• English
  • 14 يناير، 2025
  • 11:44 م

“السينما السعودية: المسار والأثر والتوقعات” للتونسي الهادي خليل.. جرأة المقاربة وطرافة التحليل

“السينما السعودية: المسار والأثر والتوقعات” للتونسي الهادي خليل.. جرأة المقاربة وطرافة التحليل

4 January، 2023

في كتابه “السّينما السّعوديّة.. المسار والأثر والتوقّعات­”، يتناول النّاقد السّينمائي والأكاديمي التّونسي الهادي خليل، السّينما السّعوديّة منذ انطلاقتها عام 1977 إلى حدود عام 2019، عبر ثلاثمئة صفحة وما يقارب مئتي صورة بالأبيض والأسود، تضيء المسح التّاريخي والتحليلات الفيلميّة والقضايا المطروحة التي يتضمّنها هذا المصنّف. وقد تكفّلت دار النّشـر الباريسيّة بفرنسا “إيريك بونيي” بطبع الكتاب في عام 2020.

والهادي خليل، أستاذ الأدب والسّينما بالجامعة التّونسيّة، قبل انتقاله إلى السّعوديّة في عام 2010 كملحق بجامعة الملك سعود في الرّياض، حيث يدرّس اللّغة الفرنسيّة والتّرجمة، عُرف بكتاباته المكثّفة عن السّينما التّونسيّة، منها كتابه المرجعي “مدوّنة السّينما التّونسيّة.. رؤى وتحاليل” (2008)، وعن السّينما العربيّة التي خصّها بمؤلّف إشكالي عنوانه “العرب والحداثة السّينمائيّة” في العاصمة التّونسيّة (1996)، كما أنّه مهتم بالسّينما الجادّة في القارّة السّمراء، مثلما يبرزه كتابه “رمية النّرد.. مقالات في الصّورة” (1999)، وكتابه بالفرنسيّة “المقاومة واليوتوبيا.. قراءات في السّينما العربيّة والإفريقية” (1994).

والأمر اللاّفت في كتابه عن السّينما السّعوديّة، عبر كلّ أجناسها، أنّ الكاتب بقدر ما يشيد بعودة الرّوح إلى الفنّ السّابع، خصوصًا، والقطاع البصري، إجمالًا، في المملكة، بعد انقطاع دام ثلاثة عقود، وبالإنجازات التي حقّقتها، في وقت قياسيّ، كفاءات من الشّباب السّعودي المتعطّش للصّورة، وبالجوائز التي تحصّلت عليها بعض الأفلام السّعوديّة في مهرجانات عربيّة وغربيّة مرموقة، بقدر ما أنّه لا يتوانى في التطرّق، بوجاهة مطلقة، إلى المعضلات والهنات الجسيمة التي تتخبّط فيها السّينما السّعوديّة، وهي في طور تلمّس طريقها والبحث عن ثوابت لها، بعد كلّ الظّروف الصّعبة والمُجحفة التي عرفتها سابقًا. وفي هذا السّياق، يبدو نقد الهادي خليل، أحيانًا، حادًّا، إن لم نقل عنيفًا، لكن هذه الانتقادات مبرّرة دومًا ومسنودة باطّلاع واسع على المدوّنة السّينمائيّة السّعوديّة ككلّ.

محاور ومقاربات

يتكوّن كتاب “السّينما السّعوديّة.. المسار والأثر والتوقّعات­” من خمسة أبواب متكافئة ومتناسقة.  في الباب الأوّل، وبالاستنارة بكتاب “فيلموغرافيا السّينما السّعوديّة من 1977 إلى 2009” للنّاقد خالد ربيع السيّد، صدر بالرّياض عام 2009، وبمقال النّاقد اللّبناني إبراهيم العريس “السّينما تعود في المملكة العربيّة السّعوديّة”، نشره في مجلّة “الفيصل”، صيف 2018، يستعرض المؤلّف الخطوات الأولى للسّينما السّعوديّة التي ظهرت في نهاية السّبعينيات من القرن الماضي، رغم غياب أيّة صناعة سينمائيّة بالمملكة. في هذا المسح، يركّز على رائد السّينما السّعوديّة عبد الله المحيسن وعلى الأفلام الأربعة التي صوّرها، بدءًا بـ”اغتيال مدينة” عام 1977، عن الحرب الأهليّة بلبنان، و”الإسلام، جسر المستقبل” عام 1982، و”الصّدمة”، عام 1991، عن احتلال الكويت من قبل الجيش العراقي، وصولًا إلى “ظلال الصّمت”، وهو فيلم روائي طويل عُرض في مهرجان كان السّينمائي عام 2006.

كما يؤكّد الدّور الفعّال الذي قام به بعض الشّخصيّات، بالرّغم من كلّ العراقيل والمنغّصات، في التّرويج للثّقافة السّينمائيّة، في ربوع المملكة، خلال الستّينيات والسبعينيات من القرن الماضي، على غرار الرّاحل فؤاد جمجوم، رجل الأعمال الراعي للعديد من المشاريع الثّقافيّة والاجتماعيّة. ثمّ يخلُص إلى المحنة العصيبة التي طالت ميدان الفنون والتّرفيه في السّعوديّة، على إثر عمليّة “جهيمان”، في نوفمبر 1979.

ويخصّص الهادي خليل البَابين الثّاني والثّالث للحديث عن صالح الفوزان، السّيناريست والمنتج والموزّع السّينمائي السّعودي الستّيني، الذي قضّى مجمل حياته متنقّلا بين القاهرة وبيروت. وفي البابين الرّابع والخامس من الكتاب، يتناول بالتّحليل جملة من الأفلام السّعوديّة، الحديثة والقديمة، مبرزًا، في ضوئها، قضايا مهمّة، سواء ارتبط الأمر بعلاقة السّعوديّين بتاريخهم وبكيفيّة تمثيله على الشّاشة الكبيرة، وبحضور الفكاهة والمزاح، وبالتّعامل مع الأشياء وطرق توظيفها، وبالمنحى التجريبي الذي يتّبعه بعض السّينمائيّين السّعوديّين.

 في بحوث الناقد ومقالاته عن السينما، نلاحظ شغفه بالمقاربة الفيتشيّة، أي اقتناص تفصيل عابر، جزئيّة ناتئة، ثيمة (Fétiche)، جليّة ومتخفّية في الآن، يَبْني عليها تحليله قصد النّفاذ إلى خبايا الخطاب الفيلمي وثناياه، على غرار ما يقوم به المفكّر السّيميائي والفينومينولوجي الفرنسي “رولان بارت”، في قراءاته للصّورة الفوتوغرافيّة والتّليفزيونيّة والسّينمائيّة، أو للموسيقى، أو الآثار الأدبيّة.

فيلم كمان لعبد العزيز الشلاخي

وعلينا، في هذا الصّدد، أن نقرأ الفصل الذي يتناول فيه النّاقد حضور الأشياء في بعض الأشرطة السّينمائيّة السّعوديّة، مثل السّيجارة في الفيلم الرّوائي القصير “ستارة” لمحمّد السّلمان، أو في الفيلم الوثائقي “أبو ناصر”(2019) لحسن الحجيلي، أو الآلة الموسيقيّة في فيلم “كمان”(2016) لعبد العزيز الشّلاخي، وهو من بين الأفلام السّعوديّة المحبّذة لدى النّاقد.

فيلم ستارة لمحمد سلمان

مشاكل هيكليّة

في مؤلّفه، يتناول النّاقد التونسي بعض المعضلات البليغة التي تعاني منها السّينما السّعوديّة، مُدلّلا على أقواله واستنتاجاته بأمثلة فيلميّة مُستفيضة. من بين هذه المشاكل، بيئة وتكوينًا وإنجازًا، يُبدي النّاقد ملاحظات نسُوقها على لسانه، وهي كالتالي..

أوّلا: هجانة الخطاب السّردي السّعودي وتَشَرْذُمه. يؤكّد، في هذا الصّدد، أنّ السّرد الفيلمي السّعودي لا يمكنه أن يكون هوليوديًّا ولا بوليوديًّا، وأنّه يتحتّم على السّينمائيّين السّعوديّين تجنّب تقليد بعض الأنماط السّرديّة الغربيّة، بخاصّة الأمريكيّة منها، وذلك باستنباط طرق في الحكي وفي تشكيل السّرد تكون متأصّلة في تربتهم الحضاريّة والتّاريخيّة والثّقافيّة ومستوحاة منها، كما فعل كبار مخرجي القارّة السّمراء، على غرار السّينغالي عثمان صمبين، والمالي سليمان سيسي، وإدريسا أودراوغو من بوركينافاسو. وقد جعلوا من الثّقافة الشّفويّة الشّعبيّة، ثقافة المُتجوّل الحكواتي، ومن الأناشيد والأغاني والأساطير الإفريقيّة رافدًا حيويًّا يعكس صورة مجتمعاتهم الحقيقيّة.

ثانيًا: جموح التّجريبيّة التي تطبع بعض الأعمال السّينمائيّة السّعوديّة. وإنّ هذا التّوجّه راسخ في الغرب، كما يقول المؤلف، وله ثوابته وأقطابه وإنجازاته وهو يمثّل مدرسة بامتياز. والتّجريبيّة التي تصبو إلى التحرّر من ضوابط السّيناريو وعقدة الحدث وسطوة الشّخصيّات، تبحث عن طرق جديدة في السّرد وعن صياغات أخرى لعلاقتنا بالعالم، متمرّدة على كلّ ما هو تقليدي وخطّي. وإنّ ميل بعض المخرجين السّعوديّين إلى مثل هذا الصّنف من الأفلام ليس عيبًا في حدّ ذاته، لكنّ العيب، كما يرى الهادي خليل، هو أن تؤول معظم هذه الأفلام إلى أمور مبهمة وعصيّة على الفهم، مفكّكة التّركيب والطّرح، وكأنّها تقليعات سرياليّة قادمة من كوكب آخر. فالتّطرّق إلى هموم ميتافيزيقيّة وعبثيّة ووجوديّة، أو إلى هواجس فنّيّة وفكريّة، أمر مشروع، لكن ما الفائدة من أن يكون لديك “فلاسفة” بلا فلسفة؟

يستعرض الناقد التونسي أبرز مشكلات الفيلم السّعوديّ مع الاستدلال بأمثلة مُستفيضة.

التجريب المفرط في السينما يؤدي إلى أمور مبهمة وعصيّة على الفهم.

إيجاد طاقات وكفاءات

ثالثًا: تكدّس المهامّ المنوطة بعهدة مخرج الفيلم، كما تبيّنه الجُذاذات التّقنيّة للكثير من الأفلام السّعوديّة. فالمخرج هو أيضًا مصمّم الدّيكور والإضاءة والملابس وحتّى الماكياج. لا يمكن للمُغرمين بالسّينما والطّامحين إلى ترسيخ خطاهم في هذا المجال، أن يكونوا كلّهم مخرجين. لابدّ أيضًا من إيجاد طاقات وكفاءات متخصّصة في السّيناريو، وهندسة الصّوت، والمونتاج، والإضاءة والدّيكور و”الكاستينج”. كما أنّ بعض السّينمائيّين السّعوديّين الشّبَّان، بحكم غياب هيكل إنتاج مُحترف وشحّة الموارد، تعوّدوا على العمل ضمن حلقة عائليّة ضيّقة، أو بوتقة من الأصدقاء. في مرحلة عودة الرّوح إلى السّينما السّعوديّة، هذا التّمشّي ربّما مفهوم وله مبرّراته، لكن على المدى الطّويل، يمكن أن تكون له تبعات سلبيّة.

رابعًا: الهوّة الشّاسعة بين فتوحات الإنتاج الرّوائي السّعودي، وبخاصّة النّسائي، والمبادرات السّينمائيّة السّعوديّة التي ما زال الكثير منها محتشمًا، ثيميًّا وجماليًّا. وهذا أمر مفهوم، تاريخيًّا، بما أنّ الرّواية السّعوديّة رأت النّور عام 1959، في حين أنّ السّينما لم تنشأ متأخّرة فحسب، وإنّما مرّت أيضًا بظروف قاسية أعاقت مسارها وأجهضته.

رجاء عالم

لكن بصرف النّظر عن هذه العراقيل، فإنّ المكاسب التي حقّقتها الرّواية النّسائيّة السّعوديّة، من خلال أعمال أبرز رموزها، على غرار رجاء عالم ونورة الغامدي وصبا الحرز (اسم مستعار) ورجاء الصّانع وأميمة الخميس، على سبيل الذكر لا الحصر، يمكن أن يستفيد منها المخرجون السّعوديّون، سواء على مستوى إحكام الحبكة السّرديّة، وبناء الشّخصيّات، وتوظيف الأشياء توظيفا فعّالًا، وإعطاء التّجريب معناه الصّحيح، كما جسّدت ذلك رجاء عالم في أوّل رواية لها “أربعة صفر”.

بنية تحتيّة ترفيهيّة

خامسًا: صعوبة مشاهدة الأفلام السّعوديّة في السّعوديّة ذاتها. فباستثناء مهرجان الأفلام السّعوديّة بالدمّام السّنوي، أو مهرجانات محليّة أخرى، أو مهرجانات عربيّة وغربيّة، من العسير الاطّلاع على الأفلام السّعوديّة ومواكبتها. وهي معضلة من شأنها أن تشلّ الحركة النّقديّة التي تحتاج إليها السّينما السّعوديّة أكثر من أيّ وقت مضى.

لابدّ، إذن، علاوة على العروض التّجاريّة المعتادة، أن تُنَظّم عروض دوريّة منتظمة تُخصّص للسّينما السّعوديّة والتّعريف بمخرجيها، عروض تكون مشفوعة بنقاشات وتبادل الآراء عن الأفلام وعن كلّ ما يهمّ الشّأن السّينمائي بالمملكة. لا يُعقل أن تُشيّد قاعات السّينما الفاخرة وتُصرف أموال طائلة لإنشاء بنية تحتيّة ترفيهيّة متطوّرة إذا لم يكن السّينمائيّون السّعوديّون وأبناء البلد والجمهور العريض هم المنتفعين الأوائل من هذه النّهضة النّاشئة.

سادسًا: افتقار الكثير من السّينمائيّين السّعوديّين الشبّان إلى ثقافة سينمائيّة وإلى مرجعيّة فنيّة تنير سبيلهم. فليس معقولًا أن يخوض شابّ هذا الميدان الصّعب والحسّاس دون أن يكون لديه اطّلاع على كلاسيكيّات السّينما العالميّة، بما فيها بعض الرّوائع العربيّة والإفريقيّة، ومن أميركا اللاّتينيّة واليابان.

وإذا كنّا ننتظر من حركة سينمائيّة مليئة بالأمل والتطلّعات والانتظارات، أن تُنوّر العقول وتُنمّي في الشباب الذّائقة الفنيّة، فلابدّ من إنشاء خزينة أفلام يكون دورها تأمين عروض مصحوبة بنقاش، وموكولة إلى منشّطين متضلّعين في هذا المجال، لأبرز أفلام التّراث السينمائي العالمي. وإنّ العديد من السّينمائيّين السّعوديّين لا يطمحون، حاليًا، إلا للمرور إلى الإنجاز، ولا يحلمون إلا بجوائز في مهرجانات دوليّة والاعتراف بهم في الخارج، وهي أمور مشروعة، لكن يتحتّم عليهم أيضًا أن يدركوا أنّ المسار ما زال طويلا وعسيرا.

يجب إنشاء خزينة أفلام يكون دورها تأمين عروض مصحوبة بنقاش.

فاصل اعلاني