بين حوجن وهجان: السينما السعودية تفجر حلم الانتصار للذات
12 August، 2024
خالد محمود
دون شك تمر السينما السعودية بمتغيرات كبيرة، من حيث الفكر والنهج والأسلوب الفنى والقصص المطروحة، وإنتاج طموح يسعى لحجز مكانة على الساحتين المحلية والعربية، وهو ما عكسته شاشة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي فى دورته الثالثة، عبر مجموعة من الأفلام الحديثة، التى يتجاوز الكثير منها حاجز التقليدية والصورة المألوفة، ويحاول صناعها الاشتباك مع قضايا الواقع المعاصر، وأيضًا تطوف بين أحداث تاريخية ملهمة لتضع تصوراتها للمستقبل، وتفجر حلم الانتصار للذات.
السينما السعودية تمر بمتغيرات كبيرة من حيث الفكر والنهج والأسلوب الفني. هذا ما عكسته شاشة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي فى دورته الثالثة.
“حوجن”
هذا ما لمسته وأيقنته وأنا داخل صالات العرض أشاهد نماذج من السينما السعودية، توحي بنهضة سينمائية قادمة واعية، كانت المفاجأة الأولى فيلم “حوجن”، وكان لدىَّ شغف كبير لمشاهدة تجربة المخرج ياسر الياسري الجديدة، فطالما كانت أعماله مصحوبة بفكر مختلف، واستخدام جديد للتقنيات الحديثة.
فى فيلم “حوجن” الذى يمزج بين الخيال والرومانسية، وبين جن وبشر، كانت هناك محاولة لتشكيل عالم واحد مهما اختلفت أطيافه، وكان التساؤل: كيف أمكنه التعامل مع الرواية التى يستند إليها العمل؟ وهى الرواية الخيالية السعودية الأكثر مبيعًا لإبراهيم عباس، وأثارت جدلًا وأصبحت ظاهرة أدبية محلية، بسبب عمق فكرتها، ومزيجها الخيالي والتراثي بين أعراف ثابته ورؤى بلا حدود لواقع متخيل، وكيف حولها إلى صورة سينمائية مدهشة ومضيفة روحًا جديدة لإنتاج السينما العربية.
الفيلم الذى افتتح الدورة الثالثة لمهرجان البحر الأحمر السينمائى، تدور أحداثه فى عالم تجاوز فيه الجن حاجزًا تقليديًا. إنه يصور عالمًا تضطر فيه كيانات الجن الأسطورية إلى العيش بين البشر، حيث يقع حوجن (براء عالم) فى نهاية المطاف فى حب فتاة بشرية، وينطلق فى رحلة مليئة بالمغامرات للكشف عن نسبه الغامض.
فى سياق الأحداث يروي المخرج فى سلاسة تلك اللحظة التى تنقلب فيها حياة «حوجن»، الجني الشاب، رأسًا على عقب، عندما تنتقل عائلة بشرية، هى عائلة عبدالرحيم، إلى منزل العائلة فى جدة، غافلة عن حقيقة أن المنزل محتل بالفعل من قبل كائنات غير مرئية.
وينبهر حوجن بسوسن، تلك الفتاة الجميلة (نور الخضراء) طالبة الطب، ويعجب بها، ويقترب منها وهى تشعر به دون أن تراه، فى مشاهد طازجة تؤهلنا إلى أن نرى كل شىء ممكنًا فيما نشاهده، حيث يصبح «هوجن» مفتونًا بالعائلة البشرية، ويقع فى حب “سوسن” بالفعل، ربما عن دون قصد، ويحاول من جديد البحث عن نفسه، ويخبره جده وأمه أنه ابن ملك الملوك الذى تم اغتياله، ويسعى للأخذ بالثأر وينجح، محاولًا أن ينتقل بحياته بين العالمين، ويشكك فى الكثير من الأعراف والعادات القديمة التى تعلمها حول عالم البشر وعاداتهم، ليدفعه فضوله إلى مخالفة آراء عائلته، (آل النفر) التى تؤمن بالله، وتلتزم بعدم التفاعل مع البشر، ليتناسى الحواجز بين الجنّ والإنس.
فى إطار السيناريو الذى كتبه المخرج ياسر الياسري مع إبراهيم عباس وسارة طيبة وحسام الحلوة، بدا السرد الدرامى طبيعيًّا مازجًا بين الممكن والمحال، وكان الأداء مقنعًا فى العديد من مشاهد الاكتشاف المتبادل للذات بين كلٍّ من حوجن وسارة، وأيضًا لمصير من حولهما، وسط أجواء تصوير تمزج بين الواقع والخيال، بكاميرا المصور نيمانيا فيسيلينوفيتش، وكان لموسيقى خالد الكمار سحرها الخاص فى تسريب المعنى داخل وجدان المشاهد.
“حوجن” ليس فقط عرضًا جديدًا من حيث الشكل، حيث إظهار عالم الجن بصريًّا، فليس هناك مرجع لما يبدون عليه، فعالمهم غير مرئي بالنسبة لنا، والتحدى فى خلق هذا العالم من العدم وجعله قريبًا مما يتخيله المشاهد.
ومن حيث المضمون حيث يتميز أيضًا بالجرأة فى اقتحام تلك الأفكار، وكونه تجربة سيريالة وفرصة لإنشاء شىيئًا نادرًا ما يتم تناوله فى السينما العربية.
أتذكر قول الياسرى عن مشروعه (لقد تعلَّمت الكثير عن ثقافة الجن وتاريخهم، وإن أكثر ما أردته هو الاستفادة من فكرة عدم وجود إشارة بصرية مشتركة للجن؛ لأنه فى تقاليدنا وثقافتنا لا يمكننا رؤيتهم؛ لذلك لا يوجد عربيان يشتركان فى نفس الفكرة حول شكل الجن.. لقد كان تحديًا، ولكنه جميل).
من المهم أن تقتحم السينما العربية مناطق جديدة، بعيدًا عن النمطية السائدة من الأكشن والكوميديا، لكن بشرط أن تكتمل بها عناصر الجاذبية والإبهار.
كانت المفاجأة الأولى فيلم “حوجن”، وكان لديّ شغف لمشاهدة تجربة المخرج ياسر الياسري الجديدة، فطالما كانت أعماله مصحوبة بفكر مختلف، واستخدام جديد للتقنيات الحديثة.
من المهم أن تقتحم السينما العربية مناطق جديدة، بعيدًا عن النمطية السائدة من الأكشن والكوميديا، لكن بشرط أن تكتمل بها عناصر الجاذبية والإبهار.
“هجان”
التجربة الأخرى التى تشهد على تلك الانطلاقة تتجسد فى فيلم “هجان”، والواقع أننى عقب مشاهدتي فيلمه الطويل الأول (يوم الدين) بمهرجان كان عام 2018، والذين نافس على جائزة السعفة الذهبية، أيقنت أنني أمام مخرج يملك فكرًا فنيًّا خاصًّا، عاطفي وعميق من نوع ما، حيث أظهر الفيلم أحد سكان مستعمرة الجذام يصادق طفلًا مهملًا، ويشرعان مع حمار في رحلة إلى مدن جنوب مصر بحثًا عن الخلاص والقبول.
بعد خمس سنوات، يعود المخرج أبو بكر شوقي بفيلمه الثاني “هجان”، وهذه المرة في بيئة مختلفة تمامًا، ومنغمسًا في الثقافة والأساطير والفولكلور العربي. فمع “هجان” الذي عرض بمهرجان البحر الأحمر السينمائى بدورته الثالثة، يضع شوقي أنظاره على الصحراء العربية، موطن بعض متسابقي الهجن الأكثر مهارة وإصرارًا فى العالم، فى صورة سينمائية مدهشة، وحوار يتسرب إلى الوجدان، ويجعلك تعيش المغامرة بحس إنساني، متفاعلًا بكل جوارحك وقد لعبت الموسيقى التصويرية دورًا مؤثرًا في مسار الأحداث.
في اللحظات الأولى من الفيلم، يصور شوقي، الذي شارك في كتابة الفيلم مع عمر شامة ومفرج المجفل، أنه بالنسبة لهذه الثقافة، يحمل سباق الهجن أهمية أكبر بكثير من مجرد الفوز أو الخسارة. إنها علامة على الشرف والمكانة الاجتماعية والرجولة، وكلها مرتبطة بالقدرة على أن تكون أول من يعبر خط النهاية، وهو إنجاز رائع من شأنه أن يرفع الفائز إلى مستوى البطل المحلي الذي لن تمحى إنجازاته من كتب التاريخ أبدًا.
نحن أمام “مطر” الذى جسده باقتدار “عمر العطاوي”، فتى شاب نشيط وله علاقة خاصة جدًّا مع ناقته التى تدعى “حفيرة”، وتعد أكثر من مجرد جمل سباق، فهي صديقته المقربة ورفيقة روحه، تتوحد معه وكأنها بشر. عندما يتعرض شقيق مطر لحادث مأساوي، حيث يطعنه أحد المتنافسين فى الطريق، يجبر مطر على إعادة النظر في هدف حياته. ينطلق في رحلة محفوفة بالمخاطر؛ للانتقام لمقتل أخيه، والحصول على حريته بالفوز.
بعد دخوله عالم سباقات الهجن الذي يبدو ساحرًا، ولكنه وحشي بطبيعته، وغير عادل في كثير من الأحيان، سرعان ما يصبح مطر فارسًا ويفاجئ الجميع بمهاراته. بعد فترة وجيزة أصبح ناقته “حفيرة” سلعة رائجة، وتم شراؤها من قبل أحد أغنى السكان المحليين “عبدالمحسن النمر” الذي يتوق إلى إضافة الجمل وفارسه إلى فريق السباق الخاص به، على أمل التأهل إلى السباق الكبير في البلاد، وهو جمل باهظ الثمن يحظى بمتابعة عالمية. حدث سباق يحصل فيه الفائز على الناموس، وهو أعلى وسام اجتماعي يمكن للمرء أن يأمل فيه. عندما يكتشف مطر في النهاية أن ذلك الرجل الذى يمثل الأنانية والطمع والشر كان وراء وفاة شقيقه؛ تأخذ الأمور منعطفات أكثر قتامة، ويجب على “مطر” أن يقرر ما إذا كان قادرًا على الانتقام والخلاص وكسب نفسه.
ينبض فيلم “هجان” بالحياة حقًّا، من خلال مشاهد سباقات الهجن المكثفة، والتي يتم تنفيذها بشكل رائع، من خلال التصوير السينمائي الجميل، والمونتاج الواعي، والموسيقى الملهمة لأمين بوحافة، والذي يقدم هنا واحدة من أكثر الموسيقات التصويرية إثارة للاهتمام هذا العام، حيث إنها متدفقة ورشيقة آسرة للغاية، لدرجة أنها تعوض العديد من لحظات الفيلم الكئيبة والصامتة وغير المثيرة، وتعطي الفيلم الهزة التي تشتد الحاجة إليها عندما تعود الكاميرا إلى ميدان السباق، مما يسمح لنا بالاندماج مع ما يحدث على الشاشة، ولمصير مطر.
بعد خمس سنوات، يعود المخرج أبو بكر شوقي بفيلمه الثاني “هجان”، وهذه المرة في بيئة مختلفة تمامًا، ومنغمسًا في الثقافة والأساطير والفولكلور العربي.
عنصر متكامل
الفيلم يعرض صحراء السعودية الجميلة، وعالم سباقات الهجن الفريد كعنصر ثقافي متكامل، كل مشهد سباق يبعث الحياة لشخصياته من جديد بدراما متفجرة بمشاعرها الإنسانية، وعندما يعود الفيلم إلى الصحراء، فإن سحر الرمال الذهبية والجبال المؤرقة، إلى جانب النتيجة الرائعة، يعيدنا للمشاهدة والبهجة.
“هجان” ينتمي تمامًا لنوع السينما التى أحبها، تلك الأفلام التي تشعرك بالخصوصية أثناء مشاهدتها، بواقعيتها وصدام أبطالها بين الخير والشر، والمعاناة التى تولد الحلم لديّ المستضعفين.
نقطة حيوية مهمة صاغها السيناريو لمأزق الصغار الذين يعيشون مع نظم قاسية، وحياة تتطلب الكفاح وإثبات الوجود، وكيف أن القدر يمكنه أن يقف بجوارك مثلما عاندك وقسا عليك. إنه فيلم رائع، نجح في الجمع بين الرياضة المثيرة والإرث العائلي والانتقام، في صورة مميزة ومذهلة، وإيقاع محكم ومليء بالإثارة، ويترك مجالًا للجمهور كي يتنفس.
تضافر كل عنصر تقني مع غيره ليخدم القصة بحالة درامية سلسة دون تحذلق أو سخف، راسخة في الماضي الثقافي والحاضر والمستقبل. بعد خروجي من هذا الفيلم شعرت فجأة بالانتقال إلى صباي، وكم كان يجب أن أتمسك بالحلم والهدف، وأن أوقن بوجود الخير مقابل الشر والشجاعة أمام الجبن، وأن النزاهة والشرف واجبنا تجاه أنفسنا والآخرين.
تمسك هجان بإيقاعات سردية مألوفة دون أن يكون زائدًا عن الحاجة، وقدم نسخته الخاصة من القصة التي سمعناها جميعًا مرارًا وتكرارًا طوال حياتنا؛ لأن هذه قصة تستحق التكرار. نعم يسلط هجان الضوء على الجوانب الخالدة للتجربة الإنسانية: الحزن، العاطفة، التقاليد، سرد القصص، ورفضنا العنيد للاستسلام أو الانتصار، وأيضًا تكلفة النصر.
بالطبع الفيلم كلاسيكي فى سرده، لكنه بمثابة نسمة من الهواء المنعش لتحقيق الذات بمساره الخاص، خارج تلك الضغوط التي تسيطر على صناعة السينما. تركيزه القوي على سرد قصة مطر، وروايتها بشكل جيد، يضفي على الفيلم روحًا وإصرارًا حقيقيين، ويرفعه إلى مستوى الملحمة الجميلة المترامية الأطراف (مبهرة، ومؤثرة). نعم بكيت فى مقعدى فى بعض اللحظات، نعم أحب الفيلم الذي يجعلني أدمع؛ لكنه يُتيح لي الاحتفاظ بنهاية سعيدة.
أخيرًا؛ كان أداء بطلنا الصغير “عمر العطاوي” مدهشًا بانفعالاته وصمته، والتعبير بعينه التى تعكس كل وجوه الحياة، وأتوقع له مستقبلًا باهرًا، وكذلك “عبد المحسن النمر” الذي جسَّد الطمع باقتدار.
إن السينما السعودية تمر دون شك بطفرة وتحول هائلين، وهناك دعم كبير للفيلم كي يصل إلى آفاق أوسع، والواقع أن الفكرة ليست مجرد دعم إنتاجي للأفلام، بل أيضًا رؤية ووعي بما يجب أن تكون عليه هذه الأفلام فنيًا وتقنيًا. وأعتقد أن هذه هي المعادلة التي ساهم المهرجان في تحقيقها.
إنه فيلم رائع نجح في الجمع بين الرياضة المثيرة والإرث العائلي والانتقام، في صورة مميزة ومذهلة، وإيقاع محكم ومليء بالإثارة، ويترك مجالًا للجمهور كي يتنفس.