الحكاية أوّلًا.. الكلمات ثانيًا.. الإخراج ثالثًا
4 January، 2023
بقلم فواز السيحاني
لا يُحاول هذا المقال من قريب أو من بعيد، الوقوع في مأزق التقييم والتنظير، لكنَّ الأمر يتطلب في الوقت نفسه، ضرورة الإشارة إلى أنَّ ثمة قلبًا مفاهيميًّا جزئيًّا تعيشه الحالة السينمائية في المملكة، والعالم العربي مؤخرًا. فمن ناحيةٍ، لا حكاية في الحكاية، ولا كلمات في الكلمات، وإنما هناك فقط قدرة إخراجيَّة أُنفِقَتْ عليها مبالغ تُعاني التُخمة؛ لصناعة سُلطة للصورة، والعمل على هذا المسار والنسق وحده، كمركز، لا كهامش.
إنَّ هذه المكونات الثلاث التي جاءت في العنوان (الحكاية، الكلمات، الإخراج)، لا يُمكن أنْ تتعرض لعمليَّة قلب على مستوى التراتبيَّة، أو حتى لتقديم الكلمات والسيناريو على الحكاية؛ لأنها هي الجذر والبذرة التي تُخرج الظل في نهاية الأمر. وفي السياق ذاته، لا يُمكن تجاهلَ أرشيف القصص وتراكماتها واستلاب أفواه الآخرين، لصناعة فيلم من حناجرهم، فالإبداع يولد ضمن أُطر ثقافيَّة وتجربة تاريخيّة. فكم من الأرشيف الحكائي المهمل لدينا، وكم تم اختزال الأعمال السينمائية في نقد مقولاتٍ أيدولوجية ضيقة الأفق ومكررة. وهذا ما أدى إلى أن تتحول الشاشة الإبداعية لدينا إلى مناطحة فكريَّة اجتراريَّة، أكثر من كونها تُخاطب الشعور الإنساني المعمم والواسع، الذي يتجاوز الحدود اللغوية والجغرافية هازًا الإدراك الجمعي مهما كان، والشعور مهما كان صلبًا لا مُباليًا، وميتًا كجثة.
ربما هناك بضعة أعمال نوعيَّة في الشاشة السعوديَّة، هزتْ مفهوم “النحن والذات” المتراكم لدى الآخر “العربي/الغربي” كمقولة وتصور. ولا مجال لذكرها، تجاوزًا للسقوط في مأزق الترشيحات والقوائم وإبداء الإعجابات الفرديَّة التي هي بدورها لا تَسلم من نقدٍ وحالة انطباعيَّة.
لكن الأمر الحقيقي، هو أنَّ هناك صندوقًا كبيرًا أسودَ يشبه صناديق الجدات الثمينة، هو صندوق الحكايات المهملة والقابلة للاستثمار. مثلًا “سنة الجوع”، التي اجتاحت البلاد والعباد في بدايات القرن العشرين. إذ ستُرسخ حينما تتحول إلى فيلم، البنية الثقافيَّة العميقة لإنسان الجزيرة العربيَّة ما قبل فكرة (البترول)، مبرزةً الإنسان السعودي المجرد من أعباء وميزات النهضة النفطيَّة، مقدمةً بذلك نظرته للوجود والآخر واحتكاكه المباشر مع الحُب والحدود والجوع والمرض والموت، الذي كان يُهيأ له بأظفاره المتسخة، ودون مساعدة مكان إقامته الدائم.
إنَّ استثمار مثل هذه الحكايات التاريخيَّة المهملة، وحكايات أُخرى، سيتنشل النصوص القديمة التوثيقيَّة من حالة جمودها على رفوف الوثائق والمكتبات؛ ليبث فيها الحياة من جديد. عندئذ، سيظهر التنوع الثقافي الذي كان هنا، على هذه الأرض، شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا. ومن ثم، سيرتبط الجيل الحالي بقصص الإنسان السعودي القديم ومحكياته؛ وتتخلق حالة من الامتداد الزمني. كما ستتحقق حالة من التصالح التاريخي أمام سيطرة الصفوة، وتهميشها لمثل هذه الامتدادات، بهدف اختزال ذاكرتنا الروحيَّة والبشريَّة القادمة من البعيد جدًّا، في حقبة لا تُشكل إلًّا ومضة زمنيَّة صغيرة.
الحكاية هي الأصل، واستثمار التاريخ المهمل في السينما يمنح النصوص الحياة.