• English
  • 20 يناير، 2025
  • 5:25 ص

محمد ملص: سيرة المدينة وأحلامها وانكساراتها

محمد ملص: سيرة المدينة وأحلامها وانكساراتها

4 January، 2023

لبنى صويلح

تنحاز أفلام المخرج السوري محمد ملص (المولود في القنيطرة عام 1945) إلى حكايات الناس العاديين وتطلّعاتهم، دون أن تتخلّى عن نبرتها السياسية، حيث يمزج سيرته الذاتية و”السيرة المشتهاة” في سينما يتداخل فيها الحلم والواقع، في نسيج حكائي يمتاز بالشاعرية العالية والصورة المبهرة.

في دار “سينما الدنيا”، تلمّس محمد ملص شغفه بالأفلام، قبل أن يضطر وعائلته للنزوح من القنيطرة إلى دمشق، في منتصف الخمسينيات، حيث نشأ في حي شعبي، سيشكّل ذاكرته البصرية الأولى. ومع اضطراره إلى العمل مبكرًا بسبب وفاة والده، احتّك بالشارع منذ صباه وعايش حكاياته ويوميات ناسه. بعد تخرجه في قسم الفلسفة في جامعة دمشق، بدأ صاحب “الليل” حياته المهنيّة مدرّسًا، ولكنّ إعلانًا عن امتحان للالتحاق ببعثة لدراسة الإخراج السينمائي في موسكو أعاده إلى العالم الذي حلم بالانتماء إليه منذ الطفولة، مستعيدًا أضواء تلك السينما العتيقة.

تمكّن الشاب الطموح من الالتحاق بالمنحة، وأنجز أثناء دراسته الفيلم القصير “أحلام مدينة صغيرة” الذي حمل من خلاله الكاميرا لأول مرة، والذي يعتبره ملص بمثابة بروفة لباكورة أفلامه الطويلة “أحلام المدينة”، بالإضافة إلى فيلمي “اليوم السابع” و”الكل في مكانه وكل شيء على ما يرام سيدي الضابط”.

عاد محمد ملص إلى سوريا في منتصف السبعينيات، ليحقّق مع التليفزيون السوري ثلاثة أفلام تسجيلية قصيرة هي “القنيطرة 74″، “الذاكرة”، و”الفرات”، قبل أن يصنع أول روائي طويل له “أحلام المدينة” (1984)، الذي يروي قصة أرملة شابة وولديها، يضطرون للنزوح من القنيطرة إلى دمشق، والإقامة في منزل الجد العجوز الأناني، حيث تتراكم القسوة والخيبات التي تدفع الابن البكر “ديب” للنزول إلى العمل. ومن خلال يومياته، نعايش دمشق الخمسينيات المضطربة سياسيًّا، ونتعرّف على الأحلام المجهضة لذاك الجيل. هذه التحفة السينمائية التي صنفّها النقاد واحدة من أهم عشرة أفلام عربية، أعلنت انطلاقة مخرج سينمائي صاحب بصمة فريدة ولغة سينمائية جديدة، أسّس لما يسمى تيّار سينما المؤلف في سورية.

في “الليل” (1993) يعود محمد ملص إلى مدينته الأحب القنيطرة، في ثلاثينيات القرن المنصرم، حين خسر العرب مواجهتهم الأولى في فلسطين، من خلال قصة شاب ينقّب في ماضي والده الذي قاتل في فلسطين مع جيش الإنقاذ، قبل عودته إلى القنيطرة متأثرًا بالهزيمة. ومن خلال مرويّات والدته، يحاول هذا الشاب ترميم الذاكرة، وتشكيل صورة الأب المفقود، في حكاية يتداخل فيها الذاتي مع المتخيل، بشاعرية مغرقة بالرمزيات.

بلاد على حافة الاشتعال

أما فيلمه الروائي الثالث “باب المقام” (2005، إنتاج سوري- تونسي- فرنسي)، فقد أنجزه في مدينة حلب التي حمل الفيلم اسم أحد أبوابها، عن امرأة متزوجة يعرّضها شغفها بأغاني أم كلثوم لتهمة أخلاقية، تنتهي بجريمة شرف. وفي آخر أفلامه الروائية “سلّم إلى دمشق” (2013) يروي صاحب “أحلام المدينة” حكاية شبان وشابات من مناطق وانتماءات سورية مختلفة، يتشاركون منزلًا مستأجرًا، في إحدى حارات دمشق القديمة، حيث البلاد على حافة الاشتعال، والحرب حاضرة بقوّة، تتحكّم بمصائر الشخصيات دون أن نراها.

محمد ملص وعمر أميرلاي

وبالإضافة إلى الأفلام الرّوائية التي شكلت علامات فارقة في السينما السورية والعربية، فقد شغلت الأفلام التسجيلية والوثائقية حيّزًا أساسيًّا من مشروع محمد ملص الفكري والإبداعي، أبرزها “المنام”(1987)، و”نور وظلال” (1994) الذي حقّقه بالاشتراك مع المخرجين عمر أميرلاي وأسامة محمد، و”المدرس” (1995)، و”حلب: مقامات المسرة” (1996)، و”فوق الرمل، تحت الشمس”(1998)، و”محارم” (2009).

وكان محمد ملص قد بدأ حياته روائيًّا، أثناء دراسته للسينما في موسكو، بتحريض من الروائي صنع الله إبراهيم الذي كان يشاركه الغرفة نفسها، حيث كتب روايته الأولى “إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب” التي صدرت عن دار ابن رشد- بيروت (1977)، لتتبعها عدة كتب منها “الليل: سيناريو سينمائي”(2003)، و”مذاق البلح”(2010)، وآخرها “وحشة الأبيض والأسود” (2016) وهي يوميات عن السنوات الأولى من عمله السينمائي مثقلة بالأحلام الكبيرة والخيبات بمشاريع وسيناريوهات بقيت حبيسة الأدراج، أو كما يقول مفسرًّا “تتجمع في حلقي مذاقات أشبه بالصديد”، ويضيف “أبدو كمن يبحث عن الزمن صفر وراء قضبان زنزانة الأعوام”.

في عام 2017 صدر في نيويورك كتاب “سينما محمد ملص”، بتوقيع سميرة القاسم ونزار عنداري (دار باليغراف)، وهو الكتاب الأول في سلسلة دراسات عن السينما العربية، وقد اشتمل على عشر ساعات من المقابلات المصوّرة التي تختزل تجربته الطويلة ومراياه الداخلية.

حاز محمد ملص جوائز عربية وعالمية، وتم تكريمه في مهرجانات عدة، منها مهرجانات: قرطاج وبيروت ودمشق والشاشة العربية المستقلة والفيلم العربي في برلين، كما شارك في لجان التحكيم لعدد من المهرجانات السينمائية الدولية.

الانتماء إلى السينما المحضة

التقت “كراسات سينمائية” المخرج محمد ملص، وكان هذا الحوار حول تجربته وجديده وقضايا سينمائية متعلقة..

أنهيتَ مؤخرًا فيلمًا وثائقيًّا عن الفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي. ما أهمية صناعة فيلم وثائقي بالنسبة لك في هذه الفترة؟

يبدو لي أنّه لابد من العودة إلى بعض المفردات السينمائية الخاصة التي سبق وعملت من خلالها خلال الأربعين عامًا الماضية حتى اليوم. وهذا يشمل أيضًا الفيلم الذي حققته أخيرًا عن يوسف عبدلكي، وأقصد بالمفردة أنني انتميت خلال الفترات التي عملت بها إلى رؤية لما أسميه ميلًا، ومحبة للسينما المحضة، سواء في كتابة سيناريوهات أفلامي أو في إخراجها، وذلك بالجمع بين الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي في شريط واحد.

محمد ملص مع يوسف عبدلكي أثناء التحضير لفيلمه الوثائقي الجديد

إن السينما الوثائقية العربية التي تم إنجازها في سورية على أيدي عدد لا بأس به من المخرجين، خلقت هوية إبداعية للسينما الوثائقية، كما أسهمت في الوصول إلى سينما عربية وثائقية من نوع خاص. وأذكر هنا تجارب ملهمة أنجزها على نحو خاص المخرجان قيس الزبيدي، والراحل عمر أميرالاي، وليس صدفة أنّنا- وأقصد ثلاثة من المخرجين السوريين هم عمر أميرالاي وأسامة محمد وأنا – قد حققنا بصورة مشتركة عددًا من الأفلام التي تنتمي لهذا التوجه، وهي فيلم “نور وظلال” عن السينمائي الطليعي السوري نزيه الشهبندر، والفيلم الآخر بعنوان “مدرس” وهو سيرة لونية للتشكيلي الرائد فاتح المدرس.

وسبق لي أيضًا أن حققت فيلمًا بعنوان “حلب مقامات المسرّة” عن المؤدي   صبري مدلل. بهذا المعنى، أردت أن أرسم “بورتريهًا” للفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي، الذي حاولت من خلاله أن أبيّن المحطات المؤثرة التي عاشها يوسف، وتمكّن خلالها، في سورية أو خارجها، أن يؤسس لنفسه توجهًا تشكيليًّا خاصًّا، نلمسه في أعماله المختلفة، تاركًا للمتلقي أن يدرك القيمة الفنية الكبيرة التي حققها هذا التشكيلي السوري طوال نصف قرن. القيمة التي اختصرها معظم النقّاد بالقول “إن ما يرسمه يوسف لا يشبه أحدًا آخر”.

السينما الوثائقية العربية التي أنجزت في سورية أسهمت في الوصول إلى سينما عربية وثائقية من نوع خاص.

تحضر الأحلام بكثافة في أفلامك. لو أردت صناعة فيلم عن أحلام المدينة اليوم.. كيف ستعكس صورتها الراهنة؟

من فيلم أحلام المدينة

أعتبر هذا السؤال سؤالًا محرّضًا، فإذا كنت في عام 1984 قد حققت “أحلام المدينة” لأتحدث عن دمشق الخمسينيات، وما كانت تختزنه من أفكار وصراعات وسجالات في الحي الشعبي الدمشقي، والتي كان لابد من أن تنتهي آنذاك إلى الوحدة بين سورية ومصر، فليس غريبًا أن أحاول اليوم الكتابة عن دمشق سنة 2018 (حيث لا أريد أن أتحدث عما بعدها)، وإن من منظور آخر. في هذا السياق، انتهيت من كتابة مشروع فيلمي الروائي الطويل الذي أسعى الآن لتحقيقه، بعنوان “حين فقدنا الرضا” وهو كما “أحلام المدينة” يتساءل: هل ما زالت الأحلام قائمة أم انكسرت؟ وهل يمكن العيش بلا حلم؟ هذه هي الأسئلة التي أطرحها في مشروعي السينمائي الجديد الذي لا أرغب في هذه المرحلة أن تقوم المؤسسة العامة للسينما بإنتاجه، والتي وصلنا وإياها إلى أن ينبذ كل منا الآخر، ولكلّ أسبابه.

“حين فقدنا الرضا” مشروع فيلمي الروائي الطويل الذي لا أرغب في أن تنتجه المؤسسة العامة للسينما.. بعدما وصلت وإياها إلى أن ينبذ كل منا الآخر.

تشرف على قسم الإخراج السينمائي في “الجامعة العربية الدولية”. كيف تنظر إلى تجارب السينمائيين السوريين الشباب من واقع تجربتك العملية في التدريس؟

أعتبرها فرصة نوعية للتماس مع الأجيال الجديدة، والتعرّف بشكل تفصيلي وعميق على المعضلة التي يعيشها الجيل السوري الجديد في هذه السنوات، والمسمى “جيل الحرب”، سواء في مفهومه للسينما أو في حياته اليومية في ظل الحرب، وما تبعها من انفراط عقد القيم، واستباحة كل المفاهيم والأفكار ورميها في القمامة. هذه السمات الخاصة في رأيي تنتمي أيضًا وفي الوقت نفسه إلى التغيرات العالمية “بأشكال مختلفة”، لكنها في الجوهر تعبر عن تغيّر عضوي في الحياة الراهنة، وفي المرحلة القادمة لحياة البلدان والمجتمعات في العالم.

لا أنكر شغف هذا الجيل بالسينما، لكنّه، في المقابل يفتقد الانتماء التاريخي لبلده أو للعلم والثقافة وتاريخ السينما بذاتها، وهو صريع رغبة عميقة في رؤية ما تبثه وسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزة من أفلام لا معنى لها، تتصدر الشاشات، بغياب أي شكل من أشكال العرض السينمائي الكلاسيكي أو الحياة الثقافية السينمائية التي سادت وأسست لبدايات السينما في سورية.

وبالتالي هذا التماس مع الجيل، يشكّل بالنسبة لي، وربما للجميع، صعوبة كبيرة تكمن في استدراج هؤلاء الشباب إلى أحاسيسهم المفقودة، بالدرجة الأولى تجاه مجتمعاتهم، وتاريخ بلدهم المفقود والمغيّب لديهم، بالإضافة إلى أنّ هذه الهموم هي في جوهرها تشمل المجالات التعليمية الأخرى في شؤون الثقافة والتاريخ واللغة، والتي تضيق حرية التعبير عنها، في ظل الأوضاع الراهنة في سوريا.

لا أنكر شغف الجيل السوري الجديد (جيل الحرب) بالسينما. لكنّه، في المقابل، يفتقد الانتماء التاريخي لبلده وللعلم والثقافة وتاريخ السينما بذاتها.

كيف ترى تأثير الثورة الرقمية على السينما وبالتحديد على جيل اليوم من السينمائيين؟

انتقال الصورة إلى رقم، كان حدثًا انقلابيًّا وجذريًّا، عطف معه الحياة السينمائية بمجملها، واليوم أمام مقترحات الصورة الرقمية، يبدو لي أن الصورة أصبحت في متناول الجميع، إلى حد أنها تهدّد مهنة السينما نفسها، نظرًا لسهولة صناعة فيلم لأي أحد يمتلك الأدوات، بصرف النظر عن قيمة المحتوى.

من مقولات محمد ملص:

“لا أريد أن أُرى كسينمائي فحسب، بل ككاتب ومفكر أيضًا.”

“حين أصنع أفلامي، أنهل من ينابيع الأدب والفلسفة وروائح أهلي.”

“أبحث دائمًا عن المفقود الذي لا أجده بالحياة، فأحب أن أحقّقه في السينما.”

“السينما السورية كانت ولا تزال بعيدة عن أن تطرح نفسها كسينما “تجارية”، أو أسيرة للسوق الذي لم يعد موجودًا أصلاً.”

“الواقع لا يحمي الأشياء، لكن يُخيّل إليّ أنّ السينما تحميها.”

فاصل اعلاني