أفلام سعودية: سحر السينما الواقعية بأساليب غرائبية
6 June، 2022
غسان خروب
–
على مدار السنوات الماضية شهدنا جميعًا إنتاجات سينمائية سعودية، تمتاز بكونها “ثقيلة الوزن”، وقد اكتسبت أهميتها من كونها خرجت من رحم بلد بقيت فيه السينما “مغلقة” لنحو ثلاثة عقود ونيف، وهو ما جعل من أفلام الحركة السينمائية السعودية تحت المجهر على الدوام، فقد اعتُبرت وسيلة “جميلة” للتعرف على طبيعة هذا المجتمع. وبغض النظر عن طبيعة المسار المتعرج الذي مرت به السينما في السعودية، ما بين صعود وهبوط، إلا أن العديد من أفلامها جادت بحكايات جميلة، كما في “سيدة البحر” للمخرجة شهد أمين الذي تبدو فيه الحكاية مختلفة؛ ففي هذا العمل نشهد سحر السينما الواقعية الممزوج مع الخيال، كما نتابع في أولى تجارب شهد أمين الروائية الطويلة، حكاية جميلة تبدو للوهلة الأولى أنها خرجت من رحم الأساطير والخرافات الشعبية.
في “سيدة البحر” لشهد أمين، تبدو الحكاية مختلفة، فنشهد سحر السينما الواقعية الممزوج مع الخيال، كما نتابع حكاية جميلة خرجت من رحم الأساطير والخرافات الشعبية.
فشهد في فيلمها تتيح لنا الغوص في أعماق قرية “غريبة”، لا أحد يعرف مكانها، ولا يمكن أن تحدد لهجتها “العربية الهجينة”، بينما الأحداث تدور في “زمن” لم تحدد المخرجة ملامحه، لتظل محاور الحكاية مركزة على قضايا المرأة مسلوبة الإرادة والحق في كل شيء، وهي قضايا أساسية طرقت شهد أمين، صاحبة الفيلم القصير “عين وحورية” (2013)، أبوابها بطريقة غير مباشرة. حكاية “سيدة البحر” تدور في قرية ما، تعيش على شاطئ بحر، وتمتلك عادات وطقوسًا “غريبة”، أبرزها “تقديم الفتيات كقرابين للبحر كلما اكتمل القمر”، حيث يعتقد سكان القرية أن ذلك يشكل ضمانة لهم، للحصول على خير البحر. وفي إحدى السنوات نشهد ظهور “حياة” التي تمردت على هذا الطقس، ولم تخضع له، بينما ظل أهل القرية يعتقدون بأنها “سبب” في حرمانهم عطاء ذلك البحر.
أهمية هذا الفيلم، لا تكمن فقط، في كونه عملًا فنيًا، خرج من رحم المملكة العربية السعودية، وإنما في طبيعة صياغة المشاهد التي حملت تفاصيل مثيرة مغلفة بالغموض، ولعل ذلك قد أسهم في خدمة السرد العام للعمل، الذي جنحت فيه المخرجة إلى استخدام الرموز واللهجة العربية الهجينة. ولعل ذلك كان “حلًا سحريًا”، أنقذ الفيلم من أن يُحسَب على بلد عربي معين. شهد أمين في هذا الفيلم استندت إلى الرموز و”واقع غريب” مستلهم من مجموعة خرافات، جعلت منها وسيلة لإسقاط رسالتها على الواقع المعاصر، وقد ساعد شهد في ذلك، طبيعة المشاهد التي صُورت بالأبيض والأسود، والتي مكنتها من صنع الخيال وتقديمه في قالب سينمائي آخاذ.
على مدار السنوات الماضية شهدنا إنتاجات سينمائية سعودية، تمتاز بكونها “ثقيلة الوزن”، وقد اكتسبت أهميتها من كونها خرجت من رحم بلد، بقيت فيه السينما “مغلقة” لنحو ثلاثة عقود ونيف.
نظرة خاصة على قضايا المرأة
عندما نطرق أبواب السينما السعودية، لا يمكن لنا أن نغض الطرف عن تجربة المخرجة هيفاء المنصور، لا سيما في فيلمها الأول “وجدة”، الذي أطل على الوجود في 2012، آنذاك كانت صالات السينما في المملكة لا تزال ضمن قائمة “الأمنيات”، وكذلك “قيادة النساء للسيارات”، حينها بدت إطلالة الفيلم أشبه بـ”رش الملح على الجرح”، ولكن هيفاء آنذاك استطاعت أن تثبت أنها على “قدر التحدي”، وتمكنت من إنتاج فيلم لا يزال حيًا في ذاكرة الناس والسينما على حد سواء.
قد يكون “وجدة” الطريق الممهد لهيفاء المنصور لتمضي في طريق الدفاع عن المرأة، وطرح قضاياها المختلفة، وهو ما يمكن أن نتلمسه في أحداث فيلمها “ماري شيلي”، الذي يتناول سيرة الكاتبة الإنجليزية، فقد مكن هذا العمل هيفاء من وضع بصمتها في طريق السينما العالمية. ورغم دخولها لبوابة العالمية، إلا أن هيفاء آثرت العودة إلى طرقات بلدها، لتقدم منها فيلمها الأخير “المرشحة المثالية”، الذي تطرح فيه نظرة خاصة لقضايا المرأة السعودية وإنجازاتها، مع أن العمل جاء أقل في مستواه وحبكته من “وجدة”، ولكنه يظل عملًا جميلًا لا بد من الاحتفاء به، وبصانعته التي كانت أول سعودية تدخل سباق الأوسكار، وأول سعودية تخرج فيلمًا عالميًا.
“عمرة والعرس الثاني” وسحر الواقعية
وتجارب السينما السعودية ممتدة، وفي بعضها يتجلى الجمال كما في الفيلم الروائي الطويل “عمرة والعرس الثاني” للمخرج محمود صباغ، الذي يمكن وصفه بأنه فيلم “واقعي مر” إلا أنه يحمل الكثير من “سحر الواقعية”، حيث يبدو العمل برمته أشبه بكوميديا سوداء مستوحاة من واقع المجتمع السعودي، تلقي بظلالها على واقع نعيشه جميعًا. تروي حكايته “عمرة” (الممثلة شيماء الطيب) الفتاة التي ترتدي عباءة “المرأة التقليدية” “المغلوبة على أمرها”، التي تكابد الحياة، وتصارعها دفاعًا عن “بيتها” وأسرتها “المفككة”، بينما زوجها ينوي الزواج من “فتاة شابة” وصلت حديثًا إلى المجمع الذي يعيش فيه. زواجه منها يأتي بحجة رغبته في الحصول على “ولد يحمل اسمه”، بينما تدعم والدته توجهاته هذه، وهو ما نتلمسه من خلال “حديثها القاسي وطباعها”.
العمل جاء بعد وهلة زمن، مرت على إصدار صباغ لفيلمه “بركة يقابل بركة”، ولكن ما يميز هذا العمل الذي تدور أحداثه في مدينة متخيَّلة، ويجنح فيه صباغ لاستخدام أساليب سينمائية غرائبية، أنه يتناول “السلطة الذكورية”، وما يؤدي إليه “غياب الأب عن المشهد العائلي”، مغرقًا بذلك “البيت والأسرة في حالة ضياع”. إلا أن ما يميز الفيلم أن نهايته لم تكن تشبه تلك “النهايات السعيدة” التي تجود بها أفلام هوليوود وبوليوود، فهي لم تأتِ مغرقة بالسعادة، وبدلًا من ذلك، نجدها قد جاءت “ساخرة”، فـ”خلاص عمرة من أوضاعها البائسة تم عبر “استسلامها” واضطرارها للقيام بأشياء لم تقدم عليها قبلًا.
فهي اضطرت إلى ذلك لأن “المجتمع الذي تعيش في كنفه غير متسامح”، لذا بدت “عمرة” ضحية التراتبيات المجتمعية. المخرج محمود صباغ بدا أيضًا في هذا الفيلم “ساخرًا” من كل الأطراف، خاصة أننا نشهد امتداد أحداث العمل، لتطال شخصيات نسائية ناشطة، تحاول إقناع عمرة بأن يقمن بتبني قضيتها على المنابر، وكذلك يطال الخطابَ القانوني ومؤثري منصات “السوشال ميديا”، وغيرَهم ممن يتطلعون إلى التسلق على ظهر “عمرة” ليصلوا إلى القمة.
جمالية “عمرة والعرس الثاني”، لا تكمن في طبيعة حكايته فقط، وإنما تتسع لتشمل زوايا التصوير والكادرات واللقطات الداخلية منها والخارجية، التي تعكس جميعها ما تتمتع به كاميرا الصبّاغ من جماليات فائقة، تحمل بين ثناياها “الشاعرية والرومانسية السينمائية” التي غلّفها المخرج ببعض “مرارة الواقع الذي تعيشه الشخصيات”.
ما يميز “عمرة والعرس الثاني” لمحمود صباغ الذي تدور أحداثه في مدينة متخيلة، ويجنح فيه صباغ لاستخدام أساليب سينمائية غرائبية، تناوله “السلطة الذكورية”.
“أغنية البجعة” عمل فارق
على الطرف الآخر، لا يمكن غض الطرف عن تجربة المخرجة السعودية هناء العمير، لا سيما تلك التي تحمل عنوان “أغنية البجعة”؛ فرغم قصر مدة هذا العمل التي تصل إلى نحو 17 دقيقة، إلا أنه يمكن وصفه بأنه “عمل فارق” في مسيرة السينما السعودية، كونه عملًا يتألف من لقطة واحدة طويلة. ويمزج “المسرح والسينما معًا”، ففيه تستند هناء، صاحبة الوثائقي “بعيدًا عن الكلام”، وكذلك “شكوى”، إلى مسرحية “أغنية البجعة” للمسرحي العظيم أنطون تشيخوف، واستطاعت عبر مشاهده أن تصوّر “حالة الممثل عندما يكون متوهجًا على المسرح”.
فالفيلم يصور ممثلًا مسرحيًا كما في مسرح تشيخوف، يتحدث عن نفسه ويتداعى في ذكرياته، ولكنَّ الجمالية في هذا العمل أن الممثل السعودي يأخذ جانبا آخر، عبر التحدث عن حبيبته التي تركته لكونه ممثلًا، والجمهور الذي يطلب منه نوعًا آخر من الفن الذي لا يستسيغه، يريده أن يكون “مهرجًا” بطريقة مبتذلة.
يقوم الممثل بأداء بعض المشاهد التي مثّلها سابقا على الخشبة مستعينا بالألبسة والإكسسوارات المتوفرة في المكان ليضيء بوجوده الصالة الفارغة من الحضور والتصفيق، وهنا نجده يذهب ناحية الموت، ولكن بشكل آخر، من خلال تحوله إلى آلة تكرر نفسها في كل مرة، ذلك الموت بدا أشبه بحل أخير لهذا الممثل. ويمكن القول إن الممثل أسامة القس استطاع في هذا الفيلم أن يقدم مساحات واسعةً للشخصية التي تشبهه إلى حد كبير في الواقع.
عملية إدخال المسرح إلى قلب السينما، بلا شك أنها أمر ليس بهين، لذا يبدو أن هناء اختارت عبر هذا الفيلم، المجازفة ودخول طريق صعب، عبر قيامها بجعل المشاهد يعيش حالة الوجود داخل المسرحية، ليكون جزءًا منها. وهنا نجحت هناء في المزج بين الواقع أحيانًا والحالة الشعورية للممثل في المسرحية، وذلك ما يمكن أن نتلمسه من خلال حديث الفيلم عن عالم الممثل الداخلي الذي يعيشه هذا الشخص الذي يبدو “رمزيا”، ميتًا من الخارج، ولكنه يحمل بداخله شخصيات عديدة مكتومة، وهو ما يشبه الواقع فعلًا، حيث يسعى جلُّها إلى التعبير عمّا بداخله من شخصيات، أحيانًا قد تكون بلا روح، ولكنها برغم ذلك تظل موجودة فينا.
“عايش” دقة الفاصل بين الحياة والموت
والمتابع لأعمال السينما السعودية، لا يمكن له تجاهل فيلم “عايش” للمخرج عبدالله آل عياف، ذاك الذي تشعر فيه بدقة الفاصل بين الحياة والموت، وبمدى اتساع الفارق بينهما، حيث لكل مفهوم منهما طبيعته القادرة على “قلب التفكير رأسًا على عقب”. وعبر مشاهد الفيلم تدرك طبيعة الفارق بين مفهوم الحياة والموت، وكيف يكون الأخير مجردًا من الألوان، بينما الأول يتحول إلى شبه “قوس قزح”. تدرك بمشاهدتك لهذا العمل، كيف يتحول الموت إلى شيء “بارد جدًا”، لا حراك فيه، يخلو من الصوت، بينما تفيض الحياة بدفئها وحيويتها، وتغرقنا جميعًا بمشاعر فياضة.
“عايش”، وهو اسم الممثل السعودي إبراهيم الحساوي في هذا العمل، يتحول في لحظة من مجرد اسم، إلى “رمز” مفعم بالحياة، يكون في بداية العمل باردًا وساكنًا جدًا، فكل الذين يتعامل معهم هم الموتى من “سكان ثلاجات المشرحة”، الذين تعودوا ارتداء الأبيض فقط، ولا يعرفون غيره لونًا. “عايش” في قسم المشرحة، لا يعرف سوى الأصوات المرتبطة بحالة الفقدان، ولا يتقن سوى كلمات المواساة لأهالي الموتى الذين يفرون سريعًا بمجرد التعرف على الجثة، باحثين عن زاوية ما، ليتركوا فيها عيونهم تسيل دمعًا على ما فقدوه.
حالة العتمة التي يعيشها “عايش”، ونمط حياته سرعان ما يتبدلان بمجرد خروجه من قسم المشرحة، ليغطي مكان “فيصل” حارس الأمن الواقف على بوابة قسم الولادة والأطفال، هناك نتلمس حالة الاستغراب التي تعتري ملامح “عايش”، وهو يطالع وجوه “المواليد الجدد”، ويتعرف على أصواتهم التي لا يعرفها كونه عاش يتيمًا محرومًا من صلة القرابة مع أحد.
عبر تلك النظرة التي تعتري وجه “عايش”، يمكنك أن تستشعر طبيعة ردة فعله، فلم يكن غريبًا أن يترك قسم المواليد لوهلة، محاولًا الهرب من واقعه الجديد، ولكنه سرعان ما يعود، ليحظى بفرصة “اكتشاف الحياة” التي تُتاح له بمجرد أن “يتوسد ذلك الرضيع بين راحتيه”، تلك الخطوة كانت كفيلة بأن تمكنه من كسر حاجز الصمت، والخروج من العتمة إلى دائرة الضوء والحياة.
عبدالله آل عياف، كان مبدعًا في هذا العمل الذي اقتصر فيه “الحوار إلى أدنى مراتبه”، فذلك كان “ضرورة” من أجل كسر حاجز الخوف والحيرة التي قد يُصاب بها المتفرج. إبداع عبدالله صاحب “السينما 500 كم” في هذا العمل، يتجلى في القدرة على اختزال الحكاية وتصويرها في مشاهد معينة، ووضعها في “لقطات سريعة وقصيرة، ولكنها دقيقة للغاية، كما تجلّى أيضًا في قدرته على ترجمة الحكاية بصريًا، ومنحها لغة أخرى، تختلف تمامًا عن “اللهجة المحكية” في الفيلم، الذي حاز جائزة أفضل فيلم قصير (المركز الأول) في مهرجان الخليج السينمائي(2010)، وجائزة المركز الثاني (ألف الفضية) في مهرجان بيروت السينمائي الدولي (2010)، وأيضا جائزة أفضل سيناريو (المركز الأول) في مهرجان الفيلم السعودي (2014). كما فاز “السينما 500 كيلو” بجائزة النخلة الذهبية لأفضل فيلم تسجيلي في مسابقة أفلام السعودية (2008).
عبدالله آل عياف كان مبدعا في “عايش”، الذي اقتصر فيه “الحوار إلى أدنى مراتبه”، ذلك كان “ضرورة” من أجل كسر حاجز الخوف والحيرة التي قد يصاب بها المتفرج.
“خمسون ألف صورة”
أفلام كثيرة انتجتها الحركة السينمائية السعودية، بعضها تحول إلى علامات مضيئة في مسيرتها، مثل “المسافة صفر” (2019) لعبدالعزيز الشلاحي. ويبرز فيلم “خمسون ألف صورة” للمخرج عبدالجليل ناصر، وهو فيلم قصير، يمتد زمنه على مدار 19 دقيقة، يصحبنا خلالها عبدالجليل ناصر في رحلة جميلة، نطالع فيها السعودي الراحل علي آل محيف، الذي ترك وراء ظهره «خمسون ألف صورة»، شكلت بجملتها “ذاكرة الناس” من أبناء مجتمعه. عندما بدأ بجمع الصور بدافع الهواية، ولكنه لم يكن يدرك حينها أنه بذلك “يقوم بحراسة ذاكرة الناس من الضياع”، وأنه بذلك يُبقي “جذوتها مشتعلة، مانعًا دخولها حدود ذاكرة النسيان”.