونزار جمعة. صدر الفيلم في العام 2023 ومدة عرضه 120 دقيقة. الفيلم من إنتاج أمجد أبو العلا ومحمد العمدة.

مستندًا على حكاية ملتبسة تجمع بين امرأتين؛ إحداهما تنتمي إلى شمال السودان والأخرى إلى جنوبه؛ نسج محمد الكردفاني وقائع فيلمه الأول “وداعًا جوليا”.

دوغمائية السوشال ميديا

بدأ الهجوم المكثف على فيلم “وداعًا جوليا” على منصات السوشال ميديا بمجرد الإفصاح عن قصة الفيلم، والقبول العالمي الذي استقبل به، ونيله منذ بداية إطلاقه عددًا من الجوائز، بعد مشاركات متتابعة في مهرجانات السينما العالمية.

حدث هذا الهجوم المكثف حتى قبل أن يشاهد المهاجمون الناقمون الفيلم، ويتعرفوا على طبيعته عن قرب. ومن الطرائف أن أحد أكثر وأقوى مهاجمي الفيلم، وهو سياسي ومثقف شاب يُحسب على التيار الإسلامي أو اليمين المحافظ، بعد سلسلة من المقالات الإسفيرية المخصصة لنقد الفيلم والجهة التي أنتجته، طلب علنًا، من أي شخص- متبرع- موجود في القاهرة، أن يشاهد الفيلم نيابة عنه، ولكن بطريقة محدَّدة سيشرحها له في الخاص!

ما الذي لامسه الفيلم من حقائق أزعجت الآخرين حتى قبل أن يشاهدوه؟ بلا شك الإجابة تكمن في عملية النبش والتعرية المجتمعية الدقيقة التي مارسها الكردفاني وتطرحها قصة الفيلم، ونجاحه كذلك في تقديم صورة حقيقية عن واقعنا السوداني، لكنا نتعامى عن رؤيتها، أو نتهرَّب من الاعتراف بها.

فالفيلم في صورة من صوره المجتمعية المرسومة على السطح، يكشف عن العلاقة المختلة التي كانت تجمع الشماليين بالجنوبيين، ففي وقت يواجه الجنوب سوداني الموت رميًا بالرصاص أو جوعًا أثناء هروبه، جراء الحرب العنيفة بين المتمردين والجيش السوداني ومناصريه من المجاهدين المتشددين؛ في هذا الوقت بالتحديد (حقبة التسعينيات وبداية الألفية) كان الشماليون، لا سيما في الخرطوم، يتنعمون بخيرات النفط الجنوبي المكتشف حديثًا وقتها، وهو ما أظهره الفيلم في العلاقة المختلة بين بطلتي الفيلم (جوليا ومنى)، فالأولى خادمة تعمل لدى الثانية؛ السيدة الشمالية!

هذه العلاقة بشكلها المتقبل والمبرر في ظل دولة ما بعد الاستعمار بكل عيوبها التكوينية والبنيوية؛ تبدو أكثر حساسية حين نضعها في معادلة (الشمالي والجنوبي)، فهي تحيل طوعًا إلى حقب أكثر إظلامًا ارتبطت بالرق وعلاقاته داخل المجتمع السوداني، وهذا ما لا يريد استعادته أو الاعتراف به بعض الشماليين، برغم أن آثاره ظلت مستمرة في التاريخ ومؤسسة بشكل عميق لشكل الدولة والمجتمع في السودان.

يفتتح الفيلم بمشهد إحالي يفسر الخلل الكبير في البنية المجتمعية السودانية، بالرغم من ارتباطه بحدث تاريخي سياسي، وهو مقتل الزعيم الجنوب سوداني جون قرنق (30 يوليو 2005)، وما تبعه من أحداث عنف دموية ما بين الشماليين والجنوبيين داخل العاصمة الخرطوم ومدن أخرى، فيما عرف بيوم “الاثنين الأسود”. هذا المشهد مقرون بجزئية الحرب في جنوب البلاد (المسيحي) وتورط الإسلاميين بكتائبهم المجاهدة، وتحويلهم هذه الحرب إلى حرب دينية تطهيرية، وقراءة كل هذا في إطار العلاقة المخاتلة التي تجمع بطلتي الفيلم؛ قد يقربنا من فهم هذا الهجوم اللامنطقي على الفيلم ومنتجه ومخرجه، من أشخاص لم يشاهدوا العمل أصلًا، إلا إن كانت المشاهدة السماعية الوصفية منطلقًا يؤسس لنقد الصورة!

تقول قصة الفيلم إن المرأة الشمالية (منى) تسببت عن طريق تأليب زوجها في مقتل زوج (جوليا)، كما تقول القصة إن زوج منى (القاتل) شارك قبل ذلك كـ مجاهد في حرب الجنوب، أي أنه من الجهة الأخرى أسهم بشكل ما في قتل جنوبيين آخرين بقصد ووعي، بعكس زوجته التي تورطت في الجريمة دون قصد منها، وهو ما دفعها نادمة لمحاولة التقرب من زوجة القتيل (جوليا)، وتعويضها عما تعرضت له من إرهاب وطرد من المنزل بعد أحداث “الاثنين الأسود”، ففي حين حاولت منى- وإن بطرق ملتوية- التكفير عما ارتكبته، تمادى زوجها في تعاليه ونظرته الدونية إلى كل ما هو جنوبي.

هل يخجل مهاجمو الفيلم من تاريخهم؟ أم هي المكابرة والتدليس، وإن على حساب فيلم سينمائي تحققت فيه كل الشروط السينمائية الموضوعية!

بدأ الهجوم المكثف على الفيلم على منصات السوشال ميديا بمجرد الإفصاح عن قصته، لكنه نال قبولًا عالميًّا، وحصل على نحو عشرين جائزة.

“وداعًا جوليا” في صورة من صوره المجتمعية المرسومة على السطح يكشف عن العلاقة المختلة التي كانت تجمع الشماليين بالجنوبيين في السودان.

محاولة قتل

ضمن الإطار الأيديولوجي المعادي للفنون، تعمَّد حكم الإنقاذ الإسلاموي إهمال السينما، بل عمل على حل مؤسسة السينما السودانية وتشريد موظفيها، وأسهم بالتشجيع أو العمل المباشر على إغلاق كل دور السينما في جميع أنحاء البلاد، مع تجفيف كامل لمصادر استيراد الأفلام السينمائية المشاهدة.

أفلام مثل “وداعًا جوليا” و”ستموت في العشرين” دون أدنى شك سببت أزمة مفاهيمية ورؤيوية لكل من نشأ محاطًا بالإطار الأيديولوجي لإسلاميي السودان، ولهذا ربما واجه الفيلمان، و”وداعًا جوليًا” بشكل أخصِّ، تلك الحملة المسعورة المبنية على مسوغات سياسية تتلبس حلة وطنية ودينية؛ فالتخوين، وإرضاء الغرب، ومعادة الدين والتقاليد، وتشويه صورة السوداني … إلخ، كل هذه الكليشيهات الشعبوية شكَّلت الإطار الذي استند عليه مهاجمو الفيلم، دون إشارة ولو وحيدة إلى القيمة الفنية والجمالية للفيلم، باعتباره عملًا فنيًّا تحكمه شروط نقدية متعارف عليها عند التناول.

نجح محمد الكردفاني في كتابة وإخراج فيلم سينمائي مؤثر، اختار قصته بوعي، وبنى شخوص عمله بإتقان، ومن دون ثغرات قدم رؤيته السينمائية. اختار نخبة متميزة من الممثلين السودانيين والجنوب سودانيين، نجحوا في تقمص شخصيات الفيلم، وقدموها بالحد المعقول من التوتر العاطفي والاجتماعي المطلوبين.

نجح كردفاني في نثر المرموزات البصرية بين ثنايا فيلمه الأول، كما نجح في اختياره لموسيقى منسجمة مع الأحداث الموحية، تُحقِّق بعدي الرؤى والشجن المكملين للحوار البصري والبناء الصوري للأمكنة.

نعم، قد تبدو الظروف التي بُثَّ فيها الفيلم، وتزامنها مع الحالة السودانية العامة نتيجة اشتعال الحرب في السودان، وما يواجهه السودانيون من تقتيل وتشريد وانتزاع من أرضهم، قد خلق حالة من التعاطف العام مع المنتج السوداني عالميًا، وحالة من التشبث العاطفي منتج الحنين سودانيًا، لكن كل هذا لا ينفي نجاح الفيلم في شد مُشاهده لتتبع ذلك التطوير البديع للعلاقة الإنسانية المتدرجة من خانتي تأنيب الضمير وموقع التعالي المتسطِّح للسيدة الشمالية “منى”، والمرأة الأخرى ضحية الواقع المجتمعي الظالم “جوليا”، فالنسيج الفيلمي الذي أنتج هذه الحالة ونمَّاها إلى درجة الصداقة والقبول المتواطئ مع تطور أحداث الفيلم، ونجاح الممثلتين المؤديتين في تقمص الدورين، وما يتطلبه من دفق عاطفي متناقض، هو بلا شك أحد الأوجه الكثيرة المشرقة التي أسهمت في نجاح الفيلم، ووضعه في قائمة أفضل الأفلام السودانية جذبًا للمشاهد ذات التقبل الإيجابي لكل من شاهده.

حقق فيلم “وداعًا جوليا” حتى الآن أكثر من 20 جائزة عالمية، نالها في عدة مهرجانات عالمية وعربية وأفريقية مرموقة، كما حقق نجاحًا آخر غير مسبوق في دور العرض السينمائية، لا سيما في البلدان العربية التي يوجد فيها الكثير من السودانيين خلال هذه الفترة، بسبب الحرب الدائرة في بلادهم التي دفعتهم إلى الخروج من وطنهم السودان.

“وداعًا جوليا” صوت إيقاظ وتنبيه لقضايا وطن راكمها النسيان وفجرتها الحروب المفجعة.

نجح محمد الكردفاني في نثر المرموزات البصرية بين ثنايا فيلمه، كما نجح في تحقيق بعدي الرؤى والشجن المكملين للحوار البصري والبناء الصوري للأمكنة.

فاصل اعلاني