• English
  • 4 نوفمبر، 2024
  • 4:44 ص

نورة: حكاية بسيطة ذات مفادات كبيرة

نورة: حكاية بسيطة ذات مفادات كبيرة

12 August، 2024

محمد رُضا

قبل قرابة عشرين سنة، كتب المخرج توفيق الزايدي مقالة قصيرة في موقع “ظلال وأشباح”، أورد في مقالته الفقرة التالية: 

“عندما تشاهد فيلماً وعلى شاشة كبيرة في داخل صالة سينما؛ تتوحد مع الفيلم وتصبح هذه الشاشة السينمائية في اتصال مباشر مع  شاشتك الخاصة. يصبح كل ما تشاهده في الفيلم  عبر الشاشة الكبيرة يتعامل معه العقل وكآنه شاشتك الخاصة، وبذلك تتحول هذه الصور الي مشاعر كالبكاء أو الضحك أو القلق، ويتعامل معها الجسد وكأنه واقع تعيشه”.

في ذلك الحين، كان المخرج الشاب ما زال ينجز الأفلام القصيرة ومنها “أربعة ألوان” و”الآخر”. حمل الأول عام 2015 فكرة جميلة، عبّـر عنها مخرجها بنجاح في عموم جوانبها: شلة من البنات اللواتي يتبادلن الحديث العادي بينهن. في الخارج أولاد يلعبون ببالونات ملوّنة. البنات يخرجن ويلعبن كذلك. فتاة كانت تجلس بعيداً عنهن، تطير بالونها الذي يرتفع أعلى من البالونات الأخرى. وكإيقاع هادئ يجاور موضوعاً متأزماً بنجاح، يسرد المخرج الشاب الفيلم الثاني “الآخر” 2016 حكاية رجل سعودي ينقل ابنه إلى المستشفى في حالة طارئة، ويُـقال له أن الجراح المختص على الطريق. ويكتشف أن الجراح شيعي، مما يجعله يرتاب فيه. الفيلم  موجّه لكي يغذي الوئام والألفة بين الطائفتين، لكنه  ليس دعائياً مباشراً أو غير متوازن في وجهته. الوسيلة التي اعتمدها المخرج لمسيرة هذه الحكاية تستفيد من إلمامه التقني الجيد، ومن رغبته في توفير مصداقية للشخصيتين (الأب والطبيب) وللحادثة بحيث لا تفقد رصانتها، رمز لتفوّقها.

كل من هذين الفيلمين، بالإضافة إلى أعماله الأخرى في المجال ذاته، حمل حوافز الرغبة في اجتياز ملامح الفيلم القصير، لتحقيق ما يشكل تكويناً فنياً ودرامياً أعلى في مدة زمنية أطول.

ليس أن الزايدي كان منفرداً في هذا الطموح، بل شاركه في ذلك عديدون ممن صاحبوه، من أبناء المملكة أو سواهم، في ذلك الطموح. لكنه هو واحد من القلّة التي اجتازت ذلك الخط، وحققت بالفعل فيلمها الروائي الطويل الأول، تحت عنوان لافت وهو “نورة”.

حمل فلمي الزايدي “الآخر” و”أربعة ألوان” بالإضافة إلى أعماله الأخرى حوافز الرغبة في اجتياز ملامح الفيلم القصير.

ثلاثة عوالم

في “نورة” نجد الزايدي يقفز خطوتين كبيرتين إلى الأمام. الأولى النقلة إلى ميدان الفيلم الروائي الطويل عبر “نورة” الذي شوهد في “مهرجان البحر الأحمر” في نهايات العام الماضي، والثانية عبر دخوله مسابقة “نظرة ما” في مهرجان “كان” السينمائي، ممثلاً المملكة العربية السعودية كأول فيلم باسمها يدخل المسابقة الرسمية.

ما كتبه الزايدي عن دخول المُشاهد عالم الفيلم من خلال تلقي المعروض على الشاشة الكبيرة، مارسه في فيلمه “نورة” موفراً للمُشاهد دراما لا تتيح له التفكير بغيرها. فيلم خاص لموضوع غير مطروق حول أستاذ من المدينة يصل إلى قرية في البادية ليعلّم فيها.  يريد هنا أن يعرض ما يستطيع المُشاهد أن يتبناه واقعياً وبأسلوب المعايشة مع البيئة التي تدور فيها حكايته.

في الأساس هناك ثلاثة عوالم (ثلاث شاشات تبعاً لمفاده) في هذا الفيلم: العالم الأول هو المدينة التي لا نراها لكنها حاضرة  من حيث هي خلفية الأستاذ والرغبة المستقبلية لفتاة تتطلع للانتقال إليها والعيش فيها. العالم الثاني عالم القرية المحافظة على تقاليدها التي تقع فيها الأحداث كلها. والعالم الثالث هو الصدى الشخصي لذلك المعلّم الذي يعرف أصول العلاقات الاجتماعية ، لكنه يسمح لنفسه بمحاولة تغذية أحد جوانبها الحرجة ويفشل.

الحبكة بسيطة كقصّة وعميقة كمفادات.  التنفيذ العام لها مدروس بحيث لا يسمح المخرج للدراما أن تخرج من قبضة الواقع. يسرد حكايته كما لو أنها تقع أمامه بالفعل. صادقة ومنتظمة وإيقاعها هادئ.

التمهيد سريع والمخرج ليس لديه وقت يصرفه على الشكليات. الكاميرا تحكي كل شيء في البداية كاشفة عن البيئة الصعبة والتقاليد القائمة في إطار العام 1992 كما يذكر الفيلم في مطلعه.

يبدأ الأستاذ نادر (يعقوب الفرحان) بتعليم الأولاد الصغار الأبجدية والكتابة والتفكير معاً. هو أوعى من أن يلتزم بالحروف وحدها معتبراً أن المطلوب هو توسيع المدارك العامّة من دون الخروج عن المتاح من التقاليد. على ذلك، يرتكب ما يعتبره آخرون فعلاً غير مقبول وهو تعليم الرسم كحصّة لم يسبقه إليها أحد.

ثم يجد نفسه متورّطاً إلى حيث قادته قدماه عندما أخذ يعطي التلامذة الصغار تلك الدروس: نورة (ماريا بحراوي) فتاة شابّة تلهمها المجلات الفنية التي يهرّبها لها صاحب دكّان هندي. تفتحها وتفحص صور الممثلات فيها وتتمنى لو كانت تنتمي إلى تلك الشهيرات. تدرك أن عليها مغادرة القرية إلى المدينة  (حيث تعيش جدتها) كبداية للاستثمار في حلمها.

ما كتبه الزايدي عن دخول المُشاهد عالم الفيلم من خلال تلقي المعروض على الشاشة الكبيرة، مارسه في فيلمه “نورة” موفراً للمُشاهد دراما لا تتيح له التفكير بغيرها.

عبر فيلم “نورة” نجد الزايدي يقفز خطوتين كبيرتين إلى الأمام. الأولى النقلة إلى ميدان الفيلم الروائي الطويل ع ، والثانية عبر دخوله مسابقة “نظرة ما” في مهرجان “كان” السينمائي.

بلا خطابات

لكن  الفيلم لا يخبرنا الكثير عما سيكون عليه حال المدينة بالنسبة إليها، لو نفّذت رغبتها. لا يحاول تمرير ردع لما تتمناه ولا تقديم نصائح مباشرة أو غير مباشرة ولا حتى الموافقة على أحلامها. يكتفي بعرض الحالة لمُشاهد هو أوعى من أن يُلقّن ما يدركه هو ولا تدركه هي. في ذلك الحين لم يكن للمرأة في القرية أو في المدينة سوى أن تحلم. الموقع ذاته (قرية أو مدينة) لن يغيّر شيئاً في حياتها.

لكن نورة لا تعرف ذلك وتطلب من المعلّم أن يرسمها (يفعل ذلك خفية) ثم تطلب منه أن يأخذها إلى المدينة.

عند ذلك الحد تكون القرية أدركت أن هذا المعلم يمشي ضد تيار مبادئها. لم يرتكب خطأ أو يسيء لأحد، لكنه لم يتجنّب كذلك الخروج عن المتوارث.

ليس هناك انفعالات من المشاعر أو المواقف. شيخ القرية صارم لكنه ليس طاغياً. الأستاذ لا يحاول الدفاع عن نفسه. يدرك إنه فعل ما لم يكن محموداً، لكنه ليس من النوع الذي سيخطب في البشر مبشراً بعالم جديد. هذا لو حدث لكان خيانة المخرج للمعايشة الواقعية للبيئة والحقائق.

المهمّة التي يتصدى الزايدي لها دقيقة. يرغب في الحديث عن الحاجة للتطوّر من دون أن ينتقد التراث والتقاليد. مع حق “نورة” في المعرفة من دون الانجراف إلى موضة الإتجار بها. ومع رغبة المعلّم في فتح المدارك من دون لومه على ذلك. يحقق الزايد يكل  ذلك عبر سيناريو وطريقة سرد تضع كل الاحتمالات على الطاولة، عندما يبدأ المشاهد بالتساؤل عما إذا كان الأمر سيتجاوز علاقة حذرة وبعيدة عن التفاعل العاطفي بين الشخصين  (نورة ونادر)، وإذا ما كان الوضع سينفجر على نحو عنيف. لكن الزايدي أكثر احتراماً لقوانين تلك البيئة. لا يحكم على القرية لمجرد رفضها مواكبة التطوّر، لكنه يوحي بأن هذا التطوّر ضروري.

الفيلم نتاج حرص شديد على إصابة أكثر من هدف واحد. في المقدّمة هو منح المشاهدين دراما اجتماعية تدور في رحى زمن قريب مضى. من ناحية ثانية هو تجسيد لرغبة المخرج إنجاز الفيلم الذي سيأخذه إلى نجاحات محلية وعالمية معاً وهو يدرك الكيفية، ويمارسها بعناية طامحاً إلى إنجاز الفيلم بأسلوب خاص به.

يحقق المخرج هذه الأهداف على نحو شبه متساو. يمنح الفيلم مشاهديه حكاية من وحي زمن مضى، كان الفن فيه محرّماً أو فعلاً يمارسه أشخاص لا يمكن الوثوق بهم.

فيلم “نورة” نتاج حرص شديد على إصابة أكثر من هدف، في مقدمتها منح المشاهدين دراما اجتماعية تدور في رحى زمن قريب مضى. وتحقيق رغبة المخرج في إنجاز فيلم يأخذه إلى نجاحات محلية وعالمية معاً.

فاصل اعلاني