أمهات في المنفى: قراءة في أفلام الدورة الثامنة لمهرجان الأفلام السعودية
4 January، 2023
بقلم رامي عبد الرازق
في الفيلم القصير “عثمان”، من إخراج خالد زيدان، وتمثيل أحمد يعقوب، يبدأ المشهد الأول بامرأة تقوم بأعمال المنزل “كيّ الملابس”، في منزل متواضع جدًّا، وأمامها تجلس أمها تعد أوراقًا نقدية متهالكة، ثم نسمع صوت طرقات الباب، وتذهب المرأة لفتحه، وتعود بجهاز لتدليك الأقدام.
وفي فيلم “نور شمس” من إخراج فايزة أمبا، وتمثيل عائشة الرفاعي، يبدأ المشهد الأول أيضًا بامرأة تبدو كظل شاحب خلف ملاءة منشورة. ونراها في تتابعات قصيرة متلاحقة وهي تفتح صندوقًا قديمًا به جواز سفر يمني وظرف من النقود تلتقط منه أوراقًا، ثم تحضر الإفطار لابنها الشاب، وتوقظه، وتصحبه بسيارة “الأجرة” التي تعمل عليها إلى مقر عمله كفرد أمن.
ويبدأ الفيلم الطويل “حياة امرأة”، من إخراج سمير عارف، بالأم التي يبدو أنها تأخرت عن موعد اصطحاب ابنها، بينما ينتظرها الابن المراهق القعيد أمام بوابة المدرسة كطفل صغير لا يستطيع أن يغادر دون أمه. وفي الفيلم القصير “زوال”، من إخراج مجتبى سعيد، الحائز على جائزة أفضل فيلم قصير، نرى الطفل آدم وهو يتململ، بينما يراقب أمه الشابة التي تقبع فوق سجادة الصلاة منتظرًا إياها أن تنهي صلاتها، كي تخرجه من قوقعة العزلة الإجبارية التي نعلم بعدها أنها مفروضة على العالم كله، وليس على آدم وأمه وحدهما في حجرتهما الصغيرة.
هذه بعض نماذج “الأمهات” في الأفلام السعودية القصيرة والطويلة، التي عرضت من بين 68 فيلمًا شهدتها شاشة مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي “إثراء”، في الدورة الثامنة لمهرجان الأفلام السعودية. ويمكن القول إن هؤلاء الأمهات، وغيرهن ممن يشكلن شخصيات حيوية في الأفلام السعودية، تعاني كل واحدة منهن من منفاها الخاص أو العام، كما قد يكون للمرأة أكثر من منفى. وكأن صناع الأفلام، وأغلبهم من الشباب، يتعاطون مع ذلك الشعور بالوحدة والاغتراب، الذي تعاني منه النساء في مجتمع يمر بتحولات مهمة، لكي يصيغوا منه ملامح محطاتهم السينمائية الأولى أو انطلاقاتهم من أرض الهم المحلي إلى فضاء المشاركات الإنسانية لأزمات تتشابه فيها عوالم القهر أو الفقر أو الهجران أو الهرب.
الاغتراب والفقر والقهر والرجعية من أخطر المنافي التي تعانيها النساء.. وقد صوّرتها السينما السعودية بجرأة.
دوائر متقاطعة
لكل أم من هؤلاء منفاها الذي يتقاطع بلا شك مع منافي الأخريات. الأم في فيلم “عثمان” قد لا تبدو ظاهريًّا شخصية أساسية في الفيلم، الذي يدور حول ثلاثة أيام في حياة حارس أمن يقرر أن يغادر المدينة لأنه يشعر بقهر الهامش. لكننا نرى هذه الأم من عيني عثمان نفسه عند عودته اليومية من عمله في تكرار يبدو لا نهائيًّا. نراها وهي تجلس على كرسي متحرك مع طفل لا نتبين إن كان ابنها أم حفيدها، وتمارس “التسول” في جلستها معه أمام البيت بشكل هادئ وبسيط كجزء من منفاها الفقير وهامشها المتاح.
في النهاية، يكتشف عثمان ونكتشف معه أن الأم ليست سوى متسولة تمارس دور القعيدة من أجل استجلاب التعاطف ليس أكثر، وأنها هي نفسها المرأة التي شاهدناها في البداية وهي تعد أوراقًا نقدية قليلة، وندرك أنها تستغل حفيدها لزيادة جرعة الشفقة، لتبدو في الظاهر محتالة. لكنها في حقيقة الأمر، ومن عيني عثمان، منفية في فقرها وفقر عائلتها. حتى أن عثمان نفسه يمنحها جهاز تدليك الأقدام، الذي كان يعتبره وسيلته البسيطة، بجانب عصير المانجو المفضل والبيتزا وقناة ناشيونال جيوغرافيك المجانية، للترفيه المتاح، بالنسبة لمهمش مثله يعيش في نمطية بائسة تدفعه إلى كسر الرتابة بممارسة التنمر أو استغلال سلطاته المتواضعة من مكانه الضيق على بوابة المنشأة الطبية.
أما شمس، الأم السمراء في فيلم “نور شمس”، التي لم تكن يومًا فتاة جميلة كما تحكي لابنها، فإن ماضيها هو منفاها الذي لا تستطيع أن تتخلص من آثاره على روحها المنهكة، إلا عندما تكتشف أن ذلك المنفى سوف يفقدها ابنها الوحيد، الذي قبلت بوضع حياتي مهلك وقاسٍ من أجل أن يحقق أحلامها في البيت والأسرة والاطفال، رغم أنها ليست أحلامه هو!
تمثل شمس في فيلم المخرجة فايزة أمبا نموذجًا للأمهات التقليديات، اللائي يتصورن أن كل تضحية منهن يجب أن تقابل بامتثال وطاعة من أبنائهن، بخاصة إذا كان الابن ذكرًا ليعوض أمه عن أبيه الغائب بالموت أو الفرار أو العودة إلى الزوجة الأولى. ورغم نواياها وأحلامها الطيبة، فإن شمس لا تدرك أن الماضي يستهلكها ويحجب عنها تصورات المستقبل المفتوح واللامحدود. وفي مشهد مرور شمس بسيارة التاكسي التي تقودها، تسأل ابنها: “ما الذي يعجبك في المشاكي (المصابيح) الكبيرة المعلقة في الشارع وهي محملة بالأتربة؟”، فيجيبها: “عليكِ أن تريها في المساء وهي مضاءة، كي تدركي جمالها”.
هكذا تعبر أمبا عن الفرق بين نظرة الأم التقليدية المنفية عن الحاضر والمستهلكة في ماضٍ مترب وسخيف، وبين نظرة الابن للحاضر نفسه، لكن من وجهة نظر أنه توطئة لمستقبل أفضل. لقد قبل الابن وظيفة هامشية “حارس أمن في مشفى”، لكنه لا يتوقف عن الحلم بأن يصبح مغني “راب” يُسمع العالم صوته لعله يعرف بوجوده. وتنهي أمبا فيلمها بنظرة تشوّف تطلقها عينا الممثلة عائشة الرفاعي نحو عربة إعداد طعام، وتكتفي بتلك النظرة على اعتبار أن الأم أخيرًا أزاحت عن عينيها غشاوة المنفى، الذي كانت تعيشه في ماضيها المتآكل، منتهي الصلاحية الروحية.
ممارسة الخوف
وفي فيلمه “زوال”، الحائز على النخلة الذهبية كأفضل فيلم قصير، يخلق مجتبى سعيد عالمًا صغيرًا تحرسه الأم الجالسة فوق سجادة الصلاة، تؤنس منفاها بالتقرب إلى الله خوفًا من الموت المنتشر في الخارج، في زمن الكورونا. نحن أمام أم منفية بالفعل، نفيًا جغرافيًّا بحكم كونها لاجئة مع ابنها آدم، وتصلنا هذه المعلومة عندما يغادر آدم جنة أمه/منفاها الصغير، فيلتقي في الخارج بمجموعات أقرب للشرطة الصحية، تطارد كل من تسول له نفسه خرق الإغلاق.
تؤطر أم آدم منفاها الصغير بالصلاة طوال الوقت، وتمارس خوفها على صغيرها لأنها تدرك أن دوائر المنفى أوسع من استيعابه، فهم منفيون عن وطنهم “الشام”، وبحكم الفقر والعيش في غرفة جدرانها بلون الطحالب الراكدة هم منفيون عن الحياة بصورة كريمة في منزل واسع، وبحكم الفيروس هم منفيون عن التواصل مع أي بشر آخرين خوفًا من العدوى.
ورغم تعاطفنا مع آدم ورغبته في الهرب من جنة أمه مثل جده الأول، فإننا ندرك أن هروبه سوف يؤدي إلى أن يزول تصوره عن العالم كما يعرفه. لأنه سوف يرى في رحلته القصيرة هذه الوجه الحقيقي الخشن، كما في مشاهد المطاردات بين الشرطة الصحية وقاطني مجمع اللاجئين، بمن فيهم الأم، بينما يختبئ آدم تحت الأرض. ويدرك آدم عندما يعود إلى سجادة صلاة أمه الخالية، أن جنتها إلى زوال بسببه، وأنها خرجت من منفاها، الذي شكلته لكي تحميه بحثًا عنه، لكن عودته تلك تبدو بعد فوات الأوان! وتظل كسؤال معلق حول مصير الأم، بل حول مصير البشرية كلها، في زمن المنافي المتعددة، التي لا تقتصر على اللجوء السياسي والفقر والفيروس.
وفي الفيلم الميلودرامي الطويل “حياة امرأة”، تجتمع للأم مجموعة أسباب لضمان اكتمال منفاها اجتماعيًّا وعاطفيًّا وإنسانيًّا. أبرزها المنفى العاطفي المتمثل في خذلان زوجها، والد أولادها، لها، بعد أن وقفت في وجه أهلها من أجله، حيث يستغرق في الإدمان والفشل الأبوي حتى يتسبب في مقتل ابنتهما. ثم يهجر الأم، مثلما هجر زوج شمس زوجته وابنه في فيلم “نور شمس”، تاركًا إياها تعاني ماديًّا ونفسيًّا في تربية ابن مصاب بالشلل، يتعلق في رقبتها مثل طفل لا يكبر.
كان ممكنًا أن يصبح فيلم “حياة امرأة” واحدًا من التجارب الجيدة، لو أن صناعه خففوا حجم الميلودراما والمآسي المتوالية، وقد جاء ذلك ظنًّا منهم أن المأساة هي الحبكة أو هي فرضية العمل. واعتبار المأساة هي الحبكة هو آفة من آفات صناعة السينما الجماهيرية في العالم العربي، وهي آفة أورثتها السينما المصرية والهندية للتجارب العربية الأحدث، بالإضافة إلى تأثير الدراما التليفزيونية الذي يسطح الكثير من سياقات القصص ليعتصر منها فقط دموع المشاهدين، بغض النظر عن منطقية الأحداث أو بناء الشخصيات.
في “زوال”، الحائز على النخلة الذهبية كأفضل فيلم قصير، يخلق مجتبى سعيد عالمًا صغيرًا تحرسه الأم الجالسة فوق سجادة الصلاة. كان ممكنًا أن يصبح فيلم “حياة امرأة” واحدًا من التجارب الجيدة، لو أن صناعه خففوا حجم الميلودراما والمآسي المتوالية.
ما قبل الأمومة
لا يمكن إغفال أن الأمهات اللائي أشرنا إليهن كانوا فتيات في زمن ما قبل الأمومة. بل إننا نلمح فصولًا من تاريخهن الشخصي مركونة في ذكرياتهن العابرة في بعض مشاهد الأفلام. من ذلك مثلًا، مشهد حديث شمس مع ابنها حول الحلوى الإفريقية التي لم تعد تعجب أحدًا، في إشارة إلى أنها بسمرتها تشبه الحلوى الإفريقية، التي هجرها الزوج، بعد أن أنجب منها، وعاد إلى زوجته الأولى.
في زمن ما قبل الأمومة، نلمح إرهاصات المنافي، التي سوف تتعرض لها الفتيات رغم شغفهن الباذخ بمستقبل أفضل، ورغم اختلاف أزمنتهن عن أزمنة من سبقوهن إلى العالم الواسع. وهذا ما يمكن أن نلمحه في فيلم “قوارير”، الحائز على أهم جوائز المهرجان، لأفضل فيلم وسيناريو وتصوير ولجنة تحكيم، وهو من إخراج خمس مخرجات شابات، كل واحدة منهن أرادت أن تكشف لنا ما يحدث خلف باب من الأبواب الكثيرة المغلقة على أسرار ومنافٍ تستعد لأن تبتلع شخصيات الأفلام. خلف الباب الأول، مثلًا، نرى فتاة يستغرقها منفى المجتمع الأبوي، الذي لا تستطيع مع انفصال أبويها أن تتخلص منه لتطارد حلمها في الاشتراك بمسابقة للرسم في مدينة أخرى، فتقضى ليلة موحشة تلقي في وجهها كل العناصر التي
تجبرها على العودة منكسرة لمنفاها الجاف في ظل أب ذكوري متزمت. وخلف الباب الثالث، نلمح الفتاة التي تعاني من منفى الإعداد للزواج في مقابل حرمانها من التعليم مثل الذكور، وإبقائها في المنزل كي تتعلم أصول الطهو والتنظيف لتصبح خادمة بعقد زواج ذات يوم، لا امرأة تصلح لأن تدير شأن بيتها كزوجة وأم متعلمة ومثقفة وصاحبة رأي ووجهة نظر في الحياة.
وخلف الباب الخامس، تظهر فتاة منفية في بئر سوداء يحرسها خالها المتحرش. وتجد نفسها مجبرة على العيش معه نتيجة انتقالها إلى الدراسة في المدينة التي يقيم فيها. ويمثل ذلك أقسى أنواع المنافي التي تتعرض لها “القوارير الصغيرة”، فهو منفى الصمت على التحرش الأسري، دون القدرة على البوح أو الصراخ أو محاولة المقاومة والرفض.