البحث عن التشكيل الصحيح لمضامين أفلام سعودية
12 August، 2024
محمد رُضا
هناك طريقتان يختار المخرج- في أي مكان أو زمان- إحداهما لمعالجة فيلمه، واحدة مع أسلوب، والأخرى بلا أسلوب. وبينما لا تتفق الكتابات النقدية على المعنى الفعلي لكلمة أسلوب، لكنها تتفق على وصف فيلم، صنع بغرض توصيل قصّة للجمهور عبر شخصيات مثيرة للاهتمام، بأنه بلا أسلوب فني.
الخِيار بين المنهجين يتم تلقائيًّا، ومنذ اللحظة التي تفصل بين الكتابة والتصوير. وأحيانًا كثيرة عند الكتابة ذاتها؛ إذا كان السيناريو من وضع المخرج نفسه.
الفارق بين الطريقتين أو المنهجين الأول والثاني هو: في الأول تطبيق تشكيل بصري للمضمون، وفي الثاني الاهتمام مباشرة بعملية السرد، جاعلًا له الهيمنة على كل العناصر الأخرى. في الحالة الأولى يتأثر السرد بالعناصر التي تفرضها طريقة السرد، وليس بالسرد وحده. فالتشكيل البصري يمتدُّ ليشمل الدراما (والمادة المصورة في حالات الفيلم غير الروائي). واختيار التشكيل (أي العناصر البصرية والمفردات اللغوية المصاحبة للفيلم) يبلور الأسلوب وليس العكس. بكلمات أخرى، ليس هناك أسلوب يولد من دون هذا الاختيار أساسًا.
وبينما لا تتفق الكتابات النقدية على المعنى الفعلي لكلمة أسلوب، فأتها تتفق على وصف فيلم صُنع لتوصيل قصّة للجمهور، بأنه بلا أسلوب فني.
الحمامة تحطُّ على الرأس
ما شوهد من أفلام سعودية خلال نحو عشر سنوات، يؤكد وجود هذين المنهجين. ففي “سيدة البحر” 2019، لشهد أمين، يكمن التشكيل الفني عبر اعتماد المخرجة على عدة عناصر، هي: المكان ذو الطبيعة الوعرة، والبحر الذي تقع فوقه بعض المشاهد، والتصوير بالأبيض والأسود. يبقى ملحقًا بكل ذلك الاختيارات اللغوية في التصوير والأداء، وفي التوليف وما تبقى من الفيلم وما تم حذفه.
فيلم محمود الصبّاغ “عمرة والعرس الثاني” 2018 يقوم على تفضيل الحكاية ومعالجتها سرديًّا عبر التشكيل الفني. بذلك يقفز الفيلم قُدمًا للاقتراب من المشاهدين.
يجب القول إنه لا المنهج الأول ولا المنهج الثاني يتعلّق بمستوى الفيلم في النهاية. وككل سينما أخرى، قد ينجز الفيلم القائم على تأليف بصرياته بعناية ما يرغب فيه، وقد يفشل. كذلك الحال بالنسبة للفيلم الخالي من الاعتماد الأساسي على هذا التأليف، وقد يأتي ناجحًا وذا قيمة وقد يسقط من الحسبان سريعًا.
بعض الأفلام السعودية جرَّبت الحالتين معًا. مثل “هجّان” 2023، لأبي بكر شوقي، حيث إنه من النوع الذي سعى إلى هذا التمازج: عين للمخرج على سرد حكاية مشوّقة تقوم على رغبة في الانتقام، تواجهها رغبة أخرى من النوع ذاته، والعين الأخرى على تشكيلها على نحو فني.
هذا ما حدث كذلك مع “أغنية الغراب” 2022 لمحمد السلمان، الكوميديا السوداء التي تدور حول ذلك الشاب ذي الأطوار الغريبة. من ناحية لديه الحكاية التي تشمل الوقوع في الحب، الرغبة في الغناء، الإصابة في الرأس التي قد تقضي على صاحبها، وحتى مشهد نقدي لوضع المثقفين الذين يلتقون في اجتماع داخل سيارة.
لكن السلمان في الوقت ذاته، عني بتفصيلة مهمّة كوّنت فرادة الفيلم: وجعله سورياليًا عبر اختياراته من مفارقات ومواقف ومشاهد (كتلك التي تدور في غرفة من غرف الفندق وحتى في مشهد الحمامة التي تحط على الرأس).
بالمقارنة، إمكانيات “هجّان” الإنتاجية دفعت بالفيلم إلى التطبيع مع نوعية الموضوع، كفيلم مغامرات قائم على شخصية محورية واحدة. لكن هذه الميزانية والمرجو من الفيلم تحقيقه كعائد مادي (عبر التوجه لجمهور عريض) غلب على تلك المشاهد التي تحتوي على لقطات فنية (تصوير البيئة الداخلية أو الصحراوية). في هذا النطاق، لا يمكن وصف تصوير سباق الجمال بأنه فعل فني. هو تنفيذ محترف يتبع الغرض الأول (الجمهور)، وهذا بصرف النظر عن جودة التنفيذ (ومن ثم جودة الفيلم) أو لا.
أما “أغنية الغراب” فإن غرابة أفكاره واختيار المشاهد والإيقاع لتنفيذ الفيلم هي اختيارات فنية. ما لم ينجح الفيلم به هو الثبات عليها عوض التناوب في التفضيل بين منهج وآخر.
فيلم محمود الصبّاغ “عمرة والعرس الثاني” يقوم على تفضيل الحكاية ومعالجتها سرديًّا عبر التشكيل الفني. بذلك يقفز قُدمًا للاقتراب من المشاهدين.
في “سيدة البحر” يكمن التشكيل الفني عبر اعتماد المخرجة على المكان ذي الطبيعة الوعرة، والبحر الذي تقع فوقه بعض المشاهد، والتصوير بالأبيض والأسود.
صياغة الحكاية
ينقلنا هذا إلى تجربة جديرة بالاهتمام للمخرجة هيفاء المنصور التي قدّمت فيلمين سعوديين، هما “وجدة” 2012 و”المرشّحة المثالية” 2019. كلاهما يحتوي على مادة تتعامل مع وضع المرأة وسط التقاليد الاجتماعية. في “وجدة” فتاة صغيرة تكتشف حبّها لامتلاك دراجة هوائية رغم معارضة أمها، نسبة لتلك التقاليد التي لا تنظر بعين الرضا حيال سواقة فتاة لدراجة (أو امرأة لسيارة كما كان الحال قبل سنوات).
في الفيلم الثاني، كبرت تلك الفتاة (رمزًا)، وأصبحت طبيبة تشكو من أن الطريق صوب المستشفى الذي تعمل فيه مليء بالمطبّات. شكواها لا تؤخذ جديًّا؛ لأنها- بحسب الفيلم- امرأة. بعد تفكير تقرر أن تدخل انتخابات البلدية لعلها تستطيع، إذا ما فازت فيها، تزفيت تلك الطريق.
الحكايتان مثيرتان للاهتمام حول وضع الأنثى المرتبط بمفاهيم تحتاج للتغيير، لكن في حين أن “وجدة” ينتمي إلى رغبة المخرجة في سرد حكاية تعلم تمامًا كيف ستُسقبل عالميًا (أولًا كأول فيلم سعودي لمخرجة أنثى وثانيًا بسبب موضوعها) بترحاب شديد. الهمُّ هنا هو أن تجيد صياغة حكايتها على نحو محبَّب وغير عدائي. يحمل عرضًا وتعليقًا لكنه لا يحمل نقدًا. هذا مفهوم ومقبول كاختيار شخصي لما تريد سرده ولماذا. لكن في غمار ذلك ستستخدم تلك التفعيلات التي ستجعل من الفتاة الصغيرة محبوبة. هي شقية من دون أن تؤذي وذكية. لكنها أيضًا خبيثة (تقبض من فتاة لقاء تسليم رسالة إلى فتى، ثم تقبض منه لقاء تسليمه الرسالة)، وهذا الخبث مقدَّم على أنه شيء ظريف. هذا كله يمنح القصّة ورسم الشخصية الأولوية، ولا يمنح الفيلم معالجة فنية ذات حضور أساسي.
الحال نفسه مع “المرشّحة المثالية”، فإلى جانب قضيّته، هناك رقص وغناء ومشاهد لرجال يرغبون في مساعدتها، وأب ينشد العزف في رحلته خارج المملكة.
قدمت هيفاء المنصور فيلمين سعوديين، هما: “وجدة”، و”المرشّحة المثالية”، وكلاهما يحتوي على مادة تعاملت مع وضع المرأة وسط التقاليد الاجتماعية.
الصمت للتعبير
أحد أفضل الأفلام السعودية التي شاهدها هذا الناقد (وإلى حد بعيد أفضلها) هو “آخر زيارة” لعبد المحسن الضبعان 2019. إخراج وسيناريو جيد لفهد الاسطاء، وتفعيل صحيح لأسلوب عمل لا لهو فيه، يميّز هذه التجربة التي تسرد حكايتها من دون أن تتنازل عن الكيفية في معالجتها، عبر تغليب عناصر بصرية أساسية. الصورة تتقدم النص لكي تخدمه عوض العكس. وتتوجه لما من الضرورة التقاطه من إمارات، وجوه، وأعين باحثة، وصمت ناطق بالتعابير المكبوتة معظم الوقت.
رحلة صوب عرس في سيارة يقودها أب ومعه ابنه الشاب، تتوقَّف الرحلة عن متابعة سيرها بسبب هاتف مفاجئ من شقيق الأب، يُعلمه فيه أن والدهما طريح الفراش، وربما في ساعاته الأخيرة. من استعداد لفرح غامر بولوج مناسبة مناقضة، وما يزيدها دكانة أن العلاقة بين الأب (أسامة القس) وابنه (عبدالله الفهاد) تتعرض لاختبار يزعزعها، ويضفي التوتر على البيت الذي سيحلان به ضيفين. هناك شخصيات رجالية أخرى من دون ظهور لأي ممثلة أنثى. لكن الطريقة التي تم فيها تنفيذ الفيلم ليست طريقة من يريد استبعاد النساء، بل التعمق في وضع العلاقة بين الأب وابنه.
كمثال على طريقة المخرج التعبيرية عن هذه العلاقة والهيمنة التي يمارسها الأب على ابنه، يستخدم المخرج إشارات صامتة، كمشاهد نجد فيها الأب وهو يقف كالظل في الخلفية. وفي مشهد مُبكِّر نشاهد الأب ينظر إلى ابنه بعدم الرضا، بينما يقوم الابن بإطعام كلب.
لذلك، لا بدَّ من الذكر بأن استخدام الحوار يعرقل، عادةً، الاعتماد على ممارسة منهج فني يؤدي إلى ما نصِفه بالأسلوب.
الصورة (في فيلم آخر زيارة) تتقدم النص لكي تخدمه عوض العكس. وتتوجه لما من الضرورة التقاطه من إمارات، وجوه، وأعين باحثة، وصمت ناطق بالتعابير المكبوتة معظم الوقت.